من التقاليد العالمية الشائعة أن الحروب ليست أحداثاً عادية تجري في حياة البشر. وإنما هي أحداث فارقة ترتب تغييرات جوهرية في حياة الأمم. ولذا فإنه تجري في أعقابها محاولات جادة لاستخلاص الدروس من خلال لجان تحقيق أحياناً، وهيئات مراجعة أحياناً أخرى.
وتكون الأسئلة الواجب الإجابة عنها هي عما إذا كانت الحرب قد حققت الأهداف التي وضعت لها، أو أنها كانت مقتصرة على تحقيق ذلك، وعما إذا كانت الحرب ضرورية في المقام الأول، وهل كان ممكناً تجنبها. وفي العادة فإن التقييم لا يتوقف بانتهاء لجان التحقيق، ولكن تستمر المتابعة التاريخية في كل عصر. ولم تتوقف عمليات التحقيق في الحروب العظمى الأولى والثانية بعد عقود كثيرة. وفي العادة فإن عمليات التقييم والمراجعة الأولية تجري من المراقبين المباشرين، ومن الصحافة ومراكز التفكير والبحوث، قبل أن تنتقل المهمة للمجالات الأكاديمية في الجامعات وبين يدي المؤرخين.
حرب غزة الأخيرة ليست استثناء من هذه القاعدة فرغم صغر مدة الحرب، أحد عشر يوماً، وضيق مساحاتها في قطاع غزة، وأنها لا تماثل في مجال الحروب تلك العربية الإسرائيلية التي جرت في 1948 و1956 و1967 و1973، أو حتى في الصراعات الممتدة للانتفاضة الفلسطينية الأولى والثانية، أو حتى حروب غزة السابقة في 2008/2009 و2012 و2014؛ فإنها تظل نقطة فارقة في تطور القضية الفلسطينية والعلاقات العربية الإسرائيلية في العموم. فقد جاءت الحرب بعد سبع سنوات من الحرب الأخيرة، طغت فيها أحداث ما بعد “الربيع العربي” المزعوم بما فيها من حروب أهلية مريرة، وصراعات إقليمية لا تقل مرارة، وسقوط ضحايا وجرحى بمئات الألوف، ومعهم ملايين أخرى من اللاجئين والنازحين التي تحركت وسط موجات إرهابية