إن وجهتَ الاتهام إلى حركة حماس بأنها أشعلت حربا عبثية تنفيذا لأجندة إيرانية تكون كمَن ينكر الحق التاريخي والإنساني الفلسطيني. تلك معادلة يفرضها الواقع الدعائي وهي تخالف كليّا الحقيقة.
ففي الأوقات العصيبة يكون الواقع أكثر حضورا وتأثيرا من الحقيقة.
ولأن الواقع المأساوي الذي صارت غزة تعيشه في ظل العدوان الإسرائيلي البشع بكل فقراته غير الإنسانية واللاأخلاقية يفرض علينا أن نقف مع الضحايا الذين لا ذنب لهم سوى وقوعهم رهائن في يد تنظيم هرب قادته إلى الخارج من أجل أن يجاهدوا عن بعد، فإن أول ما يجب علينا أن نحافظ عليه هو الاستمرار في التمسك بالعقل كونه حكما وعدم الانجرار وراء عاطفة شعبية نعرف أنها عمياء لأسباب كثيرة تقف في مقدمتها الرغبة في وقوع معجزة تنسجم مع الطابع الديني الذي بات مخيّما على الحياة العربية بشكل عام والفلسطينية بشكل خاص.
منطقيا فإن النتائج التي ستنتهي إليها حرب غزة الحالية ستكون كارثية. لا لأنها حرب غير متكافئة فحسب بل وأيضا لأنها وضعت الطرف الفلسطيني في موقع المعتدي بالنسبة إلى المجتمع الدولي الذي لا تمثله التظاهرات التي شهدتها مدن العالم وكان معظم المشاركين فيها من العرب وأصدقائهم بل تمثله مؤسسات عالمية تهيمن عليها دول كبرى هي صاحبة قرار مؤثر في ما يتعلق بالأحداث العالمية ومنها الحدث الفلسطيني الإسرائيلي.
هل يُعقل أن تُدان الضحية بالبدء بالعدوان ويُتّهم القتيل بأنه شجع القاتل على قتله؟ شيء من هذا القبيل يحدث. وهو أمر كان يجب توقعه. فالحديث السياسي كلّه يدور الآن حول صواريخ حماس التي يعرف الجميع مصدرها. وإذا كان المجتمع الدولي نفسه قد أظهر نوعا من التساهل مع الحوثيين في اليمن وهم يوجهون صواريخهم وطائراتهم المسيرة في اتجاه أهداف مدنية سعودية، فإن موقفه لن يكون كذلك بالنسبة إلى صواريخ تطلقها حماس في اتجاه إسرائيل بالرغم من أن المصدر هو نفسه أي إيران.
ذلك ما نعرفه وما يجب على المرء أن يضعه في ذهنه بغض النظر عن قبوله أو رفضه. لقد صار جليّا أن العالم يكيل بمكيالين. وما علينا في هذا المجال سوى أن نتذكر ما جرى للعراق بناء على شبهات أسلحة الدمار الشامل مقارنة بما يجري مع إيران وهي تصرّ على المضي في تطوير برنامجها النووي. تلك جريمة ولكن الجريمة الأعظم إنما ترتكبها معظم أجهزة الإعلام والدعاية العربية حين تضلل متابعيها العرب والفلسطينيين بشكل خاص وتوهمهم بأن الوحش الإسرائيلي مضى في عربدته من غير أن يستفزه أحد. من المعيب فعلا أن تتم تغطية جريمة حماس من خلال استهتارها بأرواح أهل غزة بجرائم عدو لا يخفي رغبته في ممارسة أعلى درجات العنف في حق أعدائه العرب.
إسرائيل لا تفرّق بين أهل غزة والتنظيمات المسلحة التي يمكن بيسر أن يصنفها العالم باعتبارها تنظيمات إرهابية وبالأخص ما كان منها يقيم علاقات مع إيران كما هو حال حماس. ومن السذاجة أن نطلب من كيان مغتصب أن يكون عادلا ومنصفا مع أهل الأرض الأصليين. السياسة الدولية كما كانت دائما لا تتحمل مزاحا من ذلك النوع.
وإذا ما افترضنا حسن النية من جانب حماس وأنها أطلقت الصواريخ الإيرانية تضامنا مع سكان حي الشيخ جراح المقدسي، فإن ذلك الفعل إنما ينمّ عن غباء تاريخي وعدم شعور عميق بالمسؤولية. أما أن تكون غزة مسرحا لاستعراض القوة الإيرانية في توقيت يتزامن مع مفاوضات النووي في فيينا، فإن ذلك إنما يشكل جريمة مزدوجة. ذلك لأنها أضرّت بالحق الفلسطيني في حي الشيخ جراح الذي جذب إليه تضامن العالم، دولا وشعوبا وفي الوقت نفسه فإنها وضعت أهل غزة في موقد النار الإسرائيلي.
لقد مضى الجميع إلى الجحيم فيما يتابع زعيم حماس إسماعيل هنية من مغطسه القطري الأحداث كما لو كانت جزءا من مسلسل تلفزيوني. أما لسان حاله فإنه يتحدث عن نصر يعرف أن أحدا لن يسأله عنه حين تضع الحرب أوزارها. سيعود إلى غزة لا لكي يرى خرابها ويطمئن على راحة موتاها ويحصي عدد أيتامها، بل ليعيد إنتاج الخطاب الشعبي التضليلي الذي يغطي بالاستعارات الدينية الخالدة على الوقائع الدنيوية الزائلة. وهو في ذلك لا ينحرف عن سويته كونه مواطنا إخوانيا لا علاقة له بفلسطين.
لقد حاربت حماس هذه المرة باعتبارها كيانا إخوانيا ممولا من إيران. تلك هي الحقيقة التي لا تمحوها الوقائع المأساوية.
العرب