اليسار المغربي تيار غارق في التشتت والعزلة والأفكار البالية

اليسار المغربي تيار غارق في التشتت والعزلة والأفكار البالية

على الرغم من مسيرة تاريخ طويل من النضال في مجتمع مغربي تتوجس معظم مكوناته من “الشيوعية الماركسية اللينينية”، لم تتمكن حركات اليسار، التي تناسلت منذ ستينات القرن الماضي، من أن تتحول إلى قوة سياسية معارضة فاعلة ذات برامج واضحة تحظى بتأييد المغاربة أو حتى جزء منهم، وهو ما بدا جليا في ترنحها داخل مشهد سياسي يجمع مزيجا بين العلمانيين والإسلاميين.

الرباط- تعيش الأحزاب اليسارية المغربية منذ قرابة العقدين من الزمن حالة من الجمود جعلت مستقبلها على المحك، وذلك في ضوء تمثيليتها في البرلمان والحكومة، ما جعلها تفقد وزنها في مشهد سياسي بات تيار الإسلام السياسي خلال العشرية الماضية، جزءا منه.

ومنذ ستينات القرن الماضي، شكل اليسار قوة سياسية وازنة في البلاد، قادت المعارضة لعقود ثم حكومة التناوب سنة 1998. وقاد عبدالرحمن اليوسفي حزب الاتحاد الاشتراكي، وشارك في انتخابات 1997 التي تصدرها حزبه، وليقود في مارس 1998 في ما عرف بـ”حكومة التناوب”، حيث تقود أحزاب المعارضة الحكومة في إطار التناوب الديمقراطي.

لكن السنوات العشر الأخيرة شهدت أفول التيار اليساري، وهو ما كرسه تجرعها هزائم تلو الأخرى في الاستحقاقات الانتخابية. وأرجع البعض ذلك إلى غياب الرؤية الموحدة، والتي أدت إلى انقسامات داخلها ما أجهض مشروعها السياسي، وغرقت في التشتت والعزلة لحساب تيارات أخرى.

ورغم اختلاف الأسباب وتباينها بخصوص ضعف الأحزاب اليسارية، مقابل صعود الإسلاميين الحاملين لمشروع سياسي ديني، إلا أنها تعبّر عن إشكالية يعاني منها اليسار بشكل عام وهي سياسته التواصلية المحدودة والتي أبعدته عن المواطنين وجعلت خطابه عصيّا عليهم.

مسار تاريخي متذبذب
تحتضن الساحة السياسية المغربية أحزابا يسارية من أبرزها الاتحاد الاشتراكي المشارك في حكومة سعدالدين العثماني، وحزب التقدم والاشتراكية المعارض الذي تأسس في 1974، وفيدرالية اليسار الديمقراطي المعارضة، التي تأسست في 2014، وهي تحالف 3 أحزاب هي الاشتراكي الموحد والطليعة الديمقراطي الاشتراكي والمؤتمر الوطني الاتحادي، وأحزاب يسارية أخرى غير ممثلة في البرلمان.

وفي دليل على أن هناك تشرذما داخل البيت اليساري، واجهت الأمينة العامة للحزب الاشتراكي الموحــد نبيلة منيب، التـي تقوم بمهام التنسيق للفيدرالية، بانتقادات من هذا التحالف، فقد اتهمها النائب مصطفى الشناوي، الخميس الماضي، بممارسـة “العبث”، وإقصاء نواب الفيدرالية من مناقشة القوانين الانتخابية.

وبعد عقود من الاصطفاف في المعارضة، كانت نقطة التحول في مسار اليسار المغربي قيادة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الحكومة خلال الفترة بين 1998 و2002، لكنها لم تدم طويلا.

ويرى مراقبون أن الخطاب النخبوي للأحزاب اليسارية في المغرب ليس السبب الرئيسي لضعف حصيلتها الانتخابية في السنوات الماضية، رغم النفور من هذا الخطاب، وهو ما مكن الحزب الإسلامي من الفوز.

واعتبروا أن معضلة اليسار تتمثل أساسا في مواقفه الراديكالية والتي دفعته في العام 2011 إلى مقاطعة الانتخابات، وهو ما كانت له تداعيات سلبية على موقعه في المشهد العام ومن أبرز تجلياتها عزلته السياسية.

وتأسس حزب الاتحاد الاشتراكي في العام 1959، وظل في المعارضة، وتعرّض بعض أعضائه للاعتقال والقمع خلال ما عُرف بسنوات “الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان” في المغرب، قبل أن يقود الحكومة بزعامة اليوسفي، الذي توفي في مايو العام الماضي، عقب تغيير الدستور في عام 1996.

واحتل الحزب المرتبة الأولى في انتخابات 2002، لكن العاهل المغربي الملك محمد السادس عين وزير الداخلية السابق إدريس جطو، غير المنتمي إلى أي حزب، على رأس الحكومة، فاعتبر اليوسفي أن المغرب حاد “عن المنهجية الديمقراطية”، واعتزل العمل السياسي.

ورغم ذلك، شارك الاتحاد الاشتراكي في حكومة جطو، كما شارك في حكومة عباس الفاسي زعيم حزب الاستقلال، التي جاءت بعدها، قبل أن يصطف في المعارضة خلال حكومة عبدالإله بنكيران في الفترة بين 2012 و2016 ويعود إلى المشاركة في الائتلاف الحكومي الحالي، بوزير واحد وهو محمد عبدالقادر الذي تولى حقيبة العدل.

ومنذ 2007، أخذ الاتحاد الاشتراكي أكبر الأحزاب اليسارية في التراجع عندما انتقل عدد مقاعده من 50 في 2002 إلى 38 مقعدا. واستمر التراجع عندما نال الحزب 20 مقعدا فقط من أصل 395 في انتخابات 2016، بتراجع 19 مقعدا عن انتخابات 2011.

وفضلا عن الاتحاد الاشتراكي الذي يشكل اليوم القوة السابعة في مجلس النواب الغرفة الأولى للبرلمان، يمثل اليسار أيضا كلّ من حزب التقدم والاشتراكية بنحو 12 مقعدا، الذي كان لديه 18 مقعدا في 2011، وفيدرالية اليسار الديمقراطي بمقعدين.

وفي 2019 غادر التقدم والاشتراكية الحكومة والتحق بصفوف المعارضة، بعد أن شارك في حكومة عبدالإله بنكيران الأمين العام السابق لحزب العدالة والتنمية، والسنوات الأولى لحكومة سعدالدين العثماني رئيس الحكومة المغربية والأمين العام لحزب العدالة والتنمية المغربي.

التيار اليساري المغربي
• الاتحاد الاشتراكي المشارك في حكومة سعدالدين العثماني، هو أول حزب يساري تأسس في 1959

• التقدم والاشتراكية المعارض تأسس في العام 1974

• فيدرالية اليسار الديمقراطي المعارضة تأسست في 2014، وهي تحالف من 3 أحزاب هي الاشتراكي الموحد والطليعة الديمقراطي الاشتراكي والمؤتمر الوطني الاتحادي

• أحزاب يسارية أخرى غير ممثلة في البرلمان

وخلال أكتوبر 2019 قرر حزب التقدم والاشتراكية المغربي مغادرة الحكومة، بسبب ما أسماه «الصراع بين مكوناتها». وقال بيان للمكتب السياسي حينها إن “قرار عدم الاستمرار في الحكومة الحالية، بسبب استمرار الصراع بين مكونات الأغلبية الحكومية».

ولفت إلى أن الوضع غير السوي للأغلبية الحالية مرشح للمزيد من التفاقم في أفق العام الحالي باعتبارها سنة تشهد تنظيم انتخابات برلمانية الصيف المقبل، مما سيحول دون أن تتمكن الحكومة من الاضطلاع بالمهام التي تنتظرها.

خط ثالث خارج المواجهة
حاولت قوى يسارية، في مقدمتها فيدرالية اليسار الديمقراطي، أن تقدم نفسها خطّا ثالثا خارج المواجهة بين الإسلاميين والليبراليين التي تهيمن حاليا على المشهد السياسي المغربي، لكنها لم تفلح.

ويعتبر محمد مصباح مدير المعهد المغربي لتحليل السياسات أن الأحزاب اليسارية بالمغرب عرفت تراجعا واضحا خلال الفترة بين 2002 و2007، واستمر منحى التراجع، الذي بدأ مع قيادة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الحكومة.

ولدى مصباح سببان يمكن بهما تفسير ذلك، الأول القابلية للانقسام، حيث أن الأحزاب اليسارية بالمغرب ظاهرة انقسامية وتميل نحو التشتت، وثانيهما عدم تطور خطاب اليسار مع تطور المجتمع، إذ ما زال يحافظ على خطاباته الكلاسيكية.

ولفت الباحث السياسي المغربي في تصريحات نقلتها وكالة الأناضول، إلى أن كل محاولات تجميع اليسار باءت بالفشل، رغم يقين الأحزاب اليسارية أن عدد الأصوات التي تحصل عليها مجتمعة تقترب أو تساوي ما يحصل عليه العدالة والتنمية الإسلامي الذي يقود ائتلافا حكوميا منذ 2012.

وثمة قناعة بين الأوساط السياسية المغربية بمن فيهم مصباح من أن أي محاولة للم شمل اليسار في المستقبل يكون مآلها الفشل، ولا أدل على ذلك مما حصل لفيدرالية اليسار الديمقراطي، التي لم تستطع أن تصمد دون مشكلات رغم أنها تحالف لثلاثة أحزاب يسارية فقط.

وقال مصباح إن “اليسار لا يعيش مرحلة الموت السريري بل مرحلة نهاية فكرة اليسار، وهو ما يشكل خلخلة للتوازن السياسي في المغرب”. وأضاف “في السابق كانت لدينا أحزاب يسارية قوية مقابل أحزاب إسلامية ثم أحزاب الإدارة، لكن اليوم لم يعد في الساحة سوى الإسلاميين وأحزاب الإدارة وأحزاب يسارية ضعيفة”.

عند النظر إلى نشاط اليسار المغربي عن كثب يمكن قراءة الكثير من السياسات التي يتبعها في طيات المشهد المتحرك، لكن الموقف الأكثر المثير للاهتمام هو المعاناة في انتزاع مكان له كما هو الحال مع تيار اليسار في تونس.

ويرى عباس بوغالم أستاذ العلوم السياسية بجامعة محمد الأول في وجدة، أن الحديث عن وضعية اليسار بالمغرب على وجه الإجمال يطرح في حد ذاته صعوبات موضوعية ومنهجية، لذلك عن تفكيك ما يحصل ينبغي استحضار بعض التباينات والاختلافات التي تميز بعض مكونات الكتلة اليسارية، رغم أن القواسم المشتركة بينها غالبة.

وتتمثل القواسم المشتركة أساسا في معاناة هذه الأحزاب من أعطاب بنيوية عميقة، تجعل الحديث عن الأحزاب اليسارية مقترنا بسمة الأزمة، وبات الجميع أمام متن خطابي تحليلي لأزمة اليسار المغربي وليس لليسار المغربي.

ولا يختلف بوغالم عن موقف مصباح وهو يؤكد أن أزمة اليسار مركبة، ترتبط بالجوهر والمضمون وليس بالأعراض، أي أن أزمة اليسار المغربي أزمة فكرة وأزمة مشروع اليسار في حد ذاته، وبالتالي فإن مستقبل أحزاب اليسار في ضوء الانتخابات المرتقبة، سيظل محدودا في إطار المشهد السياسي الراهن.

قوى يسارية حاولت أن تقدم نفسها خطّا ثالثا خارج المواجهة بين الإسلاميين والليبراليين التي تهيمن حاليا على المشهد السياسي المغربي لكنها لم تفلح

وليس ذلك فحسب، بل إن حجم تمثيليته في المؤسسة البرلمانية، سيظل محدودا في ظل واقع التشظي والانقسام للعائلة اليسارية وحالة الصراع الداخلي بين مختلف مكوناتها، حيث بلغت المكونات اليسارية تسعة أحزاب سياسية في مرحلة من مراحل تطوره.

في المحصلة، يعتقد بوغالم أن التيار السياسي اليساري فاقد لأي تأثير سياسي وأيديولوجي، بل أصبح خارج دائرة الصراع حول السلطة، وهو ما يعكسه التراجع اللافت للحضور الانتخابي لمجموع الأحزاب اليسارية في انتخابات 2016 والتي لم تتجاوز 34 مقعدا، حصيلة أربعة أحزاب يسارية إضافة إلى فيدرالية اليسار الديمقراطي.

العرب