على الرغم من أنه من المبكر جداً تقييم تأثير الاتفاق النووي على منطقة الشرق الأوسط، إلا أنه قد يشكل لحظة فاصلة في تاريخ المنطقة من حيث دور كل من إيران والولايات المتحدة فيها. فمن المنطقي الإشارة إلى أن الاتفاق سيزيد من الموارد المتاحة للنظام مع مرور الوقت، أي سيتيح له المزيد من المال والسلاح لتصعيد أنشطته الإقليمية المزعزعة للاستقرار إذا ما اختار ذلك، ويتم ذلك جزئياً من خلال عملائه مثل «حزب الله» ونظام الأسد وحركة «حماس» والحوثيين في اليمن ومختلف الميليشيات الشيعية في العراق. وعلى نطاق أوسع، يمكن للاتفاق النووي أن يسرّع من اختلال توازن القوى بين إيران والدول العربية السنية المنافسة لها.
والسؤال الرئيسي الذي يطرح نفسه هو حول ما يخبئه المستقبل بالنسبة للعلاقات بين إيران التي تتمتع بقوة كبيرة وبين الولايات المتحدة. فهل ستضاعف واشنطن من التزامها مع حلفائها وشركائها لتحقيق التوازن مع إيران، أم أنها ستسعى إلى استيعاب النظام أو حتى التعاون معه؟ يعتمد الجواب على سلوك طهران. فالإجماع العام في المنطقة يقوم على اتخاذ الولايات المتحدة مسار التوافق خوفاً من انهيار الاتفاق النووي.
ومع ذلك، لا تزال واشنطن بحاجة إلى اتخاذ خطوات لمواجهة النفوذ الإيراني الضار. وإحدى الطرق للقيام بذلك هي توضيح أنه في حين قد تكون هناك ديناميكية جديدة في المنطقة (مثل ميل سعودي أكبر لاتخاذ الخطوات)، لا يزال الوضع بكامل الجهوزية، إن جاز التعبير. وفي ما يتخطى ذلك، تحتاج الولايات المتحدة إلى طمأنة حلفائها في المنطقة من خلال تزويدهم بالمعدات العسكرية المختلفة والتدريب المتواصل والمساعدة الأمنية اللازمة. كما يجب لها أن تدلي ببيان صارم بأنه لن يتم السماح لإيران بتخصيب الوقود النووي للوصول إلى مستويات أسلحة نووية، وسيتم اتخاذ إجراءات لمواجهة ذلك إذا لزم الأمر. وهذا بإمكانه أن يساعد على منع الحلفاء من السعي لامتلاك برامج نووية خاصة بهم. بيد، إن المصداقية الحقيقية للتدابير التعويضية المحتملة تكمن في تصرفات الولايات المتحدة في العراق وسوريا.
ففي العراق، تمتلك واشنطن الآن فرصة استثنائية لدعم رئيس الوزراء حيدر العبادي بينما يعمل على القيام بإصلاحات جدية. وفي ظل عدم رضى المواطنين عن نقص الخدمات الأساسية، ومع خطب الجمعة التي يلقيها آية الله العظمى علي السيستاني التي تُضخم من الفساد المنتشر على نطاق واسع، أصبحت الحاجة إلى التغيير أكثر إلحاحاً. وحتى الآن، ألغى العبادي دور نواب رئيس الجمهورية وعدد من الوزارات، وبدأ بدراسة وضع المحكمة العليا، وفتح التحقيقات مع العديد من مسؤولي الحكومة والجيش والشرطة الذين كانوا يشرفون على الموصل عندما سقطت المدينة. وغني عن القول أن هذه الإصلاحات تلقى منافسة من الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران، بما فيها «كتائب حزب الله» و«عصائب أهل الحق» و«فيلق بدر». بالتالي فإن الفوز في العراق يتطلب سياسة شاملة ودعماً لرئيس الوزراء من أجل السماح بـ “صحوة” سنية أخرى.
أما في سوريا، فإن القوات البرية السنية التي تتمتع بالمصداقية تشكل العامل الرئيسي لهزيمة تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش») أو «الدولة الإسلامية» وتغيير الزخم في ميدان المعركة. وهذا بدوره يمكن أن يوجد سياقاً ملائماً للتوصل إلى تسوية عن طريق التفاوض.
وفيما يتعدى الوضع في العراق وسوريا، تحتاج الولايات المتحدة إلى العمل مع القوى الإقليمية لوقف شحنات الأسلحة إلى «حماس» و«حزب الله» والحوثيين. وهذا النهج مدعوم بالفعل من جهود مصر لتدمير الأنفاق المؤدية من سيناء إلى غزة. لذا لا بد من توضيح الرسالة ليس فقط لإيران، بل أيضاً لحلفاء الولايات المتحدة في المنطقة.
وتجدر الإشارة إلى أنه إذا تطورت إجراءات إيران ونواياها وسلوكياتها إلى درجة تصبح فيها قوة يفرضها الأمر الواقع ولا تسعى إلى تعجيل ثورتها، فقد يكون التعاون الثنائي مع الولايات المتحدة ممكناً. وفي غضون ذلك، ستبرز أوقات تتلاقى فيها مصالح الطرفين، لكن على الرغم من ذلك على واشنطن أن تستمر في توخي الحذر. على سبيل المثال، من مصلحة الطرفين حالياً هزيمة تنظيم «الدولة الإسلامية»، إلا أن احتمال تقديم دعم جوي مباشر إلى الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران لا يصب في مصلحة الولايات المتحدة.
من هنا فمن الممكن الحفاظ على الاتفاق النووي ما لم تقرر طهران اتخاذ إجراءات واضحة للإخلال به. أما القضية الأكثر اضطراباً فهي استدامة الاستقرار الإقليمي، فبعض المناطق (مثل دول «مجلس التعاون الخليجي» والأردن) مستقرة نسبياً، إلا أن الهدف الأساسي يكمن في التأكد من عدم انزلاق الشرق الأوسط بصورة أكثر نحو كارثة جغرافية سياسية على غرار “كارثة تشيرنوبيل”. لذا تحتاج الولايات المتحدة إلى منع التدخل الإيراني العدواني بشكل فعال من زيادة المجالات المحددة المثيرة للقلق.
في ظل غياب الاندفاع الإيراني للحصول على السلاح النووي، فإن أهم نتيجة من الاتفاق النووي ستتجلى في تأثيرها على المصالح الأمنية للولايات المتحدة، ليس فقط في منطقة الخليج العربي ولكن أيضاً في جميع أنحاء المنطقة على نطاق أوسع، من باكستان مروراً بأفغانستان وصولاً إلى شمال أفريقيا. هذا ولا تزال إيران تتوقع أن تصبح قوة إقليمية مهيمنة، وهو ما يبرز في كتابات السيد حسين موسويان حول أهداف إيران الإقليمية: أولاً، إخراج الولايات المتحدة، وثانياً إضعاف إسرائيل، وثالثاً إنشاء حكم إيراني مشترك في منطقة الخليج وخارجها. إن وجهة نظر موسويان التي يُفترض أنها “معتدلة” هي نظرة شائعة في إيران.
وفي ظل غياب قوة موازية، ستتطلع إيران إلى توسيع نفوذها. وإذا أمَلت الولايات المتحدة في ممارسة مهامها التقليدية في العالم منذ الأربعينات، فيتوجب عليها أن توفر هذه القوة الموازية. فهذا الجزء لا بد منه لضمان عدم توسيع إيران لقوتها الإقليمية ولتجنب تحفيز كارثة سنية شيعية أو الانجرار إليها، وهي الطريق التي يريدها تنظيم «داعش» وبعض الشيعة العراقيين المدعومين من إيران أو يستعدون للتفكير بها. وإذا كانت واشنطن غير مستعدة لتحدي إيران لأن بإمكانها أن تقوض الاتفاق النووي، فإن طهران ستحقق تقدماً ملحوظاً في المنطقة.
هذا وتحتاج الولايات المتحدة أيضاً إلى طمأنة حلفائها. ولا أحد ينكر أن واشنطن تمتلك القدرة، إلا أن الأسئلة لا تزال قائمة حول نواياها. وقد تم تسليط الضوء على هذا الانفصال في قمة الخليج التي استضافتها الولايات المتحدة في أيار/مايو، إذ لم يقتصر الأمر على عدم حضور أربعة من رؤساء دول «مجلس التعاون الخليجي» الست، بل يبدو أن غالبية النقاش كان حول المكونات المادية وحول ما تريده واشنطن من هذه الدول. إن ذلك يشكل معضلة لأن المسؤولين الزائرين سعوا إلى الحصول على تطمينات أوسع، أي ربما إلى بيان لا لبس فيه على غرار “لن يتم ذلك، فلن تسمح الولايات المتحدة لإيران بالحصول على أي سلطة عن طريق النشاطات الدبلوماسية أو العسكرية أو الإرهابية، أو غيرها من النشاطات في المنطقة”.
وفي سوريا، برز تطور جديد مع وصول القوات الروسية لمساعدة نظام الأسد مباشرة. وعلى الرغم من أنه ليست هناك أهمية عسكرية كبيرة لعدد قليل من الدبابات الروسية في الشرق الأوسط، إلا أن وجودها هو عبارة عن إعلان عن موقف سياسي من قبل موسكو يتعيّن على الولايات المتحدة الرد عليه. إذ تحتاج واشنطن إلى إرسال تحذيرات صارمة، مثل بيان بأنه لن يتم التسامح مع أي تدخل روسي بأي عمليات أمريكية في سوريا وقد يؤدي إلى [قيام الولايات المتحدة] بالرد عليه.
وبالنسبة إلى العراق، تأتي إمكانية التعاون مع إيران في المقدمة. وفي هذا السياق، تشكل كردستان أحد أبرز الأمثلة على التعاون الناجح، وهي لا تزال جزءاً من العراق، ويعود ذلك إلى حد كبير لأن لكل من تركيا والولايات المتحدة وإيران مصلحة في منعها من أن تصبح دويلة. ومع ذلك، تواصل إيران إلحاق الأضرار حينما تختلف المصالح. فرئيس الوزراء العبادي يتخذ خطوات بطولية بدعم من عدد كبير من الشيعة، بما في ذلك الجماعات السياسية الأخرى والأفراد مثل آية الله علي السيستاني، إلا أن الإيرانيين ومؤيديهم المحليين يواصلون عرقلة التغيير الفعلي. وطالما تسعى طهران إلى إشعال الانقسام الطائفي، لن يُبذَل المزيد من التعاون حتى لو كان ذلك يصب في أفضل مصالح إيران.
لا بد من الإشارة إلى وجود فرص أخرى للتعاون أو التنسيق أو التواصل بين الولايات المتحدة وإيران في أماكن مثل أفغانستان، حيث الوضع ليس مأساوياً كما هو الحال في العراق. ومن الناحية النظرية، إن إقامة خط اتصال من أجل تخفيف خطر التصادم بين العمليات العسكرية في منطقة الخليج قد تكون بناءة لكلا الجانبين. لكن إذا قيّدت الولايات المتحدة سياساتها في الشرق الأوسط بسبب المخاوف من إغضاب إيران أو تقويض الاتفاق النووي، فمن المؤكد أن الأمن الإقليمي لن ينعم بالاستقرار.
ديفيد بترايوس
معهد واشنطن