على الرغم من نجاة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب من الإدانة في محاكمة مجلس الشيوخ، ومسارعته إلى إعلان الانتصار، فإنه لم يحصل على أي عفو يمنعه من الإدانة مستقبلاً، ففي الوقت الذي تنتظر ترمب ملاحقات قضائية في ولايات عدة، تشير وقائع المحاكمة، وما رافقها من تصريحات لاذعة من قيادات بارزة في الحزب الجمهوري تحمله مسؤولية اقتحام مبنى الكابيتول، إلى أن الانقسامات ومشاعر الانزعاج تتصاعد داخل الحزب، بينما يتطلع إلى انتخابات التجديد النصفي عام 2022 وما بعده، فما أبرز التحديات التي يواجهها الحزب الجمهوري؟ وكيف سيواجهها الرئيس السابق وقيادات الحزب؟ وإلى أي مدى يمكن أن تؤثر على حظوظه في الانتخابات المقبلة؟
براءة ملطخة بالإدانة
للمرة الثانية، نال ترمب البراءة، ولم يضيع أي وقت في إعلان النصر والتنديد بمحاكمته باعتبارها من أعظم الملاحقات ذات الدوافع السياسية في التاريخ الأميركي، لكن ترمب الذي خرج من محاكمة العزل العام الماضي، واستغل منصبه للانتقام ممن وجهوا إليه الاتهامات، يجد نفسه الآن في وضع مختلف تماماً، فقد خرج من المنصب بعد ولاية حكم واحدة، وأصبح معزولاً خلف أبواب مغلقة في فلوريدا، وفي ظل مستقبل قانوني غامض، بينما يواجه انتقادات عنيفة جسدها ميتش ماكونيل، أهم قيادات حزبه في الكونغرس، الذي حمله مسؤولية اقتحام مبنى الكابيتول، واعتبر أن ما فعله عار، وأن طريق مقاضاته جنائياً أمام المحاكم مفتوح.
ولم يكن ماكونيل هو الجمهوري الوحيد الذي فعل ذلك، فقد صوت سبعة أعضاء جمهوريين في مجلس الشيوخ لإدانة ترمب، وهو أكبر عدد يصوت ضد رئيس من الحزب نفسه في محاكمة عزل على مدى التاريخ الأميركي منذ محاكمة عزل الرئيس أندرو جاكسون عام 1868، وقبل أسابيع صوت 10 جمهوريين في مجلس النواب بإدانته، وعلى الرغم من تصويت 43 جمهورياً في مجلس الشيوخ ببراءته، فإن بعضهم كان لهم رد فعل مشابه لماكونيل، فقد اعتبر السيناتور شيلي مور كابيتو أن تصرفات ترمب وردود فعله كانت مشينة، وسيحكم عليه التاريخ بقسوة، كما أوضح السيناتور روب بورتمان أن ترمب فعل أشياء متهورة، وشجع الغوغاء، الأمر الذي جعله مداناً من الناحية الواقعية أمام الرأي العام الأميركي على الرغم من براءته الظاهرية.
الابتعاد عن ترمب
كانت تصريحات ماكونيل أوضح إشارة حتى الآن إلى أنه يريد توجيه الحزب بعيداً عن ترمب، في وقت كانت قيادات أخرى تدفع في الاتجاه نفسه، مثل نيكي هايلي، سفيرة الولايات المتحدة السابقة لدى الأمم المتحدة، التي ينظر إليها على أنها مرشحة رئاسية محتملة لعام 2024، إذ أصدرت توبيخاً غير عادي لترمب، واعتبرت أنه ضلل الجمهوريين وخذلهم وسار في الطريق الخطأ، وأنه كان من الخطأ اتباعه.
لكن الحقيقة التي لا يغفل عنها كثيرون، تؤكد أن تصويت 43 من أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين لصالح التبرئة، إلى جانب 90 في المئة من أعضاء مجلس النواب الجمهوريين، يدل على أن المشاعر المؤيدة لترمب أكثر أهمية من حقيقة أن سبعة أعضاء جمهوريين في مجلس الشيوخ اختاروا الإدانة.
وعلاوة على ذلك، فإن أسباب الإدانة التي توفرت للجمهوريين السبعة لم تتوفر لغيرهم من باقي الأعضاء في المجلس، إذ إن اثنين منهم أعلنا أنهما سيتقاعدان، بينما أعيد انتخاب ثلاثة آخرين قبل أسابيع، ولا يزال أمامهم ست سنوات أخرى حتى يتعرضوا لضغوط مواجهة الناخبين، في حين تتمتع ليزا موركوفسكي وميت رومني باستقلالية وبقاعدة قوية للغاية خارج نطاق الحزب الجمهوري.
الصوت الرائد
وتدل نتيجة التصويت وسط الأدلة العديدة التي قدمها الادعاء خلال المحاكمة على أن ترمب ما زال يحكم سيطرته على الحزب الجمهوري، ويؤشر إلى أن الحزب أصبح حزب ترمب وليس الحزب الجمهوري، بعد أن سيطر الرئيس السابق على القواعد الحزبية ودفعها إلى إدانة وتوبيخ كل من دانه من الجمهوريين في المحاكمة، وكان آخرهم بيل كاسيدي، سيناتور لويزيانا، الذي وجه له الحزب الجمهوري في الولاية توبيخاً بعد ساعة واحدة من التصويت في المحاكمة، ما يعني أن الولاء الشخصي لترمب أصبح أكثر أهمية لدى القواعد الحزبية من الولاء للحزب.
ولهذا السبب يقول جمهوريون آخرون إن الرئيس السابق يجب أن يظل الصوت الرائد في الحزب، وهو ما أعلنه السيناتور ليندسي غراهام من أن الحزب يحتاج إلى ترمب ولا يمكن المضي قدماً من دونه في انتخابات 2022.
ولكن لماذا أعلن الجمهوريون ولاءهم لترمب؟ ولماذا يستمرون في الدفاع عن رجل خسر التصويت الشعبي بأكثر من سبعة ملايين صوت؟ وهو أيضاً الذي تسببت تصريحاته المتهورة بالتشكيك في نزاهة الانتخابات في خسارة الجمهوريين السيطرة على مجلس الشيوخ، وهو الذي تسبب في خروج عشرات الآلاف من أعضاء الحزب الجمهوري خلال الأسابيع التي أعقبت اقتحام الكونغرس؟
هناك تفسيرات مختلفة ومتداخلة في بعض الأحيان، فبالنسبة للبعض تتعلق المسألة بالطموح السياسي، فهم يريدون كسب ولاء أنصار ترمب، الذين يشكلون الجزء الأكبر من قاعدة الحزب الجمهوري، لكن بالنسبة لعدد آخر ممن ربما فكروا في إدانته، هو إدراكهم أن مواجهة الرئيس السابق قد تجعل الحياة مزعجة للغاية وخطيرة بالنسبة لهم، ما يعرضهم لمخاطر كثيرة أبرزها التحديات الانتخابية ضد مرشحين آخرين يؤيدهم ترمب، بالتالي إمكانية خسارة مقاعدهم التشريعية، أما بالنسبة للبعض الآخر، فقد يتعلق الأمر بدوافع كراهية اليسار أو الرغبة في الاصطفاف مع قبيلة ترمب السياسية التي تضم الزملاء والأصدقاء.
تأثير القاعدة الشعبية
ولأن الناخبين في الولايات ذات الأغلبية الجمهورية هم أتباع ترمب، وليس هؤلاء السياسيين في واشنطن، يصعب التصديق بأن السياسيين من الحزب الجمهوري لن يخضعوا لهذا التأثير الكبير من قواعد الحزب المحاصرة بقوة في زاوية ترمب، ولهذا سيظل منخرطاً في العملية السياسية للحزب الجمهوري لفترة ليست بالقصيرة، وقد تتولد عن ذلك معارك سياسية طبيعية مختلفة.
ولا يوجد سبب وجيه للاعتقاد أن الرئيس السابق وشعبويتة المحافظة ستختفي في أي وقت قريب، وبخاصة بعد أن قال في لحظة إعلان براءته في المجلس إن حركته السياسية “بدأت لتوها” لتحقيق وعده بإعادة أميركا إلى عظمتها من جديد.
ويشير استطلاع للرأي إلى أن 73 في المئة من ناخبي الحزب الجمهوري يعتقدون أنه من المهم إلى حد ما أن تظل موالياً لترمب، بينما أكد نحو ثلث الجمهوريين أنهم سينضمون إلى حزب سياسي جديد إذا شكل ترمب واحداً، وأوضح 37 في المئة أنهم قد ينضمون إلى هذا الحزب، كل ذلك يؤكد أن القاعدة الشعبية هي التي تؤثر على الحزب وأن هذه القاعدة الشعبية لا تزال تحب ترمب.
مقاومة الرئيس السابق
وعلى الرغم من أن تصريحات ماكونيل تشير إلى أن الجمهوريين لا يمكنهم استعادة مجلس الشيوخ ومجلس النواب من دون إبعاد أنفسهم عن دونالد ترمب، فإن هذه المواقف تكررت من خمس سنوات، حين كانت هناك قناعة مطلقة بين الجمهوريين العاديين بأن الرئيس السابق سيختفي خلال الانتخابات الرئاسية التمهيدية بين المرشحين الجمهوريين الأوليين.
ومع ذلك، ظهرت دلائل قوية عن حركة مقاومة ضد التيار الذي يقوده ترمب في الحزب الجمهوري، وشارك 120 من النشطاء والمتخصصين الاستراتيجيين والمسؤولين السابقين في الحزب الجمهوري في اجتماع عبر تطبيق “زوم” الأسبوع الماضي لمناقشة إمكانية تأسيس حزب جديد يمثل يمين الوسط في الحزب، أو على الأقل تشكيل فصيل جديد داخل الحزب الجمهوري من دون الانفصال عنه بغرض التنافس مع ما يرون أنه حزب جمهوري متطرف بشكل متزايد.
رفض الانشقاق
غير أن الاتجاه العام لدى معظم المشاركين يتجه إلى رفض فكرة الانشقاق لأن النظام الانتخابي الأميركي لا يخدم وجود حزب ثالث كبير ينافس الحزبين الكبيرين الجمهوري والديمقراطي، ومن ثم سيعني الخروج من الحزب الانتحار عملياً، ومع ذلك، فضل 40 في المئة من المشاركين فكرة الحزب المنشق، على الرغم من اقتناعهم بأن تشكيل حزب ثالث كبير من شأنه أن يهدد آمال المحافظين في استعادة مجلس النواب ومجلس الشيوخ والبيت الأبيض في السنوات المقبلة.
وفي وقت يخطط المشاركون لعقد مزيد من الاجتماعات والمناقشات حول الفكرة خلال الأسابيع والأشهر المقبلة، فضل العدد الأكبر تشكيل جناح داخل الحزب الجمهوري، على غرار حركة حزب الشاي التي ظهرت في الحزب منذ أكثر من عقد.
ويعتقد معارضو ترمب في الحزب الجمهوري، أنه حتى لو كان كثير من الناس في الحزب ما زالوا يدعمون الرئيس السابق، فمن الواضح أن الولاء لشعار واسم ترمب قد تلقى ضربة هائلة، ولهذا فإن هناك فرصة سانحة لاستعادة الأشخاص الذين شعروا بالسخط حيال الطريقة التي تم بها التعامل مع انتخابات 2020.
ولم تنجح فكرة تقسيم الحزب الجمهوري أيضاً بين عدد ممن دانوا ترمب في مجلس النواب في الحزب مثل آدم كينزينغر وليز تشيني، لأنه سيضر بالقاعدة الانتخابية من المحافظين، فضلاً عن العقبات المنهجية التي تحول دون أن يكون هذا الجهد قابلاً للتطبيق.
ولم يكن صخب تشكيل حزب ثالث فحسب بين المنتمين إلى يمين الوسط في الحزب الجمهوري، ذلك أن ترمب نفسه طرح فكرة تشكيل “حزب وطني” جديد الشهر الماضي، بينما كان يستعد لمغادرة البيت الأبيض، لكن قادة الحزب الجمهوري ألغوا الفكرة إلى حد كبير، كما اتخذت حملة ترمب خطوات لإبعاد نفسها عن الفكرة أيضاً.
تمرد داخلي
ومع ذلك، فإن الحديث عن حزب ثالث، يسلط الضوء على الانقسامات في الحزب الجمهوري التي تفاقمت في الأسابيع منذ السادس من يناير (كانون الثاني) الماضي.
ويرفض أنصار يمين الوسط الرأي القائل إن حركة تمردهم داخل الحزب الجمهوري قد تلحق الضرر بأهداف المحافظين في استعادة السلطة في واشنطن، لأنهم يعتبرون أن الاتجاه الحالي للحزب الجمهوري لم يترك للمحافظين التقليديين والناخبين الوسطيين أي ملاذ آخر بعد أن أصبح الحزب الجمهوري لا يمثلهم الآن.
فرص ترمب الضائعة
ويعتقد هؤلاء أنه على الرغم من تبرئة ترمب فمن المحتمل أن تكون أعمال الشغب في الكابيتول قد أثرت عليه سياسياً، كما يشير بعض أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين إلى أن محاكمة ترمب أحبطت بشكل فعال أي فرصة للرئيس السابق في العودة السياسية في المنافسة على المنصب الرئاسي لعام 2024.
ومع ذلك، يظل السؤال الأهم بالنسبة للمحافظين من يمين الوسط هو، ما الذي يمكن فعله لإنقاذ الحزب الجمهوري؟
حزب جمهوري جديد
يقول عديد من المحللين الاستراتيجيين في الحزب الجمهوري إن الأمر يحتاج إلى قادة على استعداد للاعتراف بالخطأ، وأن يتخذوا خطوات لعلاجه، وهكذا يصبح التغيير ضرورياً بما في ذلك وضع إطار فكري جديد للحزب، كما حدث في الحزب الديمقراطي في عهد بيل كلينتون، وكما حدث مع حزب العمال في بريطانيا في عهد توني بلير في التسعينيات، وهو وضع أجندة سياسية لمواجهة تحديات العالم الحديث، وتغيير الطريقة التي يفكر بها الحزب الجمهوري كي يكتسب قوة دفع جديدة.
وعلى الرغم من أن هذه الأفكار قد تبدو طموحة، أو غير قابلة للتحقيق، فإن هذا ما يجب أن يحدث في مرحلة ما بعد ترمب مع الاهتمام بوضع بنية تحتية سياسية تدعم المحافظين في السباقات الانتخابية الأولية بحيث يتسمون بالمسؤولية والجدية الفكرية والتحدث عن احتياجات البلاد، وليس فحسب التهديدات التي يشكلها اليسار، مع مواجهة الأفكار اليمينية المتطرفة ونظريات المؤامرة التي سيطرت على أنصار ترمب.
طارق الشامي
اندبندت عربي