واشنطن – مع أكثر الإجراءات سطحية لدبلوماسية الفاتيكان، اعتُبرت زيارة البابا فرنسيس للعراق نجاحا باهرا، حيث دعم ما تبقى من السكان المسيحيين بالبلاد ودفع جهوده لتوحيد الأديان من خلال لقاء علي السيستاني وإلقاء خطاب في أور مهد ولادة النبي إبراهيم.
وقد أعادت رحلة البابا للعراق مطلع هذا الشهر إلى عناوين الأخبار عاملا غير تنظيم داعش، أو الهجمات الصاروخية على السفارة الأميركية أو إيران أو اللاجئين أو مجموعة من المشكلات الأخرى، التي هزت البلاد منذ الغزو الأميركي في 2003. ولم يكن هناك شك أن البابا بدا مثل أي شخص آخر سعيدا جدا بالخروج من منزله لأول مرة منذ سنة.
والجدل الوحيد جاء في اجتماع أور، حيث لم يكن هناك ممثلون يهود، إما بسبب قلة عددهم وبالتالي صعوبة العثور عليهم، وإما لأنهم لم يتلقوا دعوة من المسؤولين العراقيين. ومع ذلك، كانت إقامة البابا في العراق رمزية إيجابية لا يمكن إنكارها.
وطرح ستيفن كوك، زميل أقدم في إيني إنريكو ماتي لدراسات الشرق الأوسط وأفريقيا في مجلس العلاقات الخارجية في تقرير نشرته مجلة “فورين بوليسي” الأميركية، تساؤلا يبدو مهما ويتعلق حول ماذا ستؤول إليه الأوضاع الآن بعد هذه الزيارة “التاريخية”.
المؤكد أنه بمرور الوقت ستختفي الملصقات التي رحبت به وتبقى مشكلات العراق. ولهذا السبب، يميل المحللون إلى التعامل مع هذه الأنواع من الزيارات على أنها عروض جانبية. ففي زيارة سابقة للشرق الأوسط وتحديدا إلى الإمارات، وقع البابا وإمام الأزهر الشيخ أحمد الطيب ما أطلق عليه “وثيقة الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك”.
لكن، لم يكن هناك الكثير من الأخوة والسلام في الشرق الأوسط منذ ذلك الحين، ويرى كوك أن ثمة أسبابا للاعتقاد بأن اهتمام الفاتيكان المستمر بالشرق الأوسط سيؤدي إلى بعض الفوائد الدبلوماسية العملية هناك.
وعندما ألقى البابا خطابا قال فيه “كم صلَّيْنا في هذه السنين مِن أجل السّلام في العراق!، لم يوفّر البابا القدّيس يوحنا بولس الثاني المُبادَرات، ولاسيما الصّلَوات والآلام مِن أجل السَّلام”، فإن الإشارة إلى القديس يوحنا بولس الثاني في نهاية الخطاب جديرة بالملاحظة لأنه كان يأمل في أن يزور العراق في العام 2000، لكن الفاتيكان لم يتمكن من التوصل إلى اتفاق مع الحكومة العراقية.
ورغم أن المعلومات تشير آنذاك إلى أن العراق رفض استقباله بتعلة حظر الطيران الذي فرضته الولايات المتحدة، غير أن كوك ألمح إلى أنه ربما كان صدام حسين ومستشاروه يشككون في البابا، ليجزم في موقفه قائلا “أنا على استعداد للمراهنة على أن نائب رئيس الوزراء العراقي في ذلك الوقت، طارق عزيز (كاثوليكي كلداني) كان على دراية بالدور الاستثنائي الذي لعبه البابا في قضايا السياسة الخارجية الكبرى في عصره”.
ويجسّد البابا قوة أخلاقية حاسمة شجعت حركة التضامن البولندية لمواجهة الحكومة الشيوعية، مما ساعد على تحفيز نهاية الحرب الباردة. كما دعم إعادة توحيد أوروبا، وأضفى هيبته على الحرب ضد الفصل العنصري، وعارض كلاّ من عملية عاصفة الصحراء والغزو الأميركي للعراق بعد 12 عاما.
كما تحدث عن حرية التعبير وحقوق الإنسان بطرق منحت أولئك الذين عملوا لتحقيق هذه الأهداف غطاء سياسيا وأخلاقيا لمتابعة أجنداتهم. وعندما استسلم لمضاعفات الإنفلونزا بعد 27 عاما، حزن الناس من جميع الأديان على وفاته.
ويحمل البابا فرانسيس الشعلة بطريقته الخاصة، ويتبع يوحنا بولس بإعطاء صوته الفريد للشرق الأوسط لأن المنطقة مليئة بالمعاناة، ويظل قادتها وقادة القوى الخارجية غير قادرين أو غير راغبين أو متواطئين في الصراعات التي أودت بحياة الكثيرين وإصابتهم وتشريدهم.
ويبدو أن هناك دورا يلعبه البابا فرانسيس في إيجاد طريق للمضي قدما في المنطقة، وليس بالضرورة تحديد الأساس الديني للسلام وتعزيزه في بعض المبادرات الدبلوماسية بقيادة الفاتيكان، رغم أنه قد يكون هناك مجال لذلك.
ويقول كوك مؤلف كتاب “الفجر الكاذب: الاحتجاج والديمقراطية والعنف في الشرق الأوسط الجديد” إن سلطة البابا قد لا تكون في حاجة إلى “ناتج”، كما ينتظر السياسيون الأميركيون، بل يكمن تأثير البابا فرانسيس في قوة صوته لتشجيع التغيير، وتشبع أولئك الذين يسعون إلى السلام بشجاعة، ولوم أولئك الذين يستخدمون العنف لدفع أجنداتهم.
وفي بعض النواحي، يفعل البابا هذا فقط من خلال منصبه. ولكن، إذا كانت قوة فرانسيس مستمدة من التقدير الذي يحظى به بين جمهوره، فإن الترحيب الحار الحقيقي الذي تلقاه في جميع أنحاء العراق يشير إلى أن لديه فرصة قوية لإحداث فرق دبلوماسي في المنطقة.
ولا ينبغي أن يتوقع أحد من البابا أن يحل مشكلات المنطقة، ولكنه إذا تحدث بقوة حول قضايا محددة، فقد يكون قادرا على إحداث فرق، وضرب كوك مثالا على ذلك وهو لبنان، الذي يحتضن عددا كبيرا من المسيحيين، وهو على وشك الانهيار، وقال “إذا خاطب البابا فرانسيس الشعب اللبناني بشأن قضية الفساد، فقد يساعد ذلك أولئك الذين كانوا يعملون في الشوارع وفي أماكن أخرى على تخفيف قبضة الطبقة السياسية”.
وتبقى هيبة البابا فرنسيس والقوة الأخلاقية التي يقدمها لأي قضية العنصر الأهم، إذ يمنح القوة لأولئك الذين يريدون العيش في مجتمع أكثر عدلا من خلال استئصال الفساد من خلال التحدث نيابة عنهم.
كما قد تكون سوريا مكانا يمكن أن يحقق فيه فرانسيس بعض الإيجابيات، فإذا تحدث بقوة عن الطريقة التي استهدف بها النظام وأنصاره في موسكو وطهران المستشفيات وقصف المدنيين عشوائيا، فربما سيجبر المهاجمين على التريث.
ومع ذلك، سيستمر السياسيون الفاسدون في التذمر، ولن يصلح بشار الأسد نفسه، لكن يبدو أن لسلطة البابا الأخلاقية تأثيرا ديناميكيا على السياسة والدبلوماسية والبيئة الدولية كما أوضحت تجربة البابا يوحنا بولس الثاني.
وذهب المحلل كوك إلى أبعد من ذلك، من خلال تخيل لو تحدث البابا فرانسيس بشكل مباشر ومستمر عن معاملة السياسيين الأكراد في تركيا وانتهاكات حقوق الإنسان في مصر. وقال “كان يمكن أن توفر كلماته منافذ سياسية ودبلوماسية للتعامل مع هذه القضايا بطريقة لم تكن متاحة من قبل، وذلك لأن المسؤولين الأتراك والمصريين يعرفون أن نظرة البابا مركزة عليهم. فرغم طبيعة زعماء هذه الدول، إلا أن تحدي البابا صعب”.
العرب