تميزت الإحتجاجات الشعبية التي إنطلقت في ميادين وساحات مدينة بغداد والمدن العراقية الأخرى بتاريخ ٢٥ ايار ٢٠٢١ بعدة صفات أهمها أنها جاءت من رحم الشعب العراقي ومعبرة عن حقيقة الغضب العراقي من العملية السياسية وعدم قدرتها على التعامل مع الأزمات التي يعيشها ويكابدها المجتمع العراقي في كافة الميادين ومنها موضوعة الفساد السياسي والإقتصادي الذي أصبح السمة الأساسية التي تتصف إدارة الدولة بعد الإحتلال الأمريكي في التاسع من نيسان 2003 ، أي أنها تشكل إمتدادا واضحا لمشروع كبير يستهدف أمن وسلامة ومستقبل العراق بالعمل على إستنزاف ثرواته وضياع مستقبل شعبه وسرقة أمواله وجعل العراق ضعيفا بين الأمم والشعوب .
ولكن هناك أمرا أكثر أهمية ووضوحا هو خروج العديد من أبناء الشعب العراقي وبهذا الغضب العارم الذي أفصحت عنه الجموع الشعبية وعبر تنسيق شبابي على مواقع التواصل الإجتماعي للتعبير عن إحتجاجها على الفساد الحكومي الذي جعل القرار السياسي بن صالح واردات الأحزاب والكتل السياسية التي ابتعدت عن طموحات وآمال الشعب ،ولهذا فهي نادت بصورة صريحة وواقعية بإسقاط الأحزاب والكتل السياسية وإعتبار هذا الهدف من أهم الركائز الأساسية التي خرج من أجلها المنتفضون ، والمطالبة بحقوقهم ومناداتهم بإيجاد الحلول لأسباب البطالة والفساد وسوء إدارة شؤون البلد وضعف الخدمات العامة وعدم توفير فرص للعمل وتحسن الخدمات والتدهور الواضح في قطاعات التعليم والصحة والأمن والإعمار والبناء وتحسين البنية التحتية للبلاد .
كان الشباب العراقي شعلة وضاءة ومشعلا للحرية وصورة بهية للكفاح والجهاد في سبيل الوطن فكانت طموحات الشباب المنتفض تتمثل في عودة العراق الى عنفوانه وتأثيره الريادي على المستوى الداخلي والعربي والإقليمي والدولي ودعوة الشباب الى التوحد وإدامة العلاقة مع جميع شرائح المجتمع التي إنبرت مؤيدة ومساندة لطوحات وأهداف الثورة وشبابها المتدفق حيوية وفداء وعطاء في ملحمة عراقية رسمتها وأسست لها طلائع الشباب العراقي .
وهنا تعيدنا الذاكرة السياسية والشعبية الى المواقف والوقائع الكفاحية التي نادى بها شباب الرافدين عبر التاريخ العراقي المعاصر والتي ساندت طموحات وأهداف الشعب العراقي بعد إعلان قيام الدولة العراقية عام 1921 وما رافقها من إنتفاضات شعبية عديدة كانت أبرزها وأكثرها حضورا وعنفوانا وحددت مسارات الحياة السياسية في العراق هي إنتفاضات أعوام 1948 في وثبة كانون الثاني المجيدة ووثبة عام 1952 ضد القرارات الإقتصادية والمعاشية التي طالت البلاد أنذاك والموقف القومي الكفاحي لشباب العراق المساند للنضال القومي في مواجهة العدوان الثلاثي من قبل بريطانيا وفرنسا والكيان الصهيوني ضد مصر العروبة عام 1956 ،هذه المشاهد والأحداث الكبيرة والوجدانية أعادت بريقها ووهجها الاحتجاجات الشعبية عندما بدأت طلائع وشباب العراق تعمل جاهدة وبأطر علمية وبعلاقات سوية وبأهداف واضحة ومعايير أخلاقية كبيرة وبإتصالات عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الإجتماعي هي البداية الأولى التي أعلنت عن حضورها في جميع الميادين والساحات العامة في المحافظات الوسطى والجنوبية وساحة التحرير في بغداد وباقي الأماكن والمواقع التي إمتلئت بالحضور الشعبي والجماهيري المساند لدعوات الشباب المكافح .وكان الشباب المنتفض هو الدافع الرئيسي بثباته ووجوده وإيمانه الراسخ بحتمية التغيير وبإرادة الشعب المكافح الساعي لنيل حريته والإنعتاق من الظلم والفساد .
هذا التلاحم الشعبي كان له حضورا واسعا وتلاحما حقيقيا وإنسجاما رائعا أكدته صورة الوقفة التضامنية لجميع أبناء الشعب العراقي في مواساتهم لإخوانهم وعوائل شهداء مدن الفرات الأوسط والجنوب التي أعطت دماءا زكية وأرواحا طاهرة كما هي باقي مدن وأقضية المحافظات المنتفضة من الزمن الكفاحي والمبدئي والأصيل وصولا لمجتمع أمن ومستقبل زاهر ، لازالت حناجر وأصوات المنتفضين تعلو وتصدح بأهداف وتطلعات الشعب العراقي في الدعوة الى تحقيق العدالة الإجتماعية وصون حياة الإنسان العراقي والدفاع عن وجوده وحياته وإستمرار عطائه وتضحياته من أجل بلده وشعبه بعيدا عن الطائفية المذهبية التي أتى بها الغزو والإحتلال الأمريكي وساندها ودعمها النظام الإيراني .
حققت التظاهرات الشعبية زيادة في الوعي والإدراك والتعامل مع المشهد السياسي العراقي وفهم الصراعات السياسية والمناكفات بين الشخصيات الحزبية وأصبحت تدرك حقيقة الأهداف التي تسعى اليها هذه التشكيلات الحزبية وعملت على إفشال جميع المخططات التي سعت اليها في محاولة منها لإيقاف المد الجماهيري لقوى الشعب فتم رفض جميع قيادات الأحزاب والكتل السياسية ، ولكن الجماهير المنتفضة تمكنت وبإرادة شعبية كبيرة وبإصرار على الثبات والمواصلة والتأييد الشعبي والعشائري.
يوم الخامس والعشرون من أيار ٢٠٢١ سيبقى رمزا للإنتفاضة الشعبية العامرة ولروح الجماهير الوثابة وعنوان للعطاء والتضحية والثبات على المبادئ والدفاع عن الوطن والوفاء لأرواح الشهداء والدماء التي أريقت من أجل حرية وكرامة العراقيين وتعبيرا حيا وإمتدادا راسخا للإحتجاجات الشعبية الكبيرة المعبرة عن صور الكفاح والنضال الجماهيري في رفض التبعية السياسية بكافة أنواعها وإتجاهاتها الدولية والإقليمية وأعطت مفهوما وطنيا للتمسك بالإستقلال السياسي والإقتصادي وبناء المجتمع العراقي وتحقيق الأفاق الرحبة لحياة ملؤها العطاء والبناء والتقدم والإزدهار في ظل التماسك والتكاتف والتعاضد لأبناء شعبنا العراقي الأصيل.
وحدة الدراسات العراقية