نشرت صحيفة “التايمز” مقالا لروجر بويز بعنوان “هل يمكن أن يكون بوتين صانع سلام في الشرق الأوسط؟”، قال فيه إن الكرملين يقيم علاقة منذ أكثر من نصف قرن مع عائلة الأسد التي تحكم سوريا، أولا مع الأب حافظ ثم ابنه بشار. وهي علاقة ممهورة بالدم، وفي هذه الحالة، لو أطيح ببشار غدا، فلن يتردد بوتين في أن يحيطه بالعناية. وربما منحه “داشا” أو منزلا ريفيا خارج موسكو وخصص له من يقومون بخدمته والتسوق له، وفريق حراسة مسلحا لكي يمنع المحكمة الجنائية الدولية وأعداء آخرين من الوصول إليه.
ومع ذلك، فالعلاقات بين بوتين والأسد، وكلاهما في السلطة منذ عام 2000، لا يمكنها وبالكامل تفسير الأحداث الغامضة الأخيرة. وأولها، التوسع بدرجات سريعة في القاعدة الجوية العسكرية الروسية في حميميم قرب اللاذقية، حيث خصص السوريون في العام الماضي قطعة أرض إضافية ليتم إنشاء مدرج جديد فيها. وتشير تقارير إلى أن المدرج الثاني من أجل تمكن القاذفات الإستراتيجية من استخدامه. وتضم قاعدة حميميم كذلك وحدة تجسس متطورة تابعة للاستخبارات الروسية وحظائر طائرات المحصنة لحماية عشرات الطائرات من هجمات الطائرات بدون طيار. وتعد القاعدة المركز العصبي للدفاع الجوي السوري. والسؤال الآن: “من يحتاج إلى مقاتلات استراتيجية في وقت تعيش فيه الحرب الأهلية في سوريا أهدأ أوقاتها منذ عقد؟”.
ويعتقد الكاتب أن هناك لغزا آخر غير توسيع القاعدة العسكرية باللاذقية، وهو وساطة بوتين في عملية تبادل للأسرى بين سوريا وإسرائيل. فقد تمت مبادلة راعيين سوريين بامرأة إسرائيلية حققت معها المخابرات السورية بعد أن دخلت إلى قرية درزية في الجولان في وقت سابق من هذا الشهر.
وجاءت وساطة بوتين مقابل هدية كريمة وافقت فيها إسرائيل على شراء كميات من لقاح سبوتنيك الروسي المضاد لكوفيد-19، بقيمة 1.2 مليون دولار لتوزيعه في سوريا.
ويعتقد بويز أن بوتين يحاول تأكيد دوره كلاعب قوي في الشرق الأوسط، مستفيدا من الفجوة التي خلفها تراجع الولايات المتحدة من المنطقة. ويرى الكاتب أن فك الولايات المتحدة علاقتها بالمنطقة والذي بدأ في عهد باراك أوباما وإهمالها للزعماء العرب وتركيزها على الصين، ترك فجوة.
وكان التدخل العسكري الروسي في أيلول/ سبتمبر 2015 هو الذي أنقذ بشار الأسد، وهو ما خلّف انطباعا لدى الأنظمة العربية في كل مكان من أن روسيا على خلاف أمريكا، تسارع لنجدة حليفها. كما لعبت روسيا دورا في تخليص الأسد من ترسانته الكيماوية، وبهذه الطريقة فتح بوتين مخرجا يحفظ ماء وجه أوباما الذي وضع خطا أحمر تحت استخدام السلاح الكيماوي. وبنفس السياق أمّن بقاء وكيله بشار الأسد.
وبحسب مصدر في شرق أوروبا تحدث إليه بويز، قال إنه لا تمر لحظة تتعلق بأزمات الشرق الأوسط، إلا ويستيقظ فيها بوتين ويفكر: “كيف كان يفغيني ماكسيموفيتش سيتصرف في هذا الموقف؟”.
وكان المصدر يشير إلى يفغيني بريماكوف، المستعرب الروسي الثعلب الذي عمل في التسعينيات من القرن الماضي كرئيس للمخابرات الروسية ووزيرا للخارجية ورئيسا الوزراء. وبعد نهاية الحرب الباردة، أكد بريماكوف أن المشكلة ليست في تحول روسيا إلى جزء من أوروبا أم لا، بل كيف تتحايل على النفوذ الأمريكي وتواجهه.
وبالنسبة لبريماكوف، كان هذا يعني العمل على تشكيل تحالفات براغماتية ومنع أمريكا من التقدم داخل فلك التأثير الروسي أو الحديقة الخلفية لموسكو، وتحديد مكامن ضعف الولايات المتحدة.
وفي فترة بريماكوف، عززت روسيا موقعها كمصدر مهم للأسلحة، وركزت بشدة على البلدان التي انزعجت من الحضور الأمريكي العسكري الضخم في العراق.
ومرة أخرى، قرأ بوتين حكمة من كتاب أستاذه الراحل بريماكوف، وحوّل دعمه العسكري للأسد إلى وجود دائم في سوريا، ليس من خلال القاعدة الجوية والسيطرة على المجال الجوي، ولكن عبر قاعدة بحرية في المياه الدافئة بميناء طرطوس على البحر المتوسط.
وعندما يتحقق السلام في سوريا، ستحاول روسيا أن تلعب دورا أكبر في أزمات منطقة شرق البحر المتوسط المتعددة. وبهذا الشكل ستعمل روسيا على تحدي الطموحات التركية بأن تكون القوة المهيمنة في الشرق الأوسط.
ويعود الكاتب إلى عام 2007 الذي يرى أنه مرحلة بداية جهود بوتين لكي يكون له دور في المنطقة والظهور بمظهر صانع السلام. ففي تلك السنة أرسل بريماكوف إلى دمشق لاستكشاف إمكانيات تحقيق السلام في المنطقة بقيادة روسيا.
في تلك الفترة كان الأسد يجري محادثات حذرة مع إسرائيل حول مرتفعات الجولان بوساطة تركية. لم يحدث أي تقدم. وكان الجميع، بمن فيهم الرئيس الفرنسي نيكولاي ساركوزي، يتنافسون على سوريا، معتقدين أن الأسد يمكن أن يتحول إلى حليف للغرب وليس لروسيا. ولم يتحقق من هذه الجهود أي شيء، لكن بوتين لم ينس الفكرة. وكان تفكيره يدور حول هذا: ماذا لو أقنعت إيران بالخروج من سوريا مقابل تنازل إسرائيل عن مرتفعات الجولان؟
يعتقد بويز أنه لو ظل بريماكوف على قيد الحياة لعارض هذه الفكرة، وذكّر تلميذه بضرورة تناسيها. فلماذا تتنازل إيران عن موطئ قدم لها في سوريا؟ وحتى لو عاد الحرس الثوري إلى إيران، فماذا عن حزب الله ووكلاء إيران بالمنطقة؟ وهل سيستسلم الإيرانيون بالفعل كجزء من صفقة تشمل تخفيف العقوبات وإحياء الاتفاق النووي؟ لن يحدث هذا في عهد المرشد الحالي للجمهورية الإسلامية آية الله علي خامنئي.
وربما زاد بريماكوف وقال لتلميذه: “فلاديمير، ألم تشاهد مسلسل وادي الدموع الإسرائيلي؟ كيف يمكن لإسرائيل أن تتخلى عن الجولان؟ أي رسالة ستكون هذه؟”، ذلك أن المسلسل التلفزيوني الإسرائيلي صور ببراعة حجم الدماء التي سفكت أثناء قتال السوريين في حرب عام 1973.
ومع ذلك، هناك شيء ما. ومن المحتمل أن ينجذب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي سيواجه انتخابات أخرى الشهر المقبل لفكرة انضمام سوريا إلى قائمة الدول العربية الأخرى التي تسعى إلى توثيق العلاقات مع إسرائيل. ولو حدث ذلك، فستكون خسارة مدمرة للنظام الإيراني.
ويستطيع نتنياهو قراءة الحروف المبهمة، فالأسد منزعج من الخيلاء الإيراني ولم يعد بحاجة إليه. كما سمحت روسيا للطائرات الإسرائيلية بقصف وكلاء إيران في سوريا وهي إشارة إلى أن بوتين يؤيد الانسحاب الإيراني.
وفي النهاية يقول الكاتب إن بوتين يشتم رائحة فرصة في الطريق، وهو ما يتضح كثيرا من الاجتماعات المختلفة التي عقدها المسؤولون الروس في القاعدة الجوية بسوريا. وفي الوقت الذي حدد فيه الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن سياسته في الشرق الأوسط بالعودة إلى طاولة المفاوضات وإحياء الاتفاق النووي الذي وقعه سلفه باراك أوباما عام 2015 بشكل سيكون امتحانا لقدراته السياسية وكرجل دولة، إلا أن هذه المحاولات لا تكفي لنزع الفتيل من برميل البارود بالمنطقة، وهذه فرصة، حتى لو كانت غير محتملة لفلاديمير صانع السلام.
القدس العربي