شهدت الأيام الأولى من شهر رمضان تصعيداً بين المستوطنين المدعومين بتحيز (الشرطة الإسرائيلية) وأهالي القدس الشرقية، من مسلمين ومسيحيين فلسطينيين دفاعاً عن حرية العبادة في المسجد الأقصى، ومع أن كثيراً من الأنظمة الرسمية العربية تباطأت في اتخاذ مواقف مناصرة للفلسطينيين، تدين بوضوح ونبرة واضحة السلوك الإسرائيلي العدواني، إلا أن انتفاضة باب العامود الموجزة والصغيرة في زخمها وخسائرها، تعتبر مكسباً سياسياً للفلسطينيين، ترافقه كالعادة مجموعة من الفخاخ الأخرى التي تزرعها الاستراتيجية الإسرائيلية في جغرافيا الصراع القائم.
تمكن الفلسطينيون من خلال صمودهم وأعمال الكر والفر الباسلة، من تحييد قطعان المستوطنين والسيطرة على الأرض في محيط التأزم، ودفع الشرط4ة لإزالة الحواجز التي كانت تشكل الرمز الذي يدور حوله الصراع، وارتجالياً كان الشباب الفلسطيني يعطي درساً لمدمني المفاوضات بجولاتها الماراثونية في الفنادق والمنتجعات، وتحت الرعاية الدولية، فالتفاوض بين الشباب والشرطة كان من أرض الصراع مباشرة، وأثبت الشباب من أرض الصراع أن المفاوضات في مسألة الحقوق والوجود لا تحتاج إلى شهادات متقدمة من أرقى جامعات العالم، أو إتقاناً للغات، أو حرصاً على المظهر، وهو الأسلوب الفيتنامي الذي لم يدركه المفاوض الرسمي الفلسطيني في العقود الأخيرة.
تفاصيل الانتصار الميداني الفلسطيني واضحة، ولا تحتاج كثيراً من التفلسف، ومن المعيب ادعاء شيء من الفخر من الجالسين على الأرائك وفي المكاتب بعيداً عن خط المواجهة، حتى لو كانت هذه المكاتب في رام الله القريبة. مع ذلك يجب الانتباه إلى الاستراتيجية الأوسع التي تحاول أن تدفع بالصراع تجاه القدس المدينة، والمقدسات الإسلامية والمسيحية فيها، وتستنزف الفلسطينيين في مواجهة حول هذه القضية، بينما تمرر مشروعاتها في قضايا أخرى مثل اللاجئين والمياه والسيادة على الأرض. إسرائيل دولة صهيونية، والمؤسسون الأوائل لم يكونوا من المتدينين اليهود، صحيح أنهم استثمروا الروايات اليهودية، إلا أن ذلك لا ينفي مطلقاً الصبغة الاستعمارية، التي بدت واضحة منذ الحديث عن التقسيم، الذي تمركزت المطالب الإسرائيلية فيه حول المناطق الساحلية التي لم تكن يوماً جزءاً أصيلاً من تاريخية وجودهم القصير في شكل سياسي على أرض فلسطين، وذلك يلبي المتطلبات الاستعمارية، بينما تركت مناطق أخرى كان لها تاريخها في الحديث التوراتي مثل، نابلس والخليل وأريحا كمناطق عربية، وهو ما يدحض نظرية أرض الميعاد، التي ليست في الحقيقة سوى رأس متقدم للاستعمار الغربي.
انتفاضة باب العامود يمكن أن تتحول إلى حالة فلسطينية ممتدة ومتواصلة تضع الاستيطان تحت الضوء
صهيونية إسرائيل تدفعها لاستفزاز متواصل للعرب في قضية القدس، بينما يجري تغيير الواقع على الأرض في كل مكان آخر من الضفة الغربية، والدول العربية التي ما زالت تحاول اتخاذ مواقف إيجابية تجاه القضية الفلسطينية، دفعت إلى سياسة إطفاء الحرائق التي تشتعل عمداً حول المقدسات، لتبعد القضايا ذات البعد الإنساني بتعقيداتها ومشكلاتها، فتصبح احتجاجات سكان القرى في مواجهة التعديات على أراضيهم أحداثاً عارضة وروتينية. أما الدول العربية التي تحررت من أعباء اتخاذ مواقف قومية بشكل عام، واعتبرت الفلسطينيين طرفاً مثل الإسرائيليين قفزاً على حقائق التاريخ، فقضية القدس تمثل فضاء مريحاً لما تتخذه من بعد دولي وإسلامي بشكل عام، أي أن حصتها في المواجهة تتضاءل ويمكن للفلسطينيين أن يبحثوا عن حلفاء في مكان آخر من العالم، ماليزيا وإندونيسيا ومالي وتشاد مثلاً. التقدم بالانتصار وتحويله إلى مكتسبات معنوية وفعلية أمر مطلوب، والانتباه لفخاخ إسرائيل في المستقبل مسألة ضرورية، فنبرة رئيس الوزراء الإسرائيلي لم تكن مريحة، وتحدث عن التهدئة على غير عادته، وهو ما يعني خسارة أمام تيار التشدد في (إسرائيل) وتعويض هذه المسألة سيكون من طرف آخر وفي المدى البعيد، فهل ينتبه الفلسطينيون إلى أن أمامهم فرصة تاريخية لوضع قضية الاستيطان والسلوك العدواني للمستوطنين، فانتفاضة باب العامود يمكن أن تتحول إلى حالة فلسطينية ممتدة ومتواصلة تضع الاستيطان تحت الضوء، في مرحلة حرجة تجري خلالها محاولات لتسريع البحث عن تسوية في صفقة القرن، التي حولت الأراضي الفلسطينية إلى فسيفساء مفككة تشبه السجون الكبيرة.
صفقة القرن لم تصبح جزءاً من الماضي، فهي وضعت الفلسطينيين تحت ضغط كبير جداً وحاصرتهم تفاوضياً في الأشهر الأخيرة، ومهما كانت السياسة الأمريكية الجديدة متعاطفة معهم، فإنها لن تتقدم لتخرجهم من زاوية الصفقة، وستعمل على التخفيف من إجراءاتها وتحويل ذلك إلى انتصارات ترضي المفاوض الفلسطيني وتجعله تحت ضغط بعض الدول العربية، مع أنها ستبقى أقل بكثير من أدنى سقف كان يتشكل أمام الفلسطينيين قبل سنوات، وكأن الأمر يؤول بمجمله إلى مقولة «غزة ـ أريحا أولاً وأخيراً» التي دفعتها بعض القوى الوطنية وهي تتخوف من السلوك الإسرائيلي في مسألة السلام المبني على مفاوضات متعجلة، ومتجردة من أدواتها المقاومة في أوسلو وما تبعها، ووقوع الفلسطينيين قبل ذلك في فخ تجريد القضية من عمقها العربي، وإزاحة عبء المسؤولية الأخلاقية والقومية عن الدول العربية. ما يمكن أن يواجه صفقة القرن وتحيزها للمستوطنين، والواقع الذي فرضوه على الأرض منذ التسعينيات هو وضع الاستيطان بوصفه تحدياً إنسانياً ووجودياً أمام الفلسطينيين، ينتزع منهم الصفة الإنسانية ويخضعهم لسياسة مذلة من الفصل العنصري الذي يعتبر النموذج الإسرائيلي المطروح حالياً.
سامح المحاريق
القدس العربي