مخاوف من تفاقم الأوضاع الاقتصادية بالسودان بعد تحرير سعر صرف الجنيه

مخاوف من تفاقم الأوضاع الاقتصادية بالسودان بعد تحرير سعر صرف الجنيه

بمزيج من الخوف والقلق استقبل السودانيون قرار الحكومة المفاجئ إجراء تعديلات على سعر الصرف الرسمي للجنيه مقابل العملات الأجنبية.

وتحركت الحكومة في محاولة لمحاصرة عديد من الأزمات التي عصفت بالاقتصاد السوداني على مدى أعوام، على رأسها وجود أكثر من سعر للعملة مما أدى لانهيارها، علاوة على عدم قدرتها على الحصول على دعم المؤسسات الدولية في ظل انخفاض قيمة الجنيه السوداني.

وأصدر بنك السودان المركزي اليوم الأحد تعليمات للبنوك لتوحيد سعر الصرف الرسمي والموازي، وترك للبنوك تحديد السعر الذي تراه مناسبا والتخلي عن السعر التأشيري الرسمي الذي كان سائدا حتى السبت بواقع 55 جنيها للدولار.

وفور إصدار التعميم من البنك المركزي سارعت البنوك والمصارف إلى تبديل لوحاتها بالإعلان عن أسعار جديدة بواقع 375 جنيها لشراء الدولار الواحد و393 جنيها لبيعه مقابل 451 جنيها لشراء اليورو و474 جنيها لبيعه، وارتفعت تبعا لذلك بقية العملات بنحو متفاوت.

وكانت الأرقام المعلنة رسميا في البنوك مفاجئة للمتعاملين في الأوساط المالية بالسوق الموازي، حيث تم طرحها مرتفعة عن الأرقام المتداولة لديهم بزيادة غير كبيرة، لكنها أشاعت حالة من الارتباك لبضع ساعات، حاول بعدها تجار السوق الموازي استعادة السيطرة وشرعوا في الإعلان عن زيادات لمجاراة الوضع الجديد.

وتحاشى مسؤولون حكوميون ظهروا في مؤتمر صحفي منتصف نهار السبت إطلاق مصطلح “التعويم” على الإجراءات الجديدة، واتفقوا على أنها “تحرير لسعر الصرف” و”ضرورة قصوى لإصلاح المسار الاقتصادي”.

وتعويم العملة هو جعل سعر صرفها محررا بشكل كامل، ولا تتدخل الحكومة أو البنك المركزي في تحديده بشكل مباشر، وتتركه لآلية العرض والطلب التي تسمح بتحديد سعر صرف العملة الوطنية مقابل العملات الأجنبية.

ويقول البنك المركزي السوداني إن السياسات الجديدة من شأنها توحيد واستقرار سعر الصرف وتحويل الموارد من السوق الموازي إلى السوق الرسمي واستقطاب تحويلات السودانيين العامليين بالخارج وتدفقات الاستثمار الأجنبي، وتساهم كذلك في تطبيع العلاقات مع مؤسسات التمويل الإقليمية والدولية والدول الصديقة بما يضمن استقطاب تدفقات المنح والقروض وتحفيز المنتجين والمصدرين والقطاع الخاص والحد من تهريب السلع والعملات.

ويأمل المركزي كذلك من تطبيق هذه السياسات سد الثغرات لمنع استفادة المضاربين من وجود فجوة بين السعر الرسمي والسعر في السوق الموازي، والمساعدة في العمل على إعفاء ديون السودان الخارجية بالاستفادة من مبادرة الدول الفقيرة المثقلة بالديون “هيبك” (HIPC).

مخاوف من تفاقم الوضع
ورغم ذلك يثير القرار المتخذ في ظل وضع اقتصادي صعب مخاوف السودانيين من تأثيرات كبيرة وخانقة تنعكس على ارتفاع جنوني في أسعار السلع والخدمات.

وضجت وسائل التواصل الاجتماعي بالتعبير عن كثير من الهواجس والتحليلات، كما تعترف الحكومة بالآثار السالبة الكبيرة التي ستخلفها هذه الإجراءات، وتتحدث عن معالجات ممكنة للتخفيف من وطأتها.

ويقول الخبير الاقتصادي ورئيس اللجنة الاقتصادية بتحالف قوى الحرية والتغيير -الائتلاف الحاكم- الذي ظل يعارض سياسات الحكومة، إن الأخيرة لم تكشف عن أي احتياطات لاتخاذ القرار، وإن هناك إصرارا على الرضوخ لطلبات البنك الدولي حسب برنامج المراقبة، حيث ينتظر أن يزور فريق المراقبة للبنك الدولي الخرطوم مطلع مارس/آذار المقبل ويرفع تقريره للإدارة التنفيذية، لافتا إلى أن الحكومة كانت نفذت الاشتراطات الأخرى برفع الدعم عن الوقود والكهرباء، وأنها حاليا تقرر تحرير سعر الصرف تجاوبا مع تلك الوصفة.

ويوضح عبد الغني للجزيرة نت أن ما طبق هو “التحرير الجزئي المتحكم فيه”، وهو ذات ما أطلقت عليه الحكومة السابقة “سعر الصرف المرن المدار” دون أن تفلح في تحقيق نتيجة عندما حددت 47 جنيها للدولار كسعر صرف رسمي، لكن السوق الموازي طرح وقتها 52 جنيها.

ويضيف “هذه قفزة في المجهول وتجاوز للموازنة، وتنسف كل إيجابياتها مثل تحقيق نمو 1%، علما أن النمو سيتقلص الآن إلى -4%، فضلا عن أن خطط تحجيم التضخم عند 95% لا يمكن تحقيقها”.

ويعتقد الخبير أن أخطر ما في هذه السياسات هو الارتفاع الكبير الذي سيمتد إلى أسعار السلع المحلية والمستوردة لمستويات قياسية، مما يعني زيادة الفقر كمّا ونوعا، كما ستدخل قطاعات كبيرة دائرة الفقر، فضلا عن زيادة البطالة وقلة الإيرادات الجمركية والضريبية بزيادة التهرب الضريبي.

بدوره يقول الخبير المالي هيثم فتحي إن قرار تحرير العملة من الناحية التطبيقية “لن يغيّر واقع شح العملات الأجنبية، كما لن يغيّر شيئا بالنسبة للمصارف، لأن العملات الأجنبية لن تكون متوفرة إلا في السوق الموازي، وإن نظام تثبيت سعر الصّرف هو سياسة يمكن للدول النامية اتّباعها لفترة وجيزة بهدف استقطاب رؤوس الأموال وخلق الثقة، ولكن هذه السياسة المستمرة منذ العام 2011 أدّت إلى تضخم القطاع العام وزيادة الإنفاق العام، ووضع السياسة النقدية في خدمة السياسة المالية”.

فقبل البدء في تعويم سعر الصرف، يقول فتحي للجزيرة نت، كان ينبغي على الحكومة وضع خطة واضحة، تبدأ بخريطة طريق، ثمّ في التفاوض مع صندوق النقد الدّولي، بجانب شبكة أمان للطبقات الفقيرة. كما يشدد على أن عامل الثقة ضروري جدّا حتى لا يؤدي التعويم إلى خروج الأموال من البلاد.

وفي منشور على فيسبوك هنأ وزير المالية الأسبق إبراهيم البدوي الحكومة لاتخاذ قرار توحيد سعر الصرف مع تحذيره من انعكاسات قال إنه يجب التحسب لها، فنظام سعر الصرف “المعوَم”، كما يوضح هو، أفضل خيارٍ متاحٍ لإعادة التوازن للعملة الوطنية وتقليص العجز الهيكلي في الحساب الجاري وتوحيد سعر الصرف والقضاء على السوق الموازي للنقد الأجنبي في ظل قلة الاحتياطي المتاح للبنك المركزي.

ويحذر البدوي من أن التعويم قد يحمل معه مخاطر السقوط الحر لسعر الصرف والتضخم الانفجاري إذا لم يتم دعمه باستيفاء شرطين أساسيين: الأول أن يٌمنع تمويل المصروفات وعجز الموازنة بصورة عامة عن طريق الاستدانة من بنك السودان بصورة عشوائية وغير مبرمجة، وهذا يتطلب تقليص عجز الموازنة إلى أقصى حد وكذلك توفير قنوات تمويلية غير تضخمية لإدارة السيولةً. والثاني أن تتحول الدولة إلى بائع صافٍ للنقد الأجنبي لتمويل واردات السلع الإستراتيجية بواسطة القطاع الخاص.

ويؤكد أن هذين الشرطين بالغا الأهمية لنجاح التعويم حسب النماذج النظرية لاقتصاد سعر الصرف وتجارب الدول التي نجحت في برامج إصلاح اقتصادي مشابهة.

المصدر : الجزيرة