قد يبدو السؤال مستغربا أو حتى مستهجنا، خصوصا لدى القارئ المتابع والمدرك لحقيقة العلاقات الأميركية الإسرائيلية التي كانت وما تزال تشكل استثناء يخرج عن النمط المألوف في تاريخ العلاقات الدولية، فهناك ما يشبه الإجماع على أن للعلاقات الأميركية الإسرائيلية خصوصية تميزها عن كل أنواع العلاقات الدولية الثنائية. بل إن بعضهم يرى أن من الخطأ أصلا اعتبار العلاقة التي تربط الولايات المتحدة بإسرائيل جزءا من علاقاتها الدولية أو سياستها الخارجية، لأن الأصح، من وجهة نظرهم، اعتبارها من قبيل العلاقات الداخلية التي تربط بين الحكومة الفيدرالية في واشنطن وحكومة أية ولاية أميركية أخرى. وقد بات من المسلم به أن الولايات المتحدة الأميركية، أيا كان شكل الإدارة التي تقودها، لا تتعامل مع حكومة إسرائيل باعتبارها حكومة تمثل دولة أجنبية، وإنما باعتبارها جزءا من المجتمع الأميركي نفسه. ومع ذلك، يُظهر الفحص الموضوعي المجرّد للمسار التاريخي للعلاقات الأميركية الإسرائيلية بجلاء أنه لا يخلو من منعطفاتٍ تشهد تباينا شديدا في المصالح بين البلدين، وبالتالي تباينا أيضا في زوايا الرؤية للأمور ذات الاهتمام المشترك، يمكن أن يصل، أحيانا، إلى حد التناقض أو حتى الصدام. وأذكّر القارئ هنا بواقعتين تؤكّدان هذا المعنى:
الأولى: جرت عام 1956، حين تواطأت إسرائيل مع كل من فرنسا وبريطانيا لارتكاب جريمة العدوان الثلاثي على مصر، ولأن هذا التواطؤ تم من وراء ظهر الولايات المتحدة، وفي وقت كانت فيه الأخيرة تخطط لوراثة الاستعمار التقليدي في منطقة الشرق الأوسط، ولتطويق الاتحاد السوفييتي بسلسلة من الأحلاف العسكرية، فقد انتهزت الفرصة للوقوف في وجه العدوان، ولم تتردّد في ممارسة ضغوط مكثفة على إسرائيل، لحملها على الانسحاب من سيناء، وهو ما تم بالفعل، على الرغم من أن إسرائيل كانت قد أعلنت، بالفعل، عن ضم سيناء إليها.
الخلاف بين إسرائيل وإيران لا يعود فقط إلى البرنامج النووي الإيراني، وإنما يعود أساسا إلى رفض النظام الإيراني الحالي كل ما تمثله إسرائيل في المنطقة
الثانية: جرت عام 1991. حين تمنّعت إسرائيل عن قبول دعوة للمشاركة في مؤتمر مدريد للسلام. ولأن الولايات المتحدة بدت، في ذلك الوقت، حريصة على الوفاء بوعد كانت قد قطعته على نفسها بالدعوة إلى مؤتمر دولي يعالج قضايا الصراع العربي الإسرائيلي دفعة واحدة، خصوصا بعد قبول مصر وإسرائيل المشاركة في التحالف الدولي الذي قادته لتحرير الكويت، فإنها لم تتردّد وقتها في ممارسة ضغوط مكثفة على إسرائيل، وصلت إلى حد التهديد بإلغاء ضمانات قروض بمليارات الدولارات، وذلك لحملها على المشاركة في المؤتمر، وهو ما تم بالفعل.
اليوم، وبعد خروج ترامب من البيت الأبيض ودخول جو بايدن، يبدو أن العلاقات الأميركية الإسرائيلية تتجه نحو الدخول في مرحلة جديدة من تناقض المصالح والأهداف. صحيحٌ أن بايدن صديق قديم لإسرائيل ولنتنياهو شخصيا، بل لم يتردد في أن يصف نفسه بـ”الصهيوني”، انطلاقا من قناعته بأنه ليس من الضروري أن يكون الانسان إسرائيليا كي يصبح صهيونيا، غير أن علينا، في الوقت نفسه، ألا نغفل أن نظرته إلى إسرائيل تختلف اختلافا كبيرا عن نظرة ترامب وحاشيته، فمن الواضح أن نظرة الأخير كانت مدفوعةً باعتبارات يغلب عليها الطابع العقائدي أو الديني، بينما يغلب على نظرة بايدن الطابع السياسي البراغماتي. من هنا قناعتي بأن السياسات الأميركية والإسرائيلية في عهد بايدن ستتابين تباينا كبيرا حول عدد من الملفات، أهمها الخاص بالبرنامج النووي الإيراني، والملف الخاص بالصراع العربي الإسرائيلي. ولا أستبعد أن يصل التباين إلى حد التناقض الذي قد يتطوّر إلى صدام، خصوصا إذا تمكّن نتنياهو من الاحتفاظ بمقعده رئيسا للوزراء، عقب الانتخابات التشريعية المقرر أن تجرى خلال الشهر المقبل (مارس/ آذار).
للتباين في الموقفين، الأميركي والإسرائيلي، بشأن كيفية معالجة أزمة البرنامج النووي الإيراني، جذور عميقة، تعود إلى اختلاف رؤيتي واشنطن وتل أبيب إلى كيفية التعامل مع النظام الذي استقر في إيران عقب نجاح ثورتها الإسلامية في نهاية سبعينيات القرن الماضي. صحيحُ أنهما يشتركان معا في كراهيتهما النظام، وينسقان معا لزعزعة استقراره، بل ويسعيان لإطاحته، غير أن الوضع الجيوسياسي يفرض على كليهما التعامل معه من منطلقاتٍ مختلفة، فبينما تتعامل معه الولايات المتحدة بمنطق الدولة العظمى، ذات المصالح الكونية التي ينبغي أن تحرص عليها، تتعامل معه إسرائيل باعتباره تهديدا وجوديا، فهي لم تنس أبدا أنه النظام الذي أزاح الشاه، أهم حليف لها في المنطقة، وطرد السفير الإسرائيلي من طهران، وحوّل مقر إقامته إلى سفارة فلسطينية، بل وجعل من إيران دولة تقود محورا إقليميا لمقاومة المشروع الإسرائيلي في المنطقة. ولأن إسرائيل ترى أن محور المقاومة الذي تقوده إيران يشكل العقبة الرئيسية التي تحول دون تمكينها من فرض شروطها للتسوية وتصفية القضية الفلسطينية نهائيا، فمن الطبيعي أن ترى في النظام الإيراني تهديدا وجوديا غير قابل للتفاهم معه. لذا، يمكن القول إن الخلاف بين إسرائيل وإيران لا يعود فقط إلى البرنامج النووي الإيراني، وإنما يعود أساسا إلى رفض النظام الإيراني الحالي كل ما تمثله إسرائيل في المنطقة.
ليس بايدن في وضع يمكنه من إعادة النظر في قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس
في سياقٍ كهذا، ومع تراكم مظاهر الفشل في إطاحة النظام الإيراني، أو الحدّ من تمدّد نفوذه في المنطقة، من الطبيعي أن تسعى إسرائيل دائما إلى توسيع الفجوة بين النظامين، الإيراني والأميركي. ولأن هذه المساعي وصلت، في عهد الرئيس أوباما، إلى طريقٍ مسدود، خصوصا حين أقدم أوباما مع مجموعة 5+1 على إبرام صفقةٍ حول البرنامج النووي الإيراني في إبريل/ نيسان عام 2015، فقد كان من الطبيعي أن تلقي إسرائيل بكل ثقلها لإجهاض هذه الصفقة، وللحيلوله دون إتمامها. بل لقد وصل الأمر إلى حد إقدام نتنياهو على تحدّي الرئيس أوباما في عقر داره، ولم يتردّد في مهاجمته، في خطابٍ ألقاه أمام الكونغرس بمجلسيه، في مارس/ آذار 2015. وحين خسر نتنياهو الجولة، بدأ يراهن على ترامب الذي وعد في حملته الانتخابية بالانسحاب من الاتفاق. لذا حين فاز ترامب، وانسحب فعلا من الاتفاق النووي، وراح يتبنّى سياسة العقوبات القصوى في مواجهة إيران، أحس نتنياهو بالنشوة والنصر، وعادت السياسة الأميركية لتتطابق من جديد مع السياسة الإسرائيلية، غير أن صمود إيران في وجه العقوبات الأميركية، من ناحية، ورحيل ترامب من البيت الأبيض بعد فترة ولاية واحدة، من ناحية ثانية، شكلا انتكاسة جديدة لنتنياهو، وقلبا مفردات المعادلة من جديد. ولأن إدارة جو بايدن تعدّ، بشكل أو بآخر، امتدادا لإدارة أوباما، يتوقع أن تعود العلاقات الأميركية الإسرائيلية إلى النقطة التي كانت عندها قبيل رحيل أوباما من البيت الأبيض، وهي نقطة تقترب تدريجيا من احتمالات الصدام.
