تناولنا في الجزءِ الثالث من هذه الدراسة توظيفَ الصورة الصحفية في ثلاث حروبٍ مهمة هى حربُ الخليج الثانية وحربُ لبنان وحربُ الخليج الثالثة، ورأينا كيف كانت الصورةُ الصحفية مؤثرةً في توجيه الرأي العام في المنطقة العربية والرأي العام العالمي، ورأينا كيف أن التحكمَ في تدفقِ الصورِ والسيطرة عليها في ميادين القتال شهدا انهيارًا ملحوظًا في حربِ الخليجِ الثالثة، وهو ما أدى بالقوات الأمريكية إلى استهداف المصورين والإعلاميين الذين لا يلتزمون بالأجندة الأمريكية، وهو ما تسببَ في وقوع ضحايا بينهم، وفي الجزءِ الرابع من هذه الدراسة نتناول موضوعًا مهمًا يتمثل في كيفية استخدام الصورة الصحفية في الدعاية السياسية لخدمة الأهداف العسكرية و التكنيكات الإعلامية التي استخدمتها الصورُ الصحفية في دعمها للحروب.
لم تعد الصورة بألف كلمة كما كان يقول كونفوشيوس الحكيم الصيني الأشهر، بل ربما أصبحت بملايين الكلمات
أولًا: استخدام الصورة الصحفية في الدعاية السياسية لخدمة الأهداف العسكرية:
تُعد الصورة أفضل من الكلمات في عمليات الدعاية والحرب النفسية، فالصورة لم تَعُد بألف كلمة كما كان يقول كونفوشيوس الحكيم الصيني الأشهر، بل ربما أصبحت بملايين الكلمات، وعلينا أن نتذكر أحداثًا منها القديم ومنها القريب؛ مثل هجوم الطائرات على برجيْ التجارة العالمى في نيويورك في سبتمبر 2011، وصورة سقوط تمثال الرئيس العراقي المغدور صدام حسين في قلب بغداد، وصور القبض عليه، وتقديمه للمحاكمة، وصور تعذيب العراقيين في سجن أبي غريب، وصور لوحات مثل “الموناليزا” لدافنشي، والجرنيكا” لبيكاسو، و”العرافة” لمونشي، وغيرها من الصور التي فاق تأثيرها في الوعي البشري ملايين الكلمات.
ولقد استُخدمت الدعاية في حقب التاريخ المختلفة، وكانت الأداة السرية الرئيسة في الحرب، إذ أطلق عليها الإنجليزُ (الحربَ السياسية)، والألمانُ (الحربَ الثقافية) والأمريكيون (الحربَ السيكولوجية أو النفسية)، والهدف من استخدامها يلخصه وزير الدعاية النازي جوبلز في قوله “إن الحرب تستهلك الكثير من القنابل لندمر بها مدفعًا واحدًا في يد جندي، ولكن أليس الأرخص من ذلك أن نوجدَ وسيلة تعمل على اضطراب الأصابع التي تضغط على زناد ذلك المدفع في يد الجندى”. وقبل أكثر من قرنين من الزمن، قال الرئيس الأمريكي توماس جيفرسون للصحافة: “لو تُرك الأمرُ لي للاختيار ما بين حكومة بلا صحافة، أو صحافة بلا حكومة لاخترت الثانية بلا تردد، جاء ذلك عندما تعرض لهجومٍ عنيف في سنةِ حكمه السابعة، فشن هجومًا على الصحافة في عام 1807، إلا أنه ظل متمسكًا برأيه الأول وزاد عليه: ” إن الصحافةَ هي الشرُ الذي لا يمكن إصلاحُه”.
وتُعد الصورةُ الصحفية أحد المكونات الأساسية للصحيفة الحديثة، وإذا ضربنا المثلَ بكاتبٍ شهير فإنه يقدم مادةً مكتوبة لتقديمِ صورةٍ مصاحبة له ليعرفه القارئ، كما أن الصحف استطاعت أن تؤثر من خلال الصور أو ما يسميه البعض “الدور الإيحائي للصورة”، حيث يرى البعضُ أن النصَ مع الصورة يعني موضوعًا واحدًا متكاملًا، أو أن الصورةَ في يدِ سكرتيرِ التحرير سلاحٌ سياسي وتوجيهي يستخدمه إزاء أى حدث وأية شخصية، ومن الأمثلة على ذلك أن جوبلز وزير الدعاية في عهد هتلر كان يؤثر بالصورة؛ فعندما كان هتلر يريد التخلص من أحد معاونيه، فإن جوبلز كان يوعز للصحف بنشر صوره إلى جانب خبر عن فضيحة أو أية قضية دنيئة، وتدريجيًا وبصورة لا واعية ترتبط في ذهن القارئ صورة ذلك المسئول بجوانب سلبية، حتى إذا اتُخذ أي إجراء بحقه فيما بعد لا يجد فيه القارئ أمرًا غيرَ عادي.
وقد هدفت دراسة تيسير أبو عرجة بعنوان “جريدة المقطم ودورها في الدعاية للاحتلال الإنجليزي 1889- 1919″، للكشف عن الدور الذي قامت به صحيفة “المقطم” في الدعاية للاحتلال الإنجليزي في مصر، والسياسة التي أنتجتها في خدمة مخططاته وأهدافه في مواجهة الحركة الوطنية، ورصد الأساليب التي استخدمتها لتحقيق أهداف الاحتلال. وأشارت تلك الدراسة إلى أن “المقطم” طبقت الأسس العلمية في فن الدعاية السياسية مثل التكرار والشعارات والتحريف بانتقاءِ جزءٍ من الحقيقة وحذفِ جزءٍ آخر، وذلك قبل هتلر وجوبلز في الحربِ العالمية الثانية. وقد استُخدمت الدعايةُ المباشرة كذكرِ أن المُحتل البريطانى لم يأتِ للاحتلال، وإنما لإعمار مصر وتنميتها، والدعاية غير المباشرة بذكرِ إنجازاتِ المُحتل في مصر. وقد استخدمت الصحيفةُ في عرضِ مادتِها الفنونَ الصحفية وهي الخبر والمقال والحديث والتحقيق والماجريات والمادة الأدبية.
وقد وصف روبرت لوكهارت المديرُ العام للجنة التنفيذية للحرب السياسية في الحرب العالمية الثانية الحربَ السياسية بأنها عبارة عن تطبيق الدعاية لتخدم حاجة الحرب، وهدفها الرئيس هو تعبيد الطرق أمام القوات المسلحة وتسهيل مهمتها. ولا يختلف هذا المفهوم عن التعريفات التي أوردَها الكُتَابُ الأمريكيون في هذا السياق.
من جانبٍ آخرَ، كشفت الصورُ عن حجم التناقض بين الخطاب الإعلامي للإدارة الأمريكية وما يُمارس في الواقع، وظهر ذلك جليًا في صورِ التعذيب والممارسات الأمريكية التي تعرض لها السُجناءُ العراقيون في سجن أبو غريب والتي أثارت صدمةً للعالم، إضافةً إلى صورِ الجنود البريطانيين وهم يعذبون سجناء عراقيين، وصور ليندا انجلاند المُجندة الأمريكية وهى تبتسم والسيجارة في فمها وتشير إلى الأعضاء التناسلية لسجينٍ عراقى مُغطى الرأس وتُمسك بمقودِ كلبٍ مربوط برقبة السجين وهو مُلقى على الأرض، وهي تلك الصور التي أظهرت جزءًا من الجرائم التي كانت تُرتكب على أرضِ العراق باسمِ تحريرِ شعبِ العراق ونشرِ الديمقراطية وعودةِ حقوق شعبه المسلوبة، في حين أن الولايات المتحدة كانت تنادي كل يوم بالحرية والديمقراطية وضرورة الإصلاح والقضاء على الإرهاب، وكل هذا يدل على أن النازيةَ لم تَمُتْ وإنما عادت من جديد.
وقد أكدت الولاياتُ المتحدة الأمريكية على امتلاكِ العراقِ لأسلحة الدمار الشامل من خلال مجموعة من الدلائل التي وصلت إليها الاستخبارات المكثفة، من بينها التقاط الأقمار الصناعية صورًا فوتوغرافية تُشير إلى وجودِ منشآتٍ جديدة داخل بعض المواقع النووية، وهي منشآتٌ لم تكن قائمة عندما قامت اللجنةُ الخاصة بآخر عملية تفتيش نووي في تلك المواقع قبل أربع سنوات، وكان التقديرُ الأمريكي لهذه الصور أن العراقَ يقوم بإعادة بناء مرافق خاصة بعملية تخصيب اليورانيوم، في حين سمح العراقُ لصحفيين أجانب بدخول مواقع تلك الصور فلم يشاهدوا أية حاويات، وكان الرد أنه لا يمكن إصدار حكم بهذا الشأن إلا بتفقد الموقع ميدانيًا.
وكان لنشر هذه الصور أثرٌ بالغ في إثارةِ الرأى العام الأمريكي ضد الإدارةِ الأمريكية مطالبًا بإقالة دونالد رامسفيلد Donald Rumsfield وإنهاء الحرب؛ لأن هذه الصور تهدد الأمنَ القومى الأمريكى وتهدد كِيَانَ وأخلاقياتِ الولايات المتحدة الأمريكية، لاسيما بعد أن أعلن رامسفيلد أنه توجد صورٌ أخرى لم يتم نشرها، مما دفع وزير الدفاع الأمريكي إلى الاعتذار خلال جلسة المحاكمة بالكونجرس في 7 مايو 2004 للشعب العراقي لما تعرض من انتهاكات من جانب القوات الأمريكية، ووعدَ بتقديمِ تعويضاتٍ للمعتقلين العراقيين الذين تعرضوا لتلك الانتهاكات. ومع ذلك ارتبطت الحرب على العراق بهذه الصور.
وقد تحتاج الإدارة الأمريكية لعدة سنوات لمحو هذه الصور من عقول الشعوب. فقد زادت وتيرةُ الغضب داخل البنتاجون نفسه، بحيث استاء كبارُ ضباط الجيش ومستشارو وزارة الدفاع بسبب سياسات رامسفيلد التي تسببت في أن تخسرَ الولاياتُ المتحدة الأمريكية في العراق استراتيجيًا وتحولها إلى فيتنام أخرى، وقد انتشرت هذه المشاعر في أروقة الجيش، كما تزايدت الانتقادات الموجهة لوزارة الدفاع الأمريكية بعد اكتشاف فضيحة تعذيب المُعتقلين العراقيين على يد بعض الجنود الأمريكيين في سجن أبو غريب، تلك الفضيحة التي كان لها تأثيراتٌ سلبية عديدة داخل الجيش الأمريكي وقياداته، ولذلك طالب عديدٌ من أعضاء الكونجرس بإقالة رامسفيلد باعتباره المسئول السياسي عن فضيحة أبو غريب.
كما أعرب أعضاء مجلس الشيوخ عن غضبهم من تصريحات ديك تشيني Deck Cheney نائب الرئيس الامريكي والتي طالب فيها أعضاء الكونجرس بترك رامسفيلد لحاله والكف عن مطالبته بالاستقالة، وكذلك طالب معظم وسائل الإعلام الأمريكية والهيئات والمؤسسات الفكرية بل وضباط كبار في الجيش الأمريكي والرأي العام العالمي الذي هزته فضيحة سجن أبو غريب باعتذار الإدارة الأمريكية عما حدث وتعويض الضحايا وتخفيض عدد المعتقلين في سجون العراق، بالإضافة إلى نقل الجنرال سانشيز Sanchez من منصبه كقائدٍ للقوات الأمريكية بالعراق وإحلال الجنرال جورج كايسي George Casey بدلًا منه مع إعطاء الأخير صلاحيات أوسع، ومحاكمة المسئولين عن هذه الجرائم كمجرمي حرب أمام محكمة عسكرية كالتي أُنشئت في العراق لمحاكمة نظام صدام حسين.
كشفت الصورُ عن حجم التناقض بين الخطاب الإعلامي للإدارة الأمريكية وما يُمارس في الواقع، وظهر ذلك جليًا في صورِ التعذيب سجن أبو غريب والتي أثارت صدمةً للعالم
ونجح بالفعل جون كيرى مرشح الرئاسة الديمقراطي في جمع 275 ألف توقيع تطالب باستقالة رامسفيلد، إلا أنه رغم كل ذلك ورغم ما قيل عن توبيخ بوش لوزير دفاعه آنذاك بسبب إخفائه موضوع صور الفضيحة رغم علمه بها منذ فترة فإن الرئيس الأمريكي دافع بشدة عن وزير دفاعه ورفض إقالته رغم اعتراف رامسفيلد في شهادته أمام مجلس الشيوخ بالمسئولية السياسية عما حدث واعتذاره واعترافه أيضًا بتستره عليه وأنه لم يتصرف حياله بالجدية المطلوبة، ولكنه لم ينطق بالاستقالة، وبرر ذلك بأن استقالته لن تعدو أن تكون قرصَ إسبرين ضعيف التأثير والمفعول ولن يُشفِ الإدارةَ الأمريكية من صداعِها المُزمن منذ تفجر القضية.
ورغم المحاولات المستميتة لوزارة الدفاع الأمريكية للتعتيم الإعلامي على نشر صور القتلى من الجنود الأمريكيين خوفًا من إثارةِ الرأي العام بحقيقة ما يحدث على أرض الواقع، فقد سرب المسئولون بقاعدة دوفر الجوية Dover Air Force (350) صورة ترصد نعوش الجنود القتلى الأمريكيين الملفوفة بالعلم الأمريكي إلى جريدة “ستايل تايمز” الأمريكية التي نشرتها في صفحتها الأولى، مما دفع وزير الدفاع الأمريكي إلى إصدار أمر يقضى بحظر نشر أية صورة أخرى، بالإضافة إلى إلغاء تعاقد الصحفية تامي سيلسيو وزوجها دايفيد لاندري مع البنتاجون بعد أن قاما بالتقاط الصور من مطار الكويت الدولى في محاولة لإبقاء الجمهور مؤيدًا للرئيس بوش والحرب على العراق.
ومع ذلك فقد أدى نشرُ هذه الصور إلى انخفاض شعبية الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن؛ ففي استطلاعٍ للرأي أجرته صحيفة “لوس انجلوس تايمز” Los Angeles Times الأمريكية في أبريل 2004، وجد أن 57% من الناخبين في ولاية كاليفورنيا تستنكر سياسات بوش في الحرب، بعدما كانت نسبة هؤلاء لم تتجاوز 44% في يوليو 2003. وأعرب 66 % منهم عن قلقهم من أن يتحول العراق إلى فيتنام أخرى. يقول جمال الشلبي: إننا نجد مثلًا ملصقاتٍ دعائية لقاموس لاروس La Rousse الفرنسي، معروضة بأماكن بارزة في محطات القطار المنتشرة في باريس، والمدن الفرنسية الأخرى، تحمل صورة رجل يرتدي ملابسَ عربية ولكن بهيئةٍ مُزرية وهو يجلس على الأرض ممسكًا برسن جمله بيده اليسرى، وممسكًا بالقاموس مفتوحًا بيده اليمنى، ليعنى أن العربَ على جهلهم يعرفون هذا القاموس، وأحيانًا أخرى تستخدم الصحف والمجلات الفرنسية المطبوعة هجومًا مباشرًا وواضحًا لا لبسَ فيه، باستخدام الكلمات الجارحة والشعارات الساخرة من العرب والمسلمين فمثلًا مجلة “الإكسبريس” Le Express التي يملكها اليهودي جيمس جولد سميث James Goldsmith، تظهر على صدر غلافها صورة الكعبة، في 42 تشرين الثاني – نوفمبر عام 1979 وقد كتب بالخط العريض “الإسلام يعني الحرب”. أما في مجلة “باري ماتش” Paris Match نجد مكتوبًا على الغلاف “الحرب المقدسة: مراسلونا في النقاط الساخنة من الإسلام”.
ثانيًا: التكنيكات الإعلامية التي استخدمتها الصور الصحفية في دعمها للحروب
فى سياق دراسة الصورة الصحفية في الحروب المختلفة التي عاصرتها المجتمعات باعتبارها أداةً في إدارة الصراع. نجد هناك عديدًا من الحروب التي خاضتها الدول العربية مع إسرائيل وما شكلته تداعياتها من تغييراتٍ عميقة في الواقع العربي، وما قدمته الحروب من حالاتٍ مختلفة ومتباينة لاستخدامات الصور بين المقاومةِ والانتصار والهزيمةِ والنصر، وبين المبادأة بالهجوم أو التعرض للاحتلال.
وقد أجرى السيد بهنسي دراسةً لتقويم استخدام الصور الصحفية كإحدى أدوات الصراع الإعلامي أثناء الحروب العربية الإسرائيلية (1948/1956/1967/1973/1982)، وقد أُجريت الدراسة على صحيفة “الأهرام” ولمدة خمسة أشهر بواقع مدة شهـر من اندلاع كل حرب من الحروب الخمس.
وتمثلت أهم نتائج هذه الدراسة في أن الصور الإخبارية قد جاءت في الترتيب الأول في الموقع الجغرافي للصور الصحفية، وأبرزت الصور تزايد عدد الدول التي تم تغطيتها بالصور الصحفية في حرب 1956، 1967، 1973 مقارنة بحربي 1948، 1982، ويرجع ذلك إلى تعقُد الصراع وتداخل مصالح أطراف دولية عديدة في هذه الحروب. فقد أشارت نتائج الدراسة إلى أن معظم الصور الصحفية التي نُشرت كانت ذات اتجاهٍ إيجابي في كل الحروب ماعدا حرب لبنان 1982، وذلك لرفع الروح المعنوية وتقوية الجبهة الداخلية وتجنب التركيز على الجوانب السلبية حفاظًا على التماسك الداخلي.
أما في حرب لبنان 1982، والتي غلبت عليها الصور ذات الاتجاه السلبي؛ لكشف مدى معاناة ضحايا العدوان الإسرائيلي والممارسات غير الإنسانية، فقد تعددت التكنيكات الإعلامية التي استخدمتها الصور الصحفية في دعمها للحروب وفقًا لاختلاف الوضع العسكري والسياسى في كل حرب. ففى حرب 1948 والتي اشتركت فيها جيوشُ عدة دول عربية في حربها ضد إسرائيل، استخدمت الصورُ تكنيكاتٍ تدل على الوضع الهجومي والانتصار.
حازت الصورُ الصحفية أهميةً خاصة في تغطية أحداث الانتفاضة الفلسطينية في مواجهة المزاعم الإسرائيلية بشأن تهديد الفلسطينيين لأمنهم
وفي حرب 1956 والتي كانت مصرَ فيها في موقفٍ دفاعي ضد إسرائيل وبريطانيا وفرنسا، برز تكنيك الدفاع، فظهرت صورُ متطوعين من جيشِ التحرير، وصورُ رجالِ المقاومة في منطقة القناة، وصورُ التدريب على حملِ السلاح. وفى حرب 1967 والتي قامت فيها إسرائيل بالعدوان على مصر وسوريا والأردن في ظل تواطؤ أمريكى نتج عنه احتلال سيناء والجولان والضفة الغربية وقطاع غزة، برز تكنيك المساندة مثل صور إدانة مندوبي دول العالم في الأمم المتحدة لإسرائيل وصور المظاهرات ضد إسرائيل في بكين. أما حرب 1973 والتي بادرت فيها مصر بالهجوم وحققت فيها انتصارًا حاسمًا على إسرائيل أعاد الثقةَ وصححَ الكثيرَ من الأوضاعِ الخاطئة، وقام فيها الإعلامُ المصري بدورٍ مُخطط جعل مديرَ الاستخبارات الإسرائيلية يعترف أنه كان بجوار السادات جهازٌ إعلامي أنجز مهمتَه وخدعنا.
وركزت بعض الصور على تكنيك التهوين من الطرف الآخر، وتمثل ذلك في صور الأسرى الإسرائيليين وصور غنائم الأسلحة الإسرائيلية، وصورِ قائدٍ إسرائيلي يستسلم وصورة طائرات إسرائيلية محطمة. وفي حرب لبنان 1982 استخدمت الصور تكنيك تقديم الأدلة، فظهرت صور أعمدة الدخان فوق مدينة صيدا، وحريق معمل تكرير بترول الزهراني، وخريطة قديمة للبنان توضح أطماع إسرائيل فيها وتربط بينها وبين مسار الغزو.
وتتوالى أهميةُ الصورة الصحفية في تغطية الأحداث المختلفة في العالم بصفةٍ عامة، وفي أحداث الانتفاضة الفلسطينية بصفة خاصة، فقد حازت الصورُ الصحفية أهميةً خاصة في تغطية أحداث الانتفاضة الفلسطينية في مواجهة المزاعم الإسرائيلية بشأن تهديد الفلسطينيين لأمنهم، كما أثبتت الصور كذب المزاعم وأبرزت مدى الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الفلسطينيين في مواجهة عدوان الآلة العسكرية الإسرائيلية، وكان أبرزها الصور التي التقطها المصور الفلسطينى طلال أبو رامه مندوب التليفزيون الفرنسي لتفاصيل المشهد المأساوي لاغتيال الطفل الفلسطيني محمد الدُرَة الذي استشهد في أحضان والده على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي بعد تعرضـه لوابل من طلقات الرصاص.
واتسم الإعلامُ الخليجي بعمقِ التغطية لأحداثِ “انتفاضةِ الأقصى” بعد أن اعترى القلق القيادة الفلسطينية من انحياز الخليج للعراق، إلا أن اندلاع الانتفاضة أدى إلى كسرِ حالةِ الفُتور في موقف الشارع الكويتي تجاه القضية الفلسطينية، وهو ما انعكس على أنماط واتجاهات التغطية الإعلامية لأحداث الانتفاضة، وذلك بتصديها لمحاولات التطبيع مع إسرائيل. كما احتلت صور استشهاد محمد الدُرَة الطفل الفلسطيني ذروة اهتمام الصحف الخليجية، حتى إن بعض الصحف أصدرتها في بوسترات استخدمها المتظاهرون في دول الخليج في مظاهراتهم للتضامن مع الانتفاضة، وهو ماانعكس على الموقف الرسمي للكويت في النهاية، حيث قررت تقديم 150 مليون دولار دعمًا لصندوقيْ الانتفاضة والقدس.
وبدلًا من أن تؤدي وسائلُ الإعلام الإسرائيلية الدورَ “الناقد” اكتفت بنقل الحديث أو التصريح، لتقوم فقط بدور “الناقل” فقط لا أكثر، وقد امتد التحريض إلى الصحافة المطبوعة التي تحفل بالمقالات والتصريحات التحريضية ليست فقط للسياسيين وإنما لكُتَابٍ صحفيين ومحررين. كما وظف الإعلامُ الإسرائيلي ردودَ المقاومة على الهجوم الإسرائيلي للتحريض على الفلسطينيين باعتمادِه تغطيةً خاصة تضم ما يزيد على عشر صفحات لعملية واحدة مع صور للدماء والقتلى والمصابين، وتكرار صور الأطفال الإسرائيليين يبكون مع عناوين مثل: “دولة تحت الإرهاب”، “هجوم يتبعه آخر” و”حرب من الإرهاب”، مع نشر قائمة بجميع الحوادث التي وقعت وتواريخها وأماكنها منذ اندلاع الحرب، وقد مارست وسائلُ الإعلام دورًا تحريضيًا للحكومة على بذل مزيدٍ من الجهود لمواصلة الحرب على غزة، حيث تم النظر للمقاومة على أنها فيروس قاتل يجب اقتلاعه جِذريًا.
لقد ساعدت الحربُ على غزة في كشف أكاذيب الإعلام الإسرائيلي، حيث كانت الجماهير الفلسطينية المُعرضة لآلةِ الحرب الإسرائيلية تلمس وبسهولة البوْنَ الشاسع بين حقيقة ما يجري على أرض الواقع، وما يطرحه ذلك الإعلام، وبالتالي لم تعد تأبه لما يقوله وينقله عن أمورٍ وأحداث ومواقف ليس لها أساس من الصحة، وبذلك تهاوى صَرْحُ المِصداقيةِ المزعومة التي عمل الإعلامُ الإسرائيلي سنينَ طويلة في سبيل بنائها وترسيخها.
وقد سجلت الصورُ الصحفية الصراعَ الفلسطيني الإسرائيلي منذ الاحتلالِ الإسرائيلي، وخصوصًا رسوم الفنان “ناجى العلي” والتي كانت بمثابة ناقوسَ خطرٍ يهدد الكِيان الإسرائيلي، فعبر الفنان أنه في نهاية الحرب مع إسرائيل يستشهد المئات من الفلسطينيين، كما ظهرت رسومٌ ترفض القرار رقم (242) الصادر عن مجلس الأمن، والذي يعني اعترافًا ضمنيًا بوجود إسرائيل واتفاقات أوسلو 1993. إضافة إلى ذلك، فقد سجلت شرائط من الصور الصحفية الحروب اللبنانية من عام (1975-1990) معركةَ بوسطةِ عينِ الرُمانة في 13 أبريل 1975، وصور الجثث والمذابح وحرق الأحياء، ومذابح السبت الأسود وصور التهجير خصوصًا في حربِ السنتين وعملية الليطاني في 1978، وصور إسعاف بلدة المنصوري في 13 أبريل 1996، وصور مجزرتى النبطية وقانا في 18 أبريل 1996 والتي فاقت قوتها مذابح دير ياسين والعباسية.
وانصب اهتمامُ الباحثين في أبحاثهم على انتفاضة الأقصى خاصـة البحوث التي تناولت الصورة الصحفية، فأجرى تحسين عبد الحميد الأسطل (2003) دراسة عن الصورة الصحفية لانتفاضة الأقصـى في الصحف العربية، وقد هدفت الدراسة إلى التعرف على حجم ومدى الاهتمام بالصور الصحفية لانتفاضةِ الأقصى في صحيفتيْ “الأهرام” المصرية و”الحياة” اللندنية. وأشارت نتائج الدراسة إلى اهتمام الصحف العربية بالتغطية المصورة لموضوعات انتفاضة الأقصى بمختلف أحداثها وأشكالها، كما احتلت صورُ الشهداء والجنازات والمواجهات مع الاحتلال الصهيوني مساحةً كبيرة في صحيفتيْ الدراسة، كما اهتمت صحيفتا الدراسة بالصور الإخبارية التي تواكب الأحداث اليومية للانتفاضة.
وكان للصور التي نشرتها وكالة أسوشيتدبرس Associated Press عن مجزرة صابرا وشاتيلا أثرُها البالغ في إيقاظِ الضمير العالمي، مما دفعَ الجمعيةَ العامة للأمم المتحدة إلى إدانتها، وطالبت مجلس الأمن بالتحقيق فيها، وأقامت معرضًا لهذه الصور في بهوها الرئيس. وساهمت الصورُ التي نُشرت عن مجزرةِ قانا في تحريرِ الوطن وهزيمة العدو، حيث أبرزت المقاومة الوطنية ضد إسرائيل، لا سيما بعد أن قام رئيس الجمهورية اللبنانية إلياس الهراوي آنذاك بحمل تلك الصور إلى البيت الأبيض.
أ.د. شريف درويش اللبان أ. سارة أحمد يسين
المركز العربي للبحوث والدراسات