تغاضت أغنى وأقوى دولة في التاريخ لفترة طويلة عن ارتفاع مستويات الفقر في صفوف الأطفال، ومع الموافقة على خطة التحفيز الاقتصادي التي وضعها الرئيس الأميركي جو بايدن بقيمة 1.9 تريليون دولار، يبدو أن الولايات المتحدة تسير في الطريق الصحيح، وهو ما يمكن أن نستخلصه من تجربة بنغلاديش الملهمة.
في تقرير نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” (New York Times) الأميركية، يقول الكاتب نيكولاس كريستوف إن أبرز ما تتضمنه خطة التعافي الاقتصادي الجديدة هو البنود التي تهتم بتقليص معدلات الفقر بين الأطفال من خلال زيادة مبالغ الائتمان الضريبي.
وتشير دراسة أجرتها جامعة كولومبيا، إلى أن معدلات الفقر بين الأطفال ستنخفض إلى النصف في حال تنفيذ الإجراءات التي تضمنتها خطة الإنعاش، وبهذه الطريقة سيكون بايدن قد قدّم لأطفال الولايات المتحدة شيئا مشابها لما فعله فرانكلين روزفلت مع كبار السن عبر إقرار قوانين الضمان الاجتماعي.
وحسب الكاتب، يمثل ذلك ثورة في السياسات الاقتصادية الأميركية وإدراكا متأخرا بأن من مصلحة المجتمع بأكمله محاربة الفقر في صفوف الأطفال، وهو ما يمكن فهمه بشكل أفضل عند النظر إلى تجارب دول أخرى، وتحديدا تجربة بنغلاديش.
رفع مبالغ الائتمان الضريبي للأطفال يجب أن تتحول إلى سياسة دائمة في الاقتصاد الأميركي (أسوشيتد برس)
تجربة ملهمة
يقول الكاتب إن دولة بنغلاديش كانت تعاني عند استقلالها عن باكستان قبل 50 عاما من آثار الحرب والفقر، وقد أظهرت صور المجاعة التي عاشتها البلاد عام 1974 حجم المعاناة التي تعيشها الدولة الفتية.
ويتذكر الكاتب أنه كتب مقالا لصحيفة نيويورك تايمز عام 1991، بعد تغطية إعصار في بنغلاديش أسفر عن مقتل أكثر من 100 ألف شخص، عبّر فيه عن تشاؤمه بشأن مستقبل البلاد في ظل ما تعانيه من مآس وما تواجهه من تحديات، لكن تشاؤمه لم يكن في محلّه، حيث تغيّرت الأمور منذ ذلك الحين بشكل جذري.
ارتفعت معدلات النمو الاقتصادي في بنغلاديش بشكل مطرد، وخلال الأعوام الأربعة التي سبقت انتشار فيروس كورونا، حقق الاقتصاد البنغالي معدلات نمو تتراوح بين 7 إلى 8% سنويا، وفقا للبنك الدولي.
كما ارتفع متوسط العمر المتوقع في بنغلاديش إلى 72 عاما، وهو أعلى من متوسط العمر في العديد من المناطق الأميركية، بما في ذلك 10 مقاطعات في ولاية مسيسيبي.
ويرى الكاتب أن السر وراء هذا التقدم الذي حققته بنغلاديش هو التركيز على التعليم ودعم الفتيات. وفي أوائل الثمانينيات، كان أقل من ثلث سكان بنغلاديش قد أكملوا دراستهم في المرحلة الابتدائية، ونادرا ما كان يُسمح للفتيات بالذهاب إلى المدارس.
لاحقا، قامت الحكومة والمنظمات المدنية بدعم التعليم، بما في ذلك تعليم الفتيات، وتشير الأرقام الحالية إلى أن 98% من الأطفال في بنغلاديش يكملون تعليمهم الابتدائي، والأمر المثير في بلد لديه تاريخ من الفجوات بين الجنسين -حسب الكاتب- هو أن عدد الفتيات في المدارس الثانوية يفوق عدد الفتيان.
ويقول محمد يونس، رجل الاقتصاد الأشهر في تاريخ البلاد والحائز على جائزة نوبل للسلام عام 2006، إن “الأمر الأكثر دراماتيكية الذي حدث لبنغلاديش يتعلق بتغيير وضع المرأة، بدءا من أكثر النساء فقرا”. وقد أسس يونس بنك “غرامين” (مصرف القرية) الذي حوّل النساء إلى رائدات أعمال وساعدهن في تغيير وجه البلاد.
تعليم الفتيات جعل منهن لاحقا ركيزة أساسية في تطور اقتصاد بنغلاديش، حيث منحت مصانع الملابس في البلاد فرصا أكبر للنساء، وأصبحت بنغلاديش الآن أكبر مصدّر للملابس في العالم بعد الصين.
كما شغلت النساء المتعلمات وظائف في المنظمات الخيرية والإنسانية، وساعدن في تنفيذ حملات تطعيم الأطفال والترويج للمراحيض وتعليم القرويين والحد من زواج الأطفال.
ويصف البنك الدولي بنغلاديش بأنها “قصة ملهمة للحد من الفقر”، حيث انتُشل 25 مليون مواطن من براثن الفقر على مدى 15 عاما، وانخفضت نسبة التقزم بين الأطفال بسبب سوء التغذية إلى النصف تقريبا منذ عام 1991، وهي الآن أقل من نسبة التقزم في الهند.
الفئات المهمشة
نجاح تجربة بنغلاديش يعود بالأساس إلى الاستثمار في ثروتها الأقل استخداما والأكثر تهميشا والأقل إنتاجية، وهم فقراؤها، وهو العامل الذي مكّنها من تطوير اقتصادها ورفع معدلات النمو.
ويمكن أن يكون الشيء ذاته فعالا في الولايات المتحدة، حيث إن الدولة سوف تستفيد بشكل كبير إذا تمكّنت من مساعدة واحد من كل 7 أطفال أميركيين لم يستطيعوا إكمال دراستهم في المرحلة الثانوية.
ويؤكد الكاتب أن ما تتضمنه خطة بايدن بشأن رفع مبالغ الائتمان الضريبي للأطفال يجب أن تتحول إلى سياسة دائمة في الاقتصاد الأميركي، قائلا إن تجربة بنغلاديش “تذكرنا أن الاستثمار في الأطفال المهمشين لا يتعلق فقط بالجانب الإنساني، بل يعني مساعدة الأمة على تحقيق التقدم”.
المصدر : نيويورك تايمز