إذا كانت المعارضة هي ملح الديمقراطية، فإن الديمقراطية الإيطالية فقدت نكهتها منذ يوم السبت الماضي عندما أعلن ماريو دراغي تشكيلة الحكومة الجديدة التي من المفترض أن تنقذ إيطاليا من عللها المتوطّنة والمستجدة، والتي تلاقت فيها كل الأضداد المتناحرة منذ عقود في المشهد السياسي الذي كان أشبه بساحة حرب أهليّة أنهكت البلد، ووضعته على شفا انهيار اقتصادي وانفجار اجتماعي بدأت بوادره تطلّ وتهدّد بالانتشار مع تفاقم جائحة «كوفيد – 19».
«إنها فرصة العمر التي لن تتكرّر» يقول البعض عن هذه الحكومة التي ولدت من رحم طبقة سياسية عقيمة، لتواجه أخطر أزمة صحية واقتصادية واجتماعية عرفتها إيطاليا منذ قيام الجمهورية الأولى، والتي أمامها أيضاً فرصة نادرة لإصلاح النظام الذي عجزت عنه عشرات الحكومات التي تشكّلت خلال العقود الخمسة المنصرمة.
منذ عشر سنوات عندما كانت إيطاليا على وشك الغرق تحت وطأة تداعيات أزمة عام 2008 المالية، سلّمت قيادها لحكومة تكنوقراط برئاسة ماريو مونتي أقدمت على بعض الإصلاحات التي كان لا بد منها لإنقاذ البلاد من الانهيار المالي والاقتصادي، لكنها خصّبت الأرض لنشوء أكبر تيّار شعبوي في أوروبا ولم تتمكّن من إجراء الإصلاحات اللازمة لتطوير النظام السياسي المتخشّب والإدارة العامة المترهّلة.
سقطت حكومة مونتي بعد عام ونصف على تشكيلها، وعقبتها خمس حكومات أخرى لم يخرج رؤساؤها من صناديق الاقتراع، الأمر الذي رسّخ انعدام الثقة بالطبقة السياسية وقدرتها على توليد الحلول لمعالجة الأزمات ومواكبة التطورات، وثبّت صعود الأحزاب والقوى الشعبويّة موسّعاً مدى تمدّد اليمين المتطرف الذي كان يتغذّى أيضاً من روافد أزمة الهجرة.
وكانت الانتخابات التشريعية الأخيرة التي أجريت في عام 2018 قد أسفرت عن فوز القوى الشعبوية والمناهضة للمشروع الأوروبي، حركة النجوم الخمس وحزب الرابطة، التي تحالفت لتشكيل الحكومة الأولى برئاسة جيوزيبي كونتي حتى صيف عام 2019 عندما خرجت الرابطة عن التحالف، ليشكّل كونتي حكومته الثانية مع النجوم الخمس والحزب الديمقراطي وبقيّة القوى البرلمانية لقطع الطريق على زعيم التحالف اليميني ماتّيو سالفيني، الذي ترجّح كل الاستطلاعات فوزه في انتخابات مبكرة.
لكن ثمّة أسئلة ما زالت تحيّر المراقبين لتفسير هذه التحوّرات التي طرأت على الفيروس السياسي الإيطالي: كيف أصبح هذا البرلمان الذي تناصر أغلبيته العداء للمشروع الأوروبي داعماً بالإجماع لأكثر الحكومات الإيطالية أوروبية؟ وكيف انتقلت إيطاليا في عشرة أيام من كونها أكبر مختبر شعبوي في أوروبا لتبايع الرئيس السابق للمصرف المركزي الأوروبي رئيساً متوّجاً لحكومتها؟ وما الذي فعله دراغي ليحوّل بلاده فجأة من كابوس يقضّ مضاجع عواصم الاتحاد الأوروبي إلى ترنيمة تتغنّى بمحاسن الاتحاد وتضع كل رهانات نهوضها من الأزمة في سلّته؟
للإجابة عن هذه الأسئلة لا بد للعودة إلى نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة، وقراءتها في ضوء التطورات التي طرأت على المشهد السياسي الإيطالي في العقود الثلاثة المنصرمة. في تسعينيات القرن الماضي، بدأ النظام السياسي «التاريخي» في إيطاليا يتخلخل بفعل عدم قدرته المتمادية على التوفيق بين مقتضيات السياسة الوطنية وشروط الانتماء للمشروع الأوروبي، وبخاصة الاقتصادية منها. ومع الأزمة المالية في عام 2008، دخل النظام الثنائي مرحلة الانهيار التام الذي خصّب الحركات المناهضة للمشروع الأوروبي كردة فعل غاضبة لاعتباره العائق الأكبر في وجه التنمية الوطنية. وراح ذلك الغضب يتنامى مع ازدياد الخيبة من المشروع الأوروبي، ويرسّخ تقدّم حركة النجوم الخمس الشعبوية التي حصدت أوّل انتصاراتها الكبرى في عام 2013، ثم صعود اليمين المتطرف الذي بات يشكّل اليوم حسب كل الاستطلاعات القوة السياسية الأولى في إيطاليا. وفي عام 2018، تمكّنت النجوم الخمس والرابطة من الحصول على الأغلبية المطلقة في البرلمان، وشكّلتا أول حكومة ائتلافية برئاسة جيوزيبي كونتي.
في الانتخابات الأوروبية التي أجريت عام 2019، برزت ثلاثة عوامل تفسّر كيف انتقلت إيطاليا اليوم من الحكومة الأشدّ معارضة للمشروع الأوروبي إلى الأكثر تأييداً له. أولاً، الخلاف العميق في هويّة الحزبين حيث حوّل سالفيني الرابطة من حزب انفصالي في الشمال إلى حزب يميني وطني، في الوقت الذي كانت حركة النجوم الخمس التي تأسست على قاعدة آيديولوجية ضعيفة تشهد انقسامات داخلية بين جناحها «اليساري» والتيّار الشعبوي الصرف الذي يجنح نحو المواقف اليمينية. ثانياً، بعد تشكيل المفوضية الأوروبية الجديدة تضافرت مراكز القوى العميقة مع الأحزاب الأوروبية، وانتهزت الفرصة المفاجئة التي أتاحها خروج سالفيني من الحكومة، إلى جانب الأزمة المتفاقمة داخل النجوم الخمس، وطوت صفحة التجربة الشعبوية لتشكّل حكومة جديدة وفقاً لقواعد التوازن السياسي السائد في الدول الأوروبية الأخرى. وثالثاً، جاءت جائحة «كوفيد – 19» التي دفعت الاتحاد الأوروبي إلى تغيير جذري في استراتيجيته من داعية للتقشّف إلى محفّز على الإنفاق العام.
لكن تجربة دراغي الذي هلّلت لوصوله كل العواصم الأوروبية، تحمل مهلكاً أساسياً في تكوينها، حيث إنها ولدت داخل غرف القرارات العليا ولا تتمتّع بالشرعيّة الانتخابية. وهي إذا فشلت، أو إذا كانت دون الفعالية المنتظرة منها، أو إذا لم تحقق المساعدات الأوروبية النتائج المرجوّة وكانت أضرار الجائحة أفدح من المتوقع، فإن إيطاليا قد تدفع ثمناً باهظاً جداً لهذه الإجازة من السياسة.
شوقي الريس
الشرق الأوسط