يبدو الأمر مختلفا حول ملف الصراع العربي الإسرائيلي، ففي الظاهر تبدو مساحة التباين بين السياسيتين، الأميركية والإسرائيلية، حول طريقة إدارة هذا الملف أقل وضوحا وأضيق نطاقا، غير أن الأمور تبطن بأكثر مما تفصح، فمن المعروف أن نتنياهو صفق طويلا لترامب، حين طرح الأخير “صفقة القرن” التي حصل بموجبها على اعتراف أميركي بسيطرة إسرائيل على القدس موحدة، وتم نقل السفارة الأميركية إليها بالفعل، كما حصل على اعتراف أميركي بسيادة إسرائيل على الجولان السورية، وبحق إسرائيل في ضم الكتل الاستيطانية الكبيرة ومنطقة غور الأردن. ثم عاد نتنياهو، وصفق أكثر لترامب، حين بدأ الأخير يمارس ضغوطا هائلة على السلطة الفلسطينية لتقبل “صفقة القرن”، وحين راح يمارس ضغوطا مماثلة على الدول العربية، لكي تشرع في تطبيع علاقاتها مع إسرائيل، من دون انتظار للانسحاب أو لوفاء إسرائيل بالتزاماتها تجاه الحقوق الفلسطينية. لذا كان من الطبيعي أن يمثّل سقوط ترامب في انتخابات الرئاسة الأميركية صدمة شديدة لنتنياهو، لأن هذا السقوط أحال أغلب المكتسبات الإسرائيلية إلى مجرد حبر على ورق.
إسرائيل ترى أن محور المقاومة الذي تقوده إيران يشكل العقبة الرئيسية التي تحول دون تمكينها من فرض شروطها للتسوية
صحيحٌ أن بايدن ليس في وضع يمكنه من إعادة النظر في قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس، وليس أمامه سوى الترحيب بخطوات التطبيع التي تمت مع بعض الدول العربية، وربما يشجع آخرين على الانضمام إليها، غير أنه لن يستطيع، سياسيا أو أخلاقيا، تقديم شيك على بياض لإسرائيل كما فعل ترامب. لذا، لن يكون بمقدور نتنياهو، حتى لو فاز في الانتخابات المقبلة، ضم المستوطنات أو غور الأردن أو مواصلة عملية الاستيطان بالوتيرة القديمة نفسها. وربما يكون من المفيد هنا أن نذكر بقرار مجلس الأمن رقم 2334 الذي يدين الاستيطان ويحرّمه، وقد اتخذ في شهر ديسمبر/ كانون الأول 2016، أي قبل أيام قليلة من انتهاء فترة الولاية الثانية لأوباما الذي رفض استخدام حق النقض (الفيتو) للحيلولة دون صدوره، وليس من المستبعد أبدا أن يستخدم جو بايدن هذا القرار أداة للضغط على نتنياهو.
مما تقدّم سوف يجد جو بايدن نفسه في موقفٍ لا يحسد عليه، فهو مطالب، من ناحية، بالعودة إلى الاتفاق الخاص بالبرنامج النووي الإيراني، لكن إسرائيل لا تريده أن يفعل، وسوف تقاوم خططه للعودة بكل ضراوة. وهو مطالبٌ، من ناحية ثانية، بالعمل على إحياء المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية على أساس الالتزام بحل الدولتين، بدلا من صفقة القرن، لكن إسرائيل لا تريده أن يفعل، وسوف تقاوم خططه على هذا الصعيد أيضا بكل ضراوة. والخيارات المتاحة أمام بايدن ليست كثيرة. ففي كلتا الحالتين، ولكي يثبت مصداقيته السياسية والأخلاقية وحرصه الحقيقي على أن يستعيد للولايات المتحدة هيبتها المفقودة في كل العالم، عليه أن يكبح جماح إسرائيل. بعبارة أخرى، بات على بايدن أن يدرك أنه لن يكون في مقدوره ممارسة سياسية خارجية أميركية مختلفة عن التي مارسها ترامب. وفي مقدوره إعادة إسرائيل إلى حجمها الحقيقي، وتحويلها دولة عادية راغبة في صنع سلام حقيقي مع جيرانها، فهل يستطيع جو بايدن، بل هل يجرؤ؟
حسن نافعة
العربي الجديد