100 يوم كافية لتغيّر إدارة بايدن سياستها تجاه السعودية

100 يوم كافية لتغيّر إدارة بايدن سياستها تجاه السعودية

مكتب واشنطن – التواقت بين حوارين تلفزيونيين الأول أجراه ولي عهد المملكة العربية السعودية الأمير محمد بن سلمان مع التلفزيون المحلي الرسمي السعودي والآخر مع شبكة سي.أن.أن الأميركية أجراه وزير الخارجية أنطوني بلينكن، يبدو لافتا ويكاد يقترب من التناغم في تصريحات الرجلين حول الشؤون المعلّقة، وبخاصة تلك التي ترتبط بإعادة صياغة العلاقة بين الطرفين في العهد الأميركي ما بعد الترامبي الذي سيشهد ملامح جديدة لإدارة الديمقراطيين والرئيس جوزيف بايدن تفترق عما كان عليه الحال في إدارة الجمهوريين السالفة على المستويين الدبلوماسي والسياسي في آن.

فإثر توجّس وحذر بليغين في تصّور مستقبل العلاقة بين الدولتين الشريكتين إبان الحملة الانتخابية التي أوصلت الرئيس بايدن إلى البيت الأبيض، وفي المئة يوم الأولى من عمر الإدارة الجديدة ما بعد عهد دونالد ترامب الذهبي مع المملكة، بدأت بوادر من انفراج الأسارير الدبلوماسية تظهر إلى العلن بعد أشهر من التوتر وحبس الأنفاس.

إيران جارة.. ولكن!

الأمير محمد بن سلمان فاجأ الجميع في تقييم علاقته مع خصوم السعودية بالمنطقة ولاسيما إيران حين اعتبرها دولة جارة

في حواره الذي بدا مستقبليا بامتياز أكّد ولي العهد السعودي على استراتيجية الشراكة التي تربط المملكة بالولايات المتحدة والتي يصل عمرها إلى الثمانين عاما من التفاهمات والتنسيق بين البلدين؛ إلا أنه أشار إلى أن مصالح الدول تقضي منها أن تُراعي سياسات معينة قد لا تصبّ دائما في مصلحة الشركاء، بينما تمضي السعودية – وفقا لما أشار إليه الأمير محمد بن سلمان – في التعزيز من شراكاتها شرقا مع الهند والصين وروسيا وغيرها من القوى العالمية المنافسة.

ولم ينسَ الأمير أن يذكّر الولايات المتحدة بعقود النفط السعودي رخيص الثمن التي كانت المستفيدة منها حصرا من غير دول العالم كافة، مشيرا إلى أن تلك العقود التي لم يكن سعر البرميل الخام فيها يتجاوز 3 إلى 6 دولار في أقصى الحدود قد أسهمت في صناعة تفوّق أميركا لتبدو كما هي عليه اليوم.

وكان من المفاجئ أن يذهب ولي العهد بعيدا في تقييم علاقته مع دول المنطقة من الخصوم ولاسيما إيران. فلأول مرة نسمع زعيما سعوديا شابا يقترب بخطى سريعة من تسلّمه العرش يصف إيران بأنها دولة “جارة”، وهو التعبير الذي يفرض في أخلاق الإسلام وتعاليمه حسن الجوار من الطرفين.

وجاء في النص الحرفي للأمير محمد بن سلمان أن “إيران دولة جارة، ونطمح أن تكون لدينا علاقات مميزة معها.. نريد إيران دولة مزدهرة”، وهو تصريح يكاد يلغي تماما موقفه في حوار تلفزيوني سابق حين سُئل عن إمكانية أن تقيم المملكة حوارا مع إيران فقال “كيف تحاور نظاما يقوم على أيديولوجية متطرفة ينص عليها دستوره!”.

تعزيز المصالح مع الرياض
أما ما وراء المحيط الذي يفصل الشرق الأوسط عن القارة الأميركية، فلغة واشنطن بدأت تتّسم بالليونة الدبلوماسية من جديد لجهة القضايا الشائكة التي عكّرت أجواء التفاهمات طويلة العمر بين الرياض وواشنطن، وفي مقدمتها قضية مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي التي أرادت المملكة أن ينحصر التعامل معها ضمن مظلة القضاء المحلي بوصفها قضية داخلية تخصّ مواطنا سعوديا تعرّض لعملية قتل بشعة ووحشية.

في المقابل، كانت الولايات المتحدة محفَّزة بالأصوات العالية لإعلام اليسار الأميركي المؤثّر تضغط باتجاه تدويل القضية وتحويلها إلى رأس حربة للطعن بالسياسات السعودية التي تنظر إليها واشنطن بعدم ارتياح، ولاسيما في ما تعلق بحربها في اليمن وفي ملف حقوق الإنسان وحقوق المرأة.

فأنطوني بلينكن في تصريحاته الأخيرة التي أدلى بها بفارق زمني لا يتجاوز 24 ساعة عن تصريحات ولي العهد، وفي معرض سؤال وجّهه الإعلامي، جاك تابر، وبثته شبكة سي.أن.أن حول طبيعة العلاقة مع المملكة، قال “علينا التفكير في الكيفية التي يمكننا من خلالها تعزيز مصالحنا وقيمنا بشكل أكثر فاعلية. نحن – سواء أحببنا ذلك أم لم نحب- سنحتاج إلى مواصلة العمل مع المملكة العربية السعودية التي ستبقى شريكا لنا في العديد من القضايا”.

وأردف بلينكن “من المرجح أن يكون ولي العهد زعيما للسعودية لفترة طويلة في المستقبل، ونحن من طرفنا علينا أن نعمل مع قادة دول العالم جميعا ولو كان بعضهم قد شارك في سلوك قد نعترض عليه أو نعتبره مستهجنا”.

الرأي العام الأميركي في مستوييه الرسمي والشعبي بدا مرحّباً بخطاب ولي العهد السعودي واستبشر فيه لهجة تصالحية على مستوى المحيط الإقليمي، وتجديدية على مستوى الداخل السعودي، غير مسبوقة.

فالولايات المتحدة التي تريد كما قال بلينكن “إنهاء الحرب في اليمن” تعتبر اللغة الإيجابية التي استعملها الأمير بن سلمان في توصيف العلاقة مع إيران رسالة داعمة لموقف واشنطن في المفاوضات الجارية على قدم وساق في فيينا حول الاتفاق النووي المعلّق. ففي حال توصلت الدول المعنية في المفاوضات إلى اتفاق جديد مع إيران، سيصبح الطريق أقصر لواشنطن في سعيها الحثيث لإخماد نيران الحرب في اليمن التي يعلي من سعيرها الطرف الحوثي بدعم مباشر من الحرس الثوري الإيراني.

كما سيسهّل من عملية تقويض جنوح المتشددين في طهران ويحدّ من مضيّهم في اتخاذ سوريا والعراق منصة عسكرية وسياسية لتحقيق أهدافهم بعيدة المدى في بسط نفوذهم وعقيدتهم على دول المنطقة من خلال سياسة متواصلة تقوم على تصدير الميليشيات العابرة

للحدود، وتمكينها عقائديا ولوجستيا من إحداث الخلخلة اللازمة في النسيج المجتمعي للبلدين وبث روح الفرقة بين أبناء المجتمع الواحد، والدفع بأنصارها ووكلائها في البلدين لإضرام نيران النزعة الطائفية بين الأطراف السياسية المحلية على مبدأ فرّق تسد.

ويتّفق الطرفان السعودي والأميركي على ضرورة تضمين أي اتفاق جديد مع طهران بنوداً تتعلق بالصواريخ البالستية الإيرانية التي تنهال على أراضي المملكة من مقاتلي أنصارالله في اليمن المدعومين والممّولين من الحرس الثوري الإيراني، وكذا ملف الميليشيات الإيرانية العابرة للحدود التي هي رأس حربة تقويض الاستقرار في دول الجوار والتي تمدّ الحوثيين في اليمن بالخبراء والسلاح لاستهداف المنشآت الحيوية والنفطية في المملكة بما يؤثر على استقرار أسواق المال في العالم وعلى الأمن النفطي والاقتصادي الدولي وليس استقرار وأمن الشرق الأوسط وحسب.

لغة واشنطن بدأت تتّسم بالليونة الدبلوماسية لجهة القضايا الشائكة التي عكّرت أجواء التفاهمات الطويلة مع الرياض

ويعتقد الطرفان أن الوصول إلى اتفاق جديد مقبول لمعظم الأطراف وممهور بضمانات تعزّز من فرص تنفيذ كافة بنوده دون ثغرات تسمح لطهران بالنفاذ والتهرّب منها كما حدث في اتفاق 2015 الذي خرجت منه واشنطن ترامب رافعة من ثقل العقوبات على النظام في إيران، سيهيئ في الداخل الإيراني فرصاً أفضل لوصول المعتدلين والإصلاحيين إلى السلطة في الانتخابات القادمة، ما سيؤدي إلى انفراجات إقليمية ودولية تزيل جزءا من آثار الحكم الثيوقراطي المتشدّد الذي وشّح طهران بالسواد منذ العام 1979 حتى تاريخ كتابة هذه السطور.

وبالرغم من هذا المناخ المتفائل في واشنطن والذي عزّزه الطرف السعودي في خطاب مطوّل لولي العهد يكاد يكون برنامجا سياسيا متكاملا لما ستؤول إليه السياسات السعودية المستقبلية على المستويين الداخلي والدولي حال جلوس الأمير محمد بن سلمان على العرش، فإن واشنطن لا تقلّل من الخطر القائم على أمنها القومي القادم من طهران.

فها هي مديرة وكالة الاستخبارات الوطنية الأميركية، أفريل هينز، وفي معرض إحاطة أدلت بها أمام أعضاء الكونغرس، تعتبر إيران واحدة من أربعة تهديدات رئيسة تواجه الولايات المتحدة الأميركية، وتقول “نتوقع أن تخاطر إيران بما قد يؤدي إلى تصعيد التوترات وتهديد مصالح الولايات المتحدة والحلفاء العام المقبل.. والعراق سيكون ساحة المعركة التي تستخدمها إيران لفرض سيطرتها”.

وعطفاً على تصريحات هينز أشار بدوره مدير الاستخبارات العسكرية الأميركية، الجنرال سكوت باريير، أن إيران تمثّل التحدي الأساس لمصالح واشنطن في الشرق الأوسط بسبب قدراتها العسكرية المتطورة، محذّراً بقوله إن “إيران مستعدة لاستخدام العنف ضد الولايات المتحدة عبر وكلائها”.

تل أبيب تصعّد
أما في تل أبيب فالحكومة الإسرائيلية تشعر بقلق بليغ إزاء الدفع الحثيث الذي يمارسه الجناح اليساري المتشدّد في الإدارة الأميركية لتوقيع اتفاق جديد مع إيران بأقصى سرعة ولو بدون شروط مطمئنة للأطراف المعنية بهذا الملف الخطير، أو العودة إلى الاتفاق النووي السابق دون تعديل جوهري على بنوده والذي سينتج عنه – إن تم- رفع العقوبات التي وضعها الرئيس السابق ترامب، بينما تتواصل بكثافة محاولات المسؤولين الأمنيين في إسرائيل لإقناع إدارة بايدن بعدم التخفيف من ضغوطها على طهران.

وقد صرح مدير المخابرات الإسرائيلي، إيلي كوهين، في لهجة تصعيدية غير مسبوقة بشأن الاتفاق النووي الذي ترفضه تل أبيب بشكل قطعي بالقول “الحرب مع طهران ستكون الخطوة التي ستتلو إحياء الاتفاق النووي معها”.

كما أوفدت إسرائيل وفدا رفيع المستوى إلى واشنطن التقى بوزير الخارجية الأميركي بحضور السفير الإسرائيلي، وقد عبّر الطرفان خلال اللقاء عن “قلقهما الشديد” من أنشطة إيران النووية. جاء هذا اللقاء تزامنا مع محادثات جرت هذا الأسبوع بين مستشار الأمن القومي الأميركي، جيك سوليفان، ونظيره الإسرائيلي يرافقه مستشارون أمنيون رفيعون، شدّد خلالها الوفد الإسرائيلي على ما يعتبرونه «حريتهم في التصرّف بالطريقة التي يرونها مناسبة».

البيت الأبيض واكب المشاورات في واشنطن وأصدر بيانا أشار إلى أن الولايات المتحدة وإسرائيل متفقتان على أن سلوك إيران يشكّل “التهديد الكبير” للمنطقة.

فصل المقال يكمن في طبيعة المناخ الدولي السائد منذ وصول إدارة بايدن إلى البيت الأبيض وتحوّلها إلى نهج من الدبلوماسية القصوى في التعاطي مع القضايا الدولية التي كانت إدارة ترامب تتعامل معها بلغة الحزم والراديكالية التي يعتبرها البعض مفرطة.

فإدارة بايدن تستشرف منافع كبرى يمكن أن تسود نتيجة إحياء اللغة التفاوضية الرصينة بين الأطراف المتناحرة خلافا للخسائر الكبرى التي تترتّب على تعليق الحوار وفتح الأبواب مشرعة لصوت السلاح.

كما أنها تريد إخراج الجميع من عقدة حرب اليمن بما سيشكل منصة دبلوماسية للانطلاق إلى مشروع سلام متكامل في المنطقة تكون إيران طرفا مساعدا عليه، وبضمانات دولية، لا مقوّضا له.

المملكة العربية السعودية التقطت الإشارات القادمة من واشنطن، وليس اللقاء الذي احتضنته بغداد مؤخرا بين مسؤولين سعوديين ونظراء لهم إيرانيين ببعيد عن سياق ما يدور في الدماغ السياسي الأميركي.

وضمن رؤية استباقية ذكية لما يمكن أن تنتج عنه مفاوضات فيينا النووية متعددة الأطراف، قررت المملكة على لسان ولي عهدها ومليكها القادم أن تكون طرفا في عملية الإصلاح السياسي الدولي والعودة إلى المسارات الدبلوماسية التي تجنح للسلم في حال توفرت الشروط والنوايا من الأطراف المنخرطة لتعزيز فرص سلام عادل ومستدام يهيّئ السبل لجيل من الشباب لا يريد أن يتحمّل إرث آبائه الثقيل بقدر ما يرغب بالانطلاق نحو مستقبل يسوده الأمن لا التناحر، والجوار الطيب لا العداء المستطير، واحترام الآخر لا التعدّي على كينونته.

وهنا مربط الفرس الذي لجامه الآن بيد ولي العهد السعودي في رؤيته المتكاملة والطموحة لبلاده والمنطقة التي جسدّها في “رؤية 2030”، وكيف سيقوم بتحويلها إلى حقيقة وواقع معيش.

العرب