ظاهرة هجرة العقول لا تستثني الغرب

ظاهرة هجرة العقول لا تستثني الغرب

أثرت جائحة كورونا، التي تواجهها دول العالم منذ أكثر من سنة وتحاول الحدّ من تداعياتها، على الاقتصادات الكبرى ومن بينها الاقتصاد الأوروبي الذي لا يزال يدرس المصادقة على مشروع صندوق إنعاش. لكن الأزمة الصحية بدأت تنذر بأزمة كبرى تطرق أبواب أوروبا وتعيد توزيع الخارطة الجغرافية لـ”الوظائف العقلية” وتدفع بالأدمغة إلى الهجرة نحو البلدان الأوروبية الأكثر ثراء واستقرارا اقتصاديا.

بروكسل – تركز الدول الأوروبية على كيفية معالجة الصدمة الاقتصادية الناجمة عن جائحة كورونا، ولكن خلف الكواليس هناك تغييرات أكبر تعيد تشكيل توزيع وظائف العقل في أوروبا.

ولا يعتبر التسريح من الوظائف وإعلان بعض الشركات الرئيسية عن إفلاسها سوى جزء من الأزمة. فقد أصاب الوباء أيضا العديد من الشركات الأصغر حجما وأزال بصمتِ العديد من الوظائف الوقتية، ودفع العقول إلى الهجرة نحو الدول الأكثر ثراء.

وبالتعاون مع شركة “نورديك كابيتال”، وهي شركة الاستثمار في مجال الأسهم الخاصة، قام المركز الأوروبي لريادة الأعمال وإصلاح السياسات برسم خارطة تتضمن وظائف العقل في أوروبا.

قامت الخارطة بفحص الوظائف في أربع صناعات وهي قطاع التكنولوجيا، وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، والخدمات المتقدمة والمهن الإبداعية.

ويقول نيما سانانداجي وكلاس تكانين المشرفان على الدراسة إنه عند قياس النسبة المئوية للعاملين في 31 دولة أوروبية و283 منطقة الذين يشتغلون في هذا النوع من الـ”الوظائف العقلية”، وجدت الدراسة تحولات كبيرة في التوزيع الجغرافي لصناعات المعرفة في أوروبا.

وقبل جائحة كورونا كانت وظائف العقل تنمو بشكل مطرد في أوروبا. وبين عامي 2013 و2019 تمت إضافة 509 آلاف وظيفة في قطاع المعرفة كل عام إلى اقتصادات الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بالإضافة إلى المملكة المتحدة وسويسرا والنرويج وأيسلندا.

ولكن في عام 2020 انخفض العدد الإجمالي لهذه الوظائف للمرة الأولى منذ بدء الدراسة قبل خمس سنوات بنحو 167 ألفًا، باستثناء منطقة الشمال التي أضافت 8600 وظيفة في مجال الأعمال المعرفية خلال عام 2020 على الرغم من الوباء. والتفسير المحتمل هو أن الشركات الأسكندنافية كانت قادرة على الوصول إلى رأس المال المخصص للنمو.

وفي غضون ذلك يوضح كلاس تكانين وهو الرئيس التنفيذي للعمليات في شركة “نورديك كابيتال” في تقرير الشركة أن جغرافيا وظائف الأعمال المعرفية قد تغيرت. حيث على الرغم من أن أعلى تركيز لهذه الوظائف يقع في سويسرا وتليها السويد وهولندا ولوكسمبورغ والدنمارك، إلا أن النمو كان أقوى في أماكن أخرى.

ومنذ عام 2014 شهدت قبرص زيادة بنسبة 50 في المئة تقريبًا في وظائف العقل، بينما شهدت سلوفاكيا والمجر وبولندا ولاتفيا والبرتغال وبلغاريا زيادة بنسبة الثلث أو أكثر. وفي إستونيا زادت وظائف العقل بنسبة أقل من الثلث بقليل.

وفي المقابل تمتلك إستونيا والمجر حاليًا نسبة أعلى من السكان العاملين في وظائف العقل، كما يشير التقرير، من العديد من الدول الأوروبية الأكثر ثراءً مثل النرويج وبلجيكا والنمسا وفرنسا. وفي الوقت نفسه فإن المدينة التي تمتلك أعلى تركيز لوظائف العقل هي منطقة العاصمة السلوفاكية براتيسلافا، حيث يعمل 22 في المئة من سكانها في هذا القطاع.

وتشهد براتيسلافا والمناطق الأخرى نموًا سريعًا (براغ وبودابست ووارسو وبوخارست) حيث تستضيف حوالي 923 ألف وظيفة في مجال الأعمال المعرفية (تقريبًا مثل لندن). ويوجد في براتيسلافا وبراغ وبودابست نسبة تركيز أعلى في وظائف العقل للفرد الواحد مقارنة بلندن، في حين أن وارسو وبوخارست أقل قليلاً. ويعود ذلك بشكل جزئي إلى التخطيط، حيث أدى انخفاض تكلفة العمالة وازدياد نسبة الشباب الذين يستثمرون في التعليم العالي إلى حدوث طفرة في مجال وظائف العقل في دول وسط وشرق أوروبا.

وفي غضون ذلك ينمو القطاع في أجزاء من أوروبا تجمع بين الرواتب والضرائب المنخفضة واللمسة الاقتصادية للسوق الحرة. أحد الأمثلة على ذلك هي إستونيا التي يبلغ عدد سكانها 1.3 مليون نسمة فقط ولكنها تحتل المرتبة العاشرة من حيث التركيز في الوظائف العقلية للفرد الواحد.

ومنذ وقت ليس ببعيد كان اقتصاد مالطا متخلفًا نسبيًا، لكن التحول نحو سياسات السوق الحرة جعلها مركزًا للصناعات مثل ألعاب الإنترنت و”البلوك تشين”.

وقد لا تكون مثل هذه التطورات التي تحدث في الدول الصغيرة مثل إستونيا ومالطا ذات أهمية كبيرة على المسرح العالمي. ومع ذلك فهي تشكل مستقبل أوروبا. فالدول الأوروبية مثل فرنسا وبلجيكا احتكرت الصناعات المتقدمة لعدة قرون ولكنها تتخلف ربما لأن الضرائب المرتفعة واللوائح التنظيمية البيروقراطية تثبط من القضاء على الصناعات القديمة. وبالمقارنة تنمو وظائف العقل في منطقة الشمال التي لديها ضرائب مرتفعة ولكن هياكل تنافسية أكثر انفتاحًا.

وفي المقابل أصبحت العواصم في شرق ووسط أوروبا جزءًا من آلة الابتكار الأوروبية، حيث يتم تأسيس الشركات الجديدة الناجحة باستمرار إما في شرق ووسط أوروبا أو تدخل الشركات في شراكة مع أخرى هناك.

ومن الشائع أن تقوم شركات دول الشمال الأوروبي وأوروبا الغربية بنقل جزء من أعمالها إلى مراكز المعرفة في شرق ووسط أوروبا لتقليل التكاليف. وهذه تعد بداية لعملية تزداد فيها دول أوروبا الشرقية والوسطى أهمية اقتصادية وسياسية.

خلص التقرير إلى أن أوروبا بشكل عام لا تزال تعاني من فجوة في ريادة الأعمال مقارنة بالولايات المتحدة، كما يتضح من عدد المليارديرات الأميركيين الذين يشكلون قائمة فوربس.

ومنذ العام 2019 كشف تقرير صادر عن البنك الدولي أن تدفقات الهجرة العالمية ﺗﺗرﮐز ﺑدرﺟﺔ ﮐﺑﯾرة حسب المكان والمهنة. ففي الوقت الحالي تمثل أكبر 10 بلدان مقصد 60 في المئة من نحو 250 مليون مهاجر على الصعيد العالمي. ويعيش في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وكندا وأستراليا ثلثا المهاجرين ممن حصلوا على التعليم الجامعي. وفي أعلى قمة المواهب توجد في الولايات المتحدة نسبة مذهلة تبلغ 85 في المئة من جميع الفائزين بجائزة نوبل للعلوم.

وفي عام 2020 ازداد عدد المليارديرات في الولايات المتحدة من 607 إلى 614 مليارديراً معظمهم في قطاعات التكنولوجيا وغيرها من القطاعات المعرفية، بينما ازداد عددهم في الصين من 324 إلى 389.

وبالنسبة إلى الدول الأوروبية الخمس الرائدة ألمانيا والمملكة المتحدة وفرنسا وإيطاليا وسويسرا، فإن هذا العدد ينخفض بشكل ملحوظ.

ومع ذلك يرى سانانداجي أن مستقبل ريادة الأعمال والنمو الأوروبي يبدو مشرقًا، حيث تتصاعد المنافسة بين دول الاتحاد الأوروبي. ومع ازدهار وظائف العقل في الشرق سيتعين على فرنسا وبلجيكا العمل لجذب رأس المال الاستثماري، مما يعني تبني صناعات جديدة.

ومنذ بداية الحضارة الأوروبية إلى عصر النهضة والثورة الصناعية كانت المنافسة بين الدول المجاورة التي تسعى لجذب الأعمال التجارية هي الصيغة الرابحة لأوروبا.

وحسب تقرير للبنك الدولي يحمل عنوان “الانتقال من أجل الرخاء: الهجرة العالمية والعمل” أسباب الهجرة، فإن هجرة الأدمغة انتشلت الملايين من الناس من براثن الفقر وعززت النمو الاقتصادي، غير أن بلدان المقصد تخاطر بفقدان قدرتها على المنافسة عالميا على المواهب، وترك فجوات كبيرة في أسواق العمل بعدم تنفيذ سياسات تتعامل مع قوى سوق العمل وعدم إدارة التوترات الاقتصادية قصيرة المدى.

ويشير التقرير إلى أن الفوارق الكبيرة والمستمرة في الرواتب في جميع أنحاء العالم تمثل الدافع الرئيسي للهجرة الاقتصادية من البلدان منخفضة الدخل إلى البلدان مرتفعة الدخل.

العرب