حلول اضطرارية؟ دلالات انتشار “المصالحة الاقتصادية” فى مصر وتونس

حلول اضطرارية؟ دلالات انتشار “المصالحة الاقتصادية” فى مصر وتونس

3910

شهدت بعض دول الثورات العربية التي استقرت نسبيًا، خاصة مصر وتونس، تصاعد الجدل حول الاتجاه نحو سن تشريعات تهدف لإجراء مصالحة اقتصادية ومالية مع بعض رجال الأعمال، والشركات والمؤسسات الكبرى، والمستثمرين العرب والأجانب، وبعض صغار المستثمرين، والتي ثارت حولهم شبهة التعدي على المال العام في فترات سابقة، حيث اعتبر أحد الاتجاهات سياسة المصالحة إيجابية لأنها تمثل أداة لدفع عجلة الاقتصاد فى تلك الدول، وعاملا جاذبًا للاستثمار، فضلا عن أنها تجنب الدولة دفع غرامات كبيرة قيمة عقود التحكيم، علاوة على أنها تؤدي دورًا إيجابيًا فى انتشار مناخ جديد من الثقة بين أطراف المجتمع، لا سيما الشعوب ورجال الأعمال، وبالتالي خلق مناخ سياسي مستقر، بينما يراها اتجاه آخر آلية سلبية لكونها تتناقض مع بعض مبادئ الثورات. ورغم أن بعض القوى السياسية اعتبرت أنها عودة لسياسات النظم السابقة، إلا أن الحكومات الجديدة يبدو أنها تسير في هذا الاتجاه بخطي ثابتة.

حالتان رئيسيتان:

تعتبر مصر وتونس من أبرز الدول الذي بدأت فيها الأنظمة الحاكمة فى تبنى استراتيجية المصالحة الاقتصادية مع عدد من رجال الأعمال من رموز الأنظمة السابقة. ففي تونس، تبنت حكومة الحبيب الصيد مشروع قانون كان قد اقترحه الرئيس الباجي قائد السبسي يهدف لإجراء مصالحة اقتصادية ومالية مع رجال الأعمال، حيث نص على وقف محاكمة رجال الأعمال والموظفين الكبار فى الدولة المتورطين فى جرائم فساد مالي بشرط أن يعيدوا الأموال المستولي عليها، وقد تمت إحالة المشروع لمجلس النواب من أجل التصديق عليه.

وقد دفع ذلك خمسة من أحزاب المعارضة، فضلا عن عدد كبير من النشطاء لتكوين مجموعة تحت مسمي “مانيش مسامح” وتنظيم تظاهرة ضخمة فى شارع الحبيب بورقيبة فى 15 أغسطس 2015، للاعتراض علي هذا القانون باعتباره مدخلا للتصالح مع رجال الأعمال “الفاسدين” فى نظام بن على. ولا يختلف النظام التونسي الحالي بقيادة السبسي كثيرًا فى هذا الشأن عن سابقه الذي قادته حركة “النهضة”، حيث كان الرئيس السابق منصف المرزوقي قد دعا إلى ضرورة التصالح مع رجال الأعمال لكن لم يتم ترجمة تلك الدعوة إلى قوانين أو خطوات إجرائية.

وفي مصر أيضًا، سعت نظم الحكم المختلفة، منذ اندلاع ثورة 25 يناير 2011، إلى التصالح مع رجال الأعمال، حيث كان المجلس الأعلى للقوات المسلحة قد أصد مرسومًا بقانون، فى يناير 2012، بتعديل بعض مواد أحكام قانون الاستثمار رقم “8” لسنة 1997، والذي نص فى مادته “7” مكرر على أنه “يجوز التصالح مع المستثمر في الجرائم المنصوص عليها في الباب الرابع من الكتاب الثاني من قانون العقوبات التي ترتكب منه بصفته أو بشخصه أو التي اشترك في ارتكابها، وذلك في نطاق مباشرة الأنشطة المنصوص عليها في هذا القانون وفي أية حالة تكون عليها الدعوى الجنائية قبل صدور الحكم البات فيها”. ويشترط للتصالح أن يرد المستثمر كافة الأموال أو المنقولات أو الأراضي أو العقارات محل الجريمة أو ما يعادل قيمتها السوقية وقت ارتكاب الجريمة إذا استحال ردها العيني، على أن يتم تحديد القيمة السوقية بمعرفة لجنة من الخبراء يصدر بتشكيلها قرار من وزير العدل. كما وافق مجلس الوزراء السابق برئاسة المهندس إبراهيم محلـب،  فى 17 يوليو 2015، على تعديل بعض أحكام القانون رقم “62” لسنة 1975 والخاص بالكسب غير المشروع، حيث تضمن التعديل إمكانية قبول الجهات القضائية المختصة عرض المتهم بالتصالح عن جريمته بشرط أن يرد كل ما اكتسبه من أموال غير مشروعة، وهو التعديل الذي أثار قدرًا كبيرًا من الاعتراضات.

أنماط جديدة:

وقد اتخذت عملية المصالحة عدة أنماط يمكن تصنيفها وفقًا للفئة التي تقوم الحكومة بالتصالح معها وتسوية ملفها، بحيث يمكن تلخيص أبرزها فيما يلي:

1- التصالح مع رجال الأعمال الكبار: قامت الحكومات المصرية المتعاقبة، منذ 25 يناير 2011 وحتى الآن، بالتصالح مع عدد كبير من رجال الأعمال الكبار من عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، مثل عمرو عسل بعد سداده 104 مليون جنيه.

2- التصالح مع الشركات والمؤسسات: دخلت الحكومات فى عمليات تفاوض مع عدد من الشركات بهدف التصالح معها، ففي مصر قامت شركة “آفاق” السياحية بسداد 107 مليون جنيه، وقامت شركة “رأس حوالة” للفنادق والتنمية السياحية بسداد 25 مليون جنيه، فضلا عن سداد شركة “بلو سكاى” 25 مليون جنيه والتنازل عن أقساط كانت دفعتها بقيمة 375 ألف جنيه.

3- التصالح مع المستثمرين الأجانب والعرب: نشبت خلافات عديدة بين حكومات بعد الثورات وعدد من المستثمرين الأجانب والعرب بشأن شراء شركات وأراضي بأرخص من أسعارها من الأنظمة السابقة، لكن يبدو أن جهودًا تبذل لحل تلك المشكلات بعيدًا عن مسارات التحكيم الدولي. ففي أواخر أكتوبر 2014 كشف أشرف سالمان وزير الاستثمار المصري عن قيام الحكومة بتسوية 21 نزاع مع مستثمرين أجانب وعرب.

4- التصالح مع المخالفات الاقتصادية المحدودة: وهو ما بدا جليًا مع قيام الحكومة المصرية، فى أغسطس 2014، بالإعلان عن سن قانون “التصالح فى مخالفات البناء” فى مقابل دفع مبالغ مالية فى إطار عملية تقنين أوضاع المخالفين.

جدل محتدم:

فى الوقت الذي تزايدت فيه مبادرات المصالحات المالية والاقتصادية، شهدت دول المنطقة حالة من الجدل المحتدم بين المؤيدين للفكرة باعتبارها تمثل حجر زاوية لعهد اقتصادي جديد، وبين الرافضين لها باعتبارها تمثل تكريسًا وعودة لسياسات الأنظمة السابقة، حيث يستند الاتجاه المؤيد للفكرة إلى عدة حجج، يأتي فى مقدمتها، أن المصالحة ستوفر مخصصات مالية ضخمة قادرة على تحسين الوضع الاقتصادي المتردي فى تلك الدول خاصة مع ضعف أداء لجان استرداد الأموال المنهوبة. كما أنها تمارس دورًا محفزًا وجاذبًا للاستثمار الأجنبي والعربي، باعتبارها تبعث رسالة تطمينية للمستثمرين الأجانب مفادها أن الدولة تدعم المستثمرين عبر إبداء حسن النية من خلال المصالحة.

يضاف إلى ذلك، أن المصالحة يمكن أن تجنب الدول خسائر مادية ضخمة، لا سيما مع رفع العديد من المستثمرين العرب والأجانب قضايا تتعلق بالتحكيم ضد الدولة، فمصر، على سبيل المثال، مهددة بدفع ما قيمته 18 مليار جنيه بما يعادل 2,36 مليار دولار غرامة فى ما يزيد عن 27 قضية تحكيم مرفوعة ضدها، وبالتالي فإن المصالحة يمكنها توفير هذا المبلغ الضخم، وهو ما يمكن توظيفه في مشروعات واحتياجات أخرى.

كما يشكل العامل النفسي من عملية التصالح أحد أبرز إيجابياتها، إذ أنها يمكن أن تفتح صفحة جديدة فى العلاقة بين المجتمع وجماعات رجال الأعمال وكبار المستثمرين بعد سنوات من الخصومة، مما يساهم فى ترسيخ حالة من الاستقرار السياسي والاجتماعي بعد عودة المال العام مرة إلى المجتمعات، واستخدامه فى دفع عجلة التنمية فى تلك الدول خاصة للطبقات المتوسطة والفقيرة التي تعتبر الأكبر فيها.

بينما يري الاتجاه الآخر أنها تناقض مبادئ وأهداف الثورات التي انطلقت بالأساس لمحاربة الفساد والرشوة، وهو ما أكدت عليه مية الجريبى الأمين العام لـ”الحزب الجمهوري التونسي”، التي قالت أن “مشروع قانون المصالحة الوطنية يريد طي صفحة الفساد دون كشف الحقيقة والمساءلة وتحميل المسئوليات، خاصة محاسبة من أجرم في حق هذا الشعب، ونهب من أمواله”، واعتبرت الجريبى أنه “إذا تم العفو دون المحاسبة فسيُوجد خطر على تكرار ما حدث في السابق”، مؤكدة أن “سياسة تبييض الأموال مطروحة للعودة بقوة”. فيما أشار نائب البرلمان غازي الشواشي إلى أن “قانون المصالحة مخالف للمادة 148 من الدستور التونسي التي تنص على التزام الدولة باحترام وضمان مسار العدالة الانتقالية الموكل لهيئة الحقيقة والكرامة”، وبالتالي فإن القانون يعتبر، في رؤيته، بمثابة سطو على جزء هام من صلاحيات هذه الهيئة.

وإجمالا، فعلي الرغم من وجود تيارات رافضة بشكل مطلق ونهائي لفكرة المصالحة الاقتصادية والمالية مع بعض رجال الأعمال، إلا أنه يبدو أن الحكومات لن تتراجع عن الاستمرار فى هذا الاتجاه، لا سيما مع زيادة الحاجة إلى توفير موارد مالية كبيرة نسبيًا لمواجهة التحديات الاقتصادية المتعددة، علاوة على وجود رغبة جامحة من قبل رجال الأعمال والشركات ذاتها فى تسوية تلك الملفات للعودة إلى الساحة الاقتصادية والسياسية من جديد.

المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية