الطائفية السياسية وحدود الحراكات حولها

الطائفية السياسية وحدود الحراكات حولها

b10-01-15-2213520031
أولاً – في الطائفة:
هي جماعة ذات مُعتقد ثقافي ـ ديني (شريعة وشعائر) وميول ثقافية محلية وعادات يتراجع توارثها. تتشكل من جماعات متفاوتة التأهُل والتمدُّن ومتراتبة المصالح والقدرات والتطلعات. ومتفارقة الالتزامات بالقانون وبأخلاقيات الاندماج الاجتماعي. ينتظم عيشها في كيان سياسي أهلي مركّب تتجدّد في إطاره الزعامة ونُخبها الموالية ومواقعها السلطوية او انتخابها. وهذا يتطلّب من الزعامة استرضاء الرغبات أو المصالح المختلفة لجماعات الطائفة تحت شعار توحيدها في مواجهات مزعومة مع زعامات منافسة لها داخل الطائفة وخارجها، فتتعامل مع كل جماعة داخلها وفق نهج تعتمده في تمثيلها يُسمّى «الطائفية السياسية». انه نهج تعتمده الزعامة ونخبها في التعامل مع الدولة ممثلة بإداراتها سواء في موالاتها لتحصين مواقعها في الحكم الذي تشارك فيه او في معارضته، مستعينة عليه بدهمائها بدعم خارجي تمويلي و/ أو عسكري أحياناً من اطراف قريبة او بعيدة، عندما تدعو الحاجة، كما حصل ويحصل في لبنان. دعم تُشرّعه الزعامة لعوامّ مواليها بوحدة مسار او بوحدة مصير.
تختلف قدرات الكيان السياسي ـ الإيديولوجي للجماعات الطائفية باختلاف:
خصائص تشكلها الديموغرافي (لجهة قانون العدد) ونسبة ما يشكله حجمها في إجمالي السكان، وذلك لأن لكل حجم اجتماعه ولكل اجتماع موالاته ومعارضته.
– خصائص الظروف التاريخية التي حكمت اقتصاد مناطقها ومستويات نمو مواردها البشرية (في مجالات التعليم والتشغيل والاستثمار). وهي مستويات ظل يغلب عليها الطابع الريعي منذ حوالي القرنين في ظل رأسمالية المستعمر والتبعية اللاحقة لأسواقه اللتين حالتا دون تحقيق عمليات التراكم الرأسمالي المستقل، والانتقال الى اقتصاد التصنيع والتكامل القطاعي والمناطقي. هذا الاقتصاد الذي يوفر شروط الاندماج الاجتماعي والسياسي والتجاوز التدريجي للانتماءات المقتصرة على العصبيات القرابية والطائفية المتوارثة وعلى التمثُّل السياسي بزعاماتها، وهي انتماءات تجرّ الى ولاءات تقوم على الزبائنية والإفساد.
هكذا، ففي ظل استعصاء الانتقال الى آليات النمو المستقل، تظل حدود مواقع الموارد البشرية للطوائف في أسواق رأسمالية الوساطة اللبنانية الطرفية وفي الأسواق الإقليمية والاغترابية محكومة بالعقلية «المركانتيلية» في الداخل، كما في الخارج، أو بالتهميش. ويظل تفاوت مستويات نمو موارد البشرية للجماعات الطائفية ينعكس في تفاوت حضور وتعاملات زعاماتها مع الأطراف الخارجية.
وهنا نُذكر بتفاوت مستويات هذا الحضور:
ـ في التأسيس الانتدابي لتشكيل دولة لبنان الكبير المفروض على غالبية الجماعات الإسلامية.
ـ كما في فرض «الكوتا» التي اعتمدتها السلطة الفرنسية المُنتدبة في توزيع مراكز القرار داخل إدارة الحكم الاستقلالي بناء على إحصاء فرنسي طُعن في صحته او قوطع من جهات إسلامية.
كما نُشير الى صعوبات التكيُّف مع دستور فرض مواده العلمانية المفوض السامي الفرنسي دي جوفنيل اليساري الميول الذي صرخ يوماً قائلاً:
«لا أريد أن أسمع كلاماً حول الطائفية في الدستور» مركّزاً بقوله على أنه يتكلّم باسم «فرنسا الثورة» مخاطباً البطرك الذي ردّ في حينه «أن فرنسا التي يعرفها هي فرنسا الحملات الصليبية».
وبرغم أن هذا الدستور ظلّت تبرز فيه مواد ليبرالية مُقتبسة من دساتير فرنسية وبلجيكية ضامنة لحقوق الفرد، إلاّ أن الضغوط اللبنانية المحافظة والفرنسية عادت وفرضت عليه أن تقترن مواده الليبرالية بمواد تضمن حقوق الطوائف المتفاوتة الدعم الخارجي والمتعارضة التطلعات الأيديولوجية (أمة لبنانية في مواجهة أمة عربية). وانتهت هذه الضغوط الى اعتماد المشاركة في الحكم القائمة على مبدأ التوافق الميثاقي في توزيع مراكز القرار الأولى في الدولة.
وكانت صياغة هذا الدستور قد استندت إلى استقصاء لنخب من الطوائف اللبنانية من خلال استمارة صيغت بمفاهيم ليبرالية حول:
شكل الحكم (ملكي دستوري أم جمهورية؟)
مجلسين أم مجلس واحد؟
رئيس الدولة مسؤول أمام مَن؟
الوزارة مسؤولة أمام رئيس الدولة أم أمام البرلمان ولماذا؟
ووُجّهت العرائض للمفوض البديل مطالبة بالعودة عن هذا الدستور الليبرالي التوجهات «الذي لم يكن ملائماً لتطلعات وحاجات اللبنانيين ولا للقدرة المالية لبلدنا الصغير… ولقصور السلطات في المكاتب الحكومية والمسؤوليات الوظيفية المتنافرة المراجع وهي مكاتب لا يعرف الجمهور لا فائدتها ولا كفاءتها» على ما جاء في نص لجورج سمنة.
ثانياً ـ في نهج حكم الطائفية السياسية
بسبب التركيبة التراتبية للجماعات المتفاوتة الامكانيات والرساميل الثقافية والاقتصادية المتوارثة داخل الطائفة الواحدة، وبسبب تعايش الانتماءات الطائفية في ظل اقتصاد الرأسمالية الطرفية التي فقدت في الاسواق المشرقية والخليجية، خاصة التي لم تحتفظ بأدوارها الأولى في الوساطة لأكثر من ربع قرن، فانفجرت الحرب الأهلية الداخلية – الخارجية المتمادية. هذه الحرب التي عملت على تعزيز عصبوية عوام الطوائف، وعلى ترسيخ نهج الطائفية السياسية داخل الطائفة في خلق وتوريث الزعامات والنخب الموالية الحريصة، وعلى تجديد الثقة بقدرات هذه الزعامات على حماية امتيازات البعض من جماعاتها وتوفير خدمات الدعم أو الإغاثة للجماعات الوسطية أو الشعبية المعوزة. وتركزت الخدمات الزبائنية لهذا النهج أحياناً كثيرة على ضمان إعفاء مخالفات الموالين للزعامات من الخضوع للقوانين. وهذا ما يفرض عليها بالضرورة اعتماد مبدأ تصنيف المستحقين لها من بين الناخبين وفقاً لمستويات ولاءاتهم وتعصباتهم في الشرعنة الانتخابية لتجديد تنفُّذها في الدولة.
ونظراً لمحدودية حصص الزعامات الطائفية سواء من خدمات الإدارة الحكومية، وهي خدمات غالباً ما تكون متجاوزة للقوانين أو محدودة في إغاثة المعوزين بفعل تراجع التمويلات الخارجية مما يُصعّب توزيعها وفق معايير الاستحقاق، تُضطر الزعامات وأجهزتها الى تصنيف مراتب طالبي الخدمات بين مواليهم وفقاً لمقياس ربط استحقاق الخدمة بمرتبة الأخلاص والتأثير الانتخابي في المحيط الشعبي لكل منهم. ونظراً لمحدودية قدرات الزعيم هذه على التوسّع بتوفير الخدمات، تجد العوام المُحبطة مضطرة لمواصلة الوفاء لعهدها ولولائها مرضية وراضية بوعد بخدمة لاحقة، يُفترض بها أن تُصدّقه طالما أنه من الصعب نفسياً وأهلياً، في الأرياف وفي الأحياء الضيقة غالباً، أن يتحول المُحبَط الى ولاء آخر يعتمد التصنيف ذاته لمراتب «المخلصين المستحقين» لخدماته. ولهذا يكثر بين جماهير المحُبطين «شُطّار» مفاتيح الزعامة المداورين، وهم المتربّصون بفرص ووعود بديلة يُلوّح بها «شطّار» مفاتيح زعامات أُخرى المداورين. وهكذا ــ تشيع بالضرورة الموضوعية في ظل مثل هذه الأجواء لخطابات الولاءات المتملّقة او خطابات التقية والاستتار بالمألوف، وهي المترسّخة في إعلام نظام الطائفية السياسية الذي يعجز أكثر فأكثر عن قطع دابر الحراكات الشبابية المتوسعة في مواجهة التعزيز الإقليمي والدولي لعصبيات الطوائف وتهافت مقومات الدولة واقتصاد الأسواق السائبة. وفي المقابل، تعجز الحراكات عن الانتقال من دائرة شعارات التغيير المتطرفة الى دائرة طروحات الإصلاح التشريعي في مجالات التمثيل النيابي والبلدي واللامركزية المحصنة للتعددية اللبنانية، والى دائرة إصلاح الإدارة العامة ومنها خاصة إدارات مرافق الخدمات الأساسية كالصحة والتعليم والإسكان وضبط الجباية عن استهلاك الكهرباء والمياه، عن طريق اعتماد تقنية العدادات الذكية، وهما مرفقان يسود في توزيعهما منطق الفساد وهدر المال العام. وهذا الهدر المتمادي موجود أيضاً بفعل زبائنية التشغيل لقطاعَي التعليم والصحة الحكوميين.
أحمد بعلبكي
صحيفة السفير اللبنانية