في العجز وعدم الاستقرار تلجأ الدول الى تعويم عملتها !

في العجز وعدم الاستقرار تلجأ الدول الى تعويم عملتها !

الباحثة شذى خليل*
يفرض التغيير في العرض والطلب على العملات الأجنبية بسعر صرف العملة العائمة، وبالتالي يتغير سعرها تبعا للتغير في العرض والطلب اللذان يتغيران تبعا لظروف عدة قد تكون اقتصادية او سياسية.
قد تستخدم الدولة التعويم لإعادة التوازن في موازناتها التجارية التي تشهد عجزا كبيرا او على الأقل للتخفيف من حجم العجز.
تعويم العملة، هو ترك العملة المحلية لآليات العرض والطلب، دون تدخل من قبل البنك المركزي في تحديد سعرها، سواء في المحيط المحلي أو الخارجي، ولكن هذا المعنى لا وجود له في الواقع، حتى مع العملات المعومة، والمعروفة بالعملات الدولية في الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا واليابان وسويسرا على الترتيب (الدولار، اليورو، الجنيه الإسترليني، الين، الفرنك) فهذه البلدان وإن كانت تتم بها التسويات المالية العالمية في الغالب، ويتم تداولها في بورصات النقد الدولية، إلا أن حكوماتها عادة ما تستهدف سعرا معينا يحقق مصالحها الاقتصادية، وتعمل على تثبيته بشكل غير مباشر عبر آليات السياسة النقدية المختلفة.
ومن الأسباب الرئيسة للتعويم ما يلي:
 الانهيار الذي لحق بنظام “بريتون وودز” والذي يرجع إلى افتقار الاقتصاد الدولي إلى السيولة العالمية التي يتيحها تدفق الدولارات الأمريكية إلى الخارج نتيجة عجز الميزان التجاري.
 اختلاف معدلات النمو الاقتصادي بين أهم الدول الصناعية المتقدمة، وذلك من خلال ظهور قوى اقتصادية كبرى مثل أوروبا الغربية واليابان والتي صارت تنافس الولايات المتحدة الأمريكية.
 تأثير تباين مستويات التضخم بين الدول الصناعية على أسعار الفائدة، إلى جانب تأثيرها على تغيرات أسعار صرف العملات أيضا.
 تأثير ارتفاع معدل الإنفاق الأمريكي بما يشمل الإنفاق على الاستثمار الخارجي وتمويل الإنفاق على حرب فيتنام الذي أدى إلى تفاقم العجز في ميزان المدفوعات الأمريكي.
 ازدياد معدل التنافس وتعارض المصالح الذي جرى بين الدول الصناعية المتقدمة.
 تمويل حركات المضاربة الضارية، خاصة عند تمويل سوق الدولارات الأوروبية لحركات المضاربة الضارية التي شهدها الفرنك الفرنسي والجنيه الإسترليني والليرة الإيطالية والمارك الألماني في أواخر فترة الستينات تأثرا باتساع مجال حركة رؤوس الأموال المستخدمة في المضاربة الشديدة.
ومن أنواع التعويم:
 التعويم الخالص: أو كما يطلق عليه التعويم الحر، وهو الحرية التامة لتغيير وتحديد سعر الصرف مع مرور الوقت وفق آلية العرض والطلب وقوى السوق دون تدخل الدولة في شيء سوى أن تتدخل السلطات النقدية للتأثير على سرعة تغيير سعر الصرف فقط دون أن تتدخل في الحد من ذلك التغيير.
ويتم اتباع ذلك النهج الحر لتعويم العملة في بعض البلدان المتقدمة ذات النظام الرأسمالي الصناعي، مثل الفرنك السويسري والدولار الأمريكي.
 التعويم الموجَّه: أو كما يطلق عليه التعويم المُدار، وهو حرية تحديد سعر الصرف وفق آلية العرض والطلب وقوى السوق وتتدخل الدولة في هذا النوع من أنواع التعويم عبر مصرفها المركزي عند الحاجة إلى توجيه سعر الصرف في اتجاهات محددة مقابل باقي العملات، بحيث يتم هذا الأمر كاستجابة لبعض المؤشرات التي تشمل معدل الفجوة بين العرض والطلب في سوق صرف العملات، والتطورات التي تطرأ على أسواق سعر الصرف المماثلة، والمستويات الآجلة والفورية لأسعار صرف العملات.
ويتم اتباع هذا النهج الموجَّه لتعويم العملة في بعض البلدان ذات النظام الرأسمالي إلى جانب بعض البلدان النامية التي يرتبط سعر صرف عملتها بالجنيه الإسترليني، الفرنك الفرنسي (سابقا) أو الدولار الأمريكي أو حتى بسلة من العملات.
وتلجئ الدول في حالة الاضطرابات في الأوضاع المالية والاقتصادية المتذبذبة غير المتوازنة إلى سياسة تعويم عملتها، مما يدفع الى شراء العملات الأجنبية، أحد العوامل المهمة في اضطرابات السوق، حيث تكثر المضاربات، ويخرج أمر سعر صرف العملة عن يد البنك المركزي والجهاز المصرفي، ويكون بيد السوق الموازية.
هذا الاضطراب في سوق العملة نتيجة سوء أداء الدولة في ميزان المدفوعات، حيث تزيد الواردات السلعية عن الصادرات، كما تتأثر موارد النقد الأجنبي سلبيا، من حيث عوائد الصادرات والواردات الخدمية، كما تقل بها تدفقات الاستثمار الأجنبي، وتجد الدولة نفسها مضطرة للاستدانة بمعدلات كبيرة.
من هنا تجد الدولة نفسها أمام التزامات أكبر من طاقتها، في حين أن المتاح من موارد للنقد الأجنبي بالبلاد خارج سيطرتها، وفي يد غير يد البنك المركزي والجهاز المصرفي والمؤسسات المالية، لذلك تلجأ إلى تعويم العملة في إطار برنامج اقتصادي، لمحاولة الوصول إلى حالة من الاستقرار السياسي.
تعويم العملة المحلية في الاقتصاديات المضطربة يأتي من خلال وصايا صندوق النقد الدولي، من خلال حزمة من الإجراءات، من بينها تعويم سعر العملة، مع تحرير سعر الفائدة، وتقليل عدد العاملين بالقطاع العام، وتبني برنامج لخصخصة القطاع العام، وتحرير التجارة الخارجية، وفتح المجال أمام الاستثمارات الأجنبية.
كيف يحدد سعر صرف العملة؟
في عام 1971 تخلى العالم عن قاعدة الذهب في تحديد سعر صرف العملات، واستحدثت سلة من المحددات لسعر صرف العملة، أولها رصيد النقد الأجنبي، ورصيد الذهب، وأداء الناتج المحلي الإجمالي، فالدول التي لديها ناتج محلي يتمتع بقيمة مضافة عالية تزيد قيمة عملتها بشكل كبير، حيث يتم الطلب على منتجاتها بالخارج، فيزيد ما لديها من عملات أجنبية، لذلك تسعى البنوك المركزية لتكوين رصيد من النقد الأجنبي والذهب، يساعد على الوصول لسعر صرف متوازن يحافظ على مصالحها الاقتصادية مع الخارج، ويعمل على تنشيط الاقتصاد المحلي، ويحافظ على مقدرات المجتمع من المدخرات والثروة.
لسعر الصرف أنواع، أولها سعر الصرف الإداري، وهو لا يعتمد على آليات العرض والطلب، ولكن يعتمد على قرار من السلطة النقدية بسعر محدد، والثاني سعر الصرف الحر، وهو على النقيض، حيث يتم تحديد سعر صرف العملة بناء على آليات العرض والطلب دون تدخل من السلطة النقدية.
والنوع الثالث سعر الصرف المدار، حيث تتدخل السلطة النقدية في تحديد سعر الصرف من خلال آلية السوق المفتوحة، والتي تعني أن السلطة النقدية تدير السوق من خلال تدخلها بيعًا وشراءً للوصول لسعر متوازن ترى أنه يحقق صالح الاقتصاد القومي، فعندما ترى أن سعر الصرف للعملة الأجنبية في صعود، تتدخل بطرح ما لديها من عملة أجنبية لتزيد العرض فينخفض السعر، وإذا رأت أن سعر صرف العملة الأجنبية ينخفض أكثر من سعر التوازن، تتدخل بالشراء لتحافظ على توازن السوق عند السعر المستهدف.
تتزايد التكهنات بين الحين والآخر حول سعي حكومات عربية لتعويم عملتها المحلية مقابل سلة العملات الأجنبية، في خطوة تراها تلك الدول أنها قد تساعدها على تجاوز أزماتها الاقتصادية، فتعويم سعر العملة في ظل الاقتصاديات النامية يعد بمثابة مجازفة غير محسوبة العواقب، وبخاصة إذا تم في دولة ذات نظام سياسي ضعيف، لا يتمتع بالشفافية وإعمال دولة القانون.
ولكن في إطار الأبعاد الاقتصادية، فثمة مجموعة من الإيجابيات يمكن أن تتحقق من عملية تعويم العملة، أولها وأشهرها القضاء على السوق السوداء، لأن المتعاملين يجدون أمامهم سعر صرف واحد في البنوك والمصارف ولدى كافة المتعاملين في العملات الأجنبية.
والأمر الثاني أن التعويم يساعد في القضاء على ظاهرة سلبية وهي الدولرة، أي اتجاه المواطنين للاحتفاظ بالدولار، أو السعي لشراء الدولار دون الحاجة، ولكن غرضهم الرئيس هو الحفاظ على مدخراتهم، أو المضاربة على سعره، للحصول على أرباح.
والتعويم يقضي على هذه الظاهرة، مما يساعد على إيجاد طلب وعرض حقيقيين لسعر الصرف، مما يؤدي إلى حالة توازن تساعد على اتخاذ القرار الاقتصادي لدى الشركاء في النشاط الاقتصادي.
وكذلك يساعد التعويم في تضييق الخناق على جرائم غسيل الأموال، التي تجد في السوق الموازية أو السوداء لسعر الصرف منفذًا مهمًا لممارسة جرائمها، وفي ظل التعويم، لا يكون التعامل في النقد الأجنبي إلا عبر المنافذ الرسمية، وهو الأمر الذي لا تلجأ إليه عصابات غسيل الأموال.
أما الجانب السلبي من التعويم، فهو يتمثل في اتخاذ قرار تعويم العملة، في ظل ظروف اقتصادية مضطربة، عادة ما يصاحبه مجموعة من السلبيات على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، وأولى هذه السلبيات ارتفاع معدلات التضخم، وسيادة حالة من الركود والترقب للوصول لرصد حقيقي لحركة السوق، لذلك ترتفع معدلات البطالة في الأجل القصير، كما يتضرر كل من المنتجين والمستوردين، بسبب ارتفاع فاتورة الإنتاج والاستيراد، وكذلك يصاب الدائنون بصدمة كبيرة لانخفاض ثرواتهم المتمثلة في الديون المستحقة لهم على الآخرين، وأيضا تتضرر الدولة المدينة للخارج، وترتفع فاتورة سداد أعباء ديونها الخارجية، وبخاصة في ظل فقر مواردها من النقد الاجنبي.
الرابحون من تعويم العملة.. من هم؟
 من لديهم مدخرات سابقة بالعملات الأجنبية، حيث تتضاعف ثرواتهم، ويعمدون فور حدوث عملية تعويم العملة إلى شراء الأصول، من عقارات أو مصانع أو مزارع أو سيارات، بسبب الثروة التي هبطت عليهم جراء تعويم العملة.
 المدينون، وبخاصة أصحاب المديونيات المستحقة للبنوك وللجهات المالية الرسمية.
 تجار الجملة أو الوكلاء، أو المستوردون الكبار، الذين لديهم مخزون كبير من السلع، حيث يقومون برفع أسعار ما لديهم من مخزون سلعي وفق الأسعار الجديدة بعد التعويم.
 المنتجون بهدف التصدير، ويعتمدون في إنتاجهم على المستلزمات المحلية، بشرط أن يكون لديهم مرونة إنتاجية عالية تلبي الطلب على السلع المحلية، بعد التعويم، حيث يكون المستورد لسلع الدولة التي تم فيها التعويم متحفز للاستفادة من ميزة انخفاض قيمة العملة، للحصول على كميات أكبر من السلع بنفس القيمة من العملات الأجنبية التي كان يستورد بها من قبل.
 الحكومة، من خلال انخفاض قيمة ديونها المحلية بشكل كبير، مما يخفف الأعباء عن الموازنة العامة للدولة.
أما المتضرر من هذه الإجراءات فهم المواطنون داخل الدولة التي أخذت بسياسة تعويم عملتها، وفي مقدمة هؤلاء أصحاب المدخرات بالعملات المحلية، حيث أن مدخراتهم تقل قيمتها الشرائية بمقدار انخفاض قيمة العملة بعد التعويم، فهم بالفعل يفقدون جزءا مهما من ثرواتهم، الدائنون بعملات محلية، حيث إن قيمة ما لديهم من ديون مستحقة لدى الغير تقل قيمتها الحقيقية بعد التعويم، فما يحصلون عليه لا يعوضهم عن القيمة الحقيقية لديونهم التي يستحقونها، لذلك تعد الديون لآجال طويلة في هذه الحالة خسارة كبيرة للدائنين.
أصحاب السلع التي لا يمكن رفع سعرها بمعدل يساوي قيمة الانخفاض الحادث في قيمة العملة نتيجة التعويم، فمثلا العقارات، كسلعة رأسمالية، من الصعب رفع سعرها بنسبة 100% خلال أيام قليلة.
المستوردون، حيث يجدون أنفسهم أمام فاتورة مرتفعة للسلع التي يريدون استيرادها، ويتضرر معهم المنتجون الذين يعتمدون على مستلزمات إنتاج مستوردة، حيث يحول هذا الارتفاع على السلعة مما يؤدي إلى عدم قدرتهم على المنافسة مما يخلق ركود وانكماش في السوق وأهم المتضررين هم الموظفون، وأصحاب الدخول المحدود.

وحدة الدراسات الاقتصادية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية