بعد سنوات من الحروب بالوكالة بين الرياض وطهران، عقد مؤخرًا في العراق وبرعاية مصطفى الكاظمي عدة محادثات أمنية، في مقدمتها لقاء رئيس جهاز المخابرات السعودي الفريق خالد بن علي الحميدان بنائب الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني سعيد ايرواني، وتمثل هذه المحادثات أول جهد جدي لنزع فتيل التوترات منذ قطع العلاقات بين السعودية وإيران في 2016 إثر الاعتداء على البعثات الدبلوماسية السعودية في إيران على خلفية إعدام عالم دين شيعي معارض في المملكة.
ولقد ركزت المباحثات على وقف الحرب في اليمن التي يدعم فيها البلدان الأطراف المتحاربة. وتنظر السعودية لمصطفى الكاظمي، مدير المخابرات السابق والخبير في الشؤون الأمنية بالمنطقة، بأنه مستقل عن إيران. ولهذا السبب استطاع بناء الثقة التي أعطته القدرة على تحقيق المحادثات . كما أبقى الكاظمي على القنوات مفتوحة بين طهران وإدارة الرئيس جوزيف بايدن التي رحبت بالقنوات الدبلوماسية الجانبية للتعامل مع إيران.
فالدبلوماسية الأمنية الإقليمية لمصطفى الكاظمي لهاسياقاتها الخاصة، فهي تتناسب مع أهداف إدارة الرئيس بايدن باستقرار الوضع في الشرق الأوسط، وانتهاء التهديد لحليفها السعودي، كي تلتفت لملفاتها الدولية الأهم، كما أن الرياض تجد حاجة قوية هذه المرة للوصول إلى تسوية شاملة في اليمن، وكذلك تجنب التصعيد الممكن عملياتيًّا من الأراضي العراقية، وهي تدرك أن ذلك سيكون صعبًا بدون تدخل إيران وضغطها على حلفائها، الحوثي في اليمن، والميليشيات في العراق، وهذا سيحتاج بطبيعة الحال إلى قدر من الواقعية السياسية لم تكن ضاغطة بهذا الشكل، سواء قبل مقتل سليماني، أو قبل رحيل إدارة ترامب. أما إيران، فهي على أعتاب انتخابات رئاسية مهمة في يونيو/حزيران المقبل، وتسعى حكومة روحاني الإصلاحية لتحقيق اختراقات دبلوماسية، سواء مع الولايات المتحدة أو السعودية، تمنح المرشحين الإصلاحيين أفضلية.
وفي بغداد، وبرعاية مصطفى الكاظمي، التقى مدير الإطلاعات الإيرانية ” المخابرات”، مع بعض مدراء المخابرات لدول جوار العراق، ومن هذه الدول الإمارات. وقبل ثلاثة أسابيع، زار رئيس المخابرات الأمريكية وليام بيرنز بغداد، والتقى فقط مع رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، وركز اللقاء على دور العراق في عهد الكاظمي في تحقيق الإستقرار الأمني الإقليمي.
وفي هذا السياق، زار وفد البيت الأبيض إلى الشرق الأوسط، ويضم هذا الوفد منسق الأمن القومي الأميركي لشؤون الشرق الأوسط في البيت الأبيض بريت مكغيرك، ويشمل الوفد موظفين كبارا من وزارتي الدفاع والخارجية، بينهم كبير المستشارين السياسيين في وزارة الخارجية ديريك شوليت، ومعاون وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط جوي هود، ورئيسة مكتب الشرق الأوسط في وزارة الدفاع دانا سترول. وهذه المجموعة تشكل أعلى مستوى من الزيارات للمنطقة منذ وصل الرئيس جو بايدن إلى البيت الأبيض في مطلع العام الجاري.
ومع أن برنامج هذه الزيارة لم يتم الإفصاح عنه على الملأ، إلا أن مصادر خاصة بمركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية علمت أن الأهداف الأساسية تشمل طمأنة حلفاء الولايات المتحدة وشركائها في الشرق الأوسط والخليج العربي بشأن التحركات العسكرية الأميركية في الفترة المقبلة والتي ستشمل انسحابا وإعادة تموضع للأفراد والعتاد في المنطقة، وكذا إطلاع الحلفاء على خطط واشنطن لجهة العودة للاتفاق النووي مع إيران، والحث نحو تخفيض التوتر مع قطر وتركيا وإيران.
في زيارته للمملكة العربية السعودية، من المرجح أن يكون مكغيرك قد أطلع الحكومة السعودية على مشروع سحب المجموعة الجوية 387 المتمركزة بشكل دائم في قاعدة الأمير سلطان الجوية منذ العام 2003 وتشمل مجموعة من الطائرات القتالية وطائرات الاستطلاع وما يقارب 1300 جندي. وهذه الخطوة تأتي ضمن سلسلة من الانسحابات العسكرية الأميركية من المملكة العربية السعودية.
كما تمت مناقشة قضية الحرب في اليمن والدور الأميركي المحتمل في المفاوضات المرتقبة بين الحوثيين والمملكة. لكن المحور الأهم في هذه الزيارة دار حول نقاط الاتفاق الجديد المزمع عقده بين إيران والولايات المتحدة في فترة ما يزال فيها أمن المملكة مهددا من قبل إيران وميليشياتها. وابتعد الحوار عن المواضيع خارج المجالين العسكري والسياسي كالقضايا المتعلقة بحقوق الإنسان وقضية الخاشقجي.
وفي الإمارات العربية المتحدة، قام مكغيرك بمناقشة مستجدات صفقة طائرات F-35. فمع أن الإدارة الأميركية قامت فعلا بإخطار الكونغرس بموافقتها على البيع، إلا أن القلق الأميركي حول التقارب العسكري بين الإمارات والصين مازال قائما وقد يهدد إتمام الصفقة وتسليم الطائرات مستقبلا. وبالطبع، تمت مناقشة الاتفاق مع إيران وانعكاساته على أمن الإمارات والخليج العربي. وفي زيارته للأردن والزيارة المرتقبة لمصر من المرجح أن يركز الوفد على عملية السلام في الشرق الأوسط والتعاون في المجال الأمني ومكافحة الإرهاب.
وفي العراق، قام الوفد بالاجتماع مع رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي وأشادوا بسياسته الداخلية والخارجية، وسعيه في إعادة العراق الفعالة إلى الخارطة العربية والإقليمية.
كما اجتمع الوفد مع رئيس الجمهورية برهم صالح ورئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي. ودار الحوار حول الوجود العسكري الأميركي في العراق خلال أسبوع توالت فيه الضربات الصاروخية الإرهابية ضد قواعد عسكرية تتمركز فيها قوات متعددة الجنسيات. كما تطرّق الحديث إلى التعاون بين العراق والولايات المتحدة في المجالات الأمنية والعسكرية والاقتصادية واحتياجات العراق لمكافحة وباء كورونا. وطالبت الرئاسات الثلاث في العراق من الوفد الأمريكي، دعم الانتخابات النيابية المقبلة ومراقبتها، وعدم تزويرها، والوقوف إلى جانب العراق في حربه ضد تنظيم داعش الإرهابي.
يحاول العراق الذي ظل عالقا وسط القوى الدولية والإقليمية تهدئة النزاعات التي تؤثر عليه مباشرة، خاصة أنه يعيد بناء نفسه بعد الغزو الأمريكي والحرب ضد تنظيم داعش الإرهابي. ويحاول الكاظمي تقوية دوره على المسرح الدولي، حتى في الوقت الذي يتعامل فيه مع السياسة العراقية التي تتجاذبه أطرافها.
إن المباحثات الأمنية رفيعة المستوى التي جرت في العراق وبرعاية مصطفى الكاظمي هي محاولة جادة لتصفية النزاعات التي تؤثر على العراق بصورة مباشرة، خاصة أنه يعيد بناء نفسه بعد الغزو الأمريكي والحرب ضد تنظيم داعش الإرهابي. ويحاول الكاظمي تقوية دوره على المسرح الدولي، حتى في الوقت الذي يتعامل فيه مع السياسة العراقية التي تتجاذبه أطرافها.
وهذه المساعي الجادة من قبل مصطفى الكاظمي تأتي في سياق دبلوماسيته الأمنية، التي تقوم على مبدأ تصفير المشكلات الأمنية بين دول الإقليم، لإدراكه أن الأمن والاستقرار الإقليمي هو المدخل الحقيقي في تقوية العلاقات السياسية وزيادة التعاون الاقتصادي بما يعود بالنفع العام على دول الإقليم.
وحدة الدراسات العراقية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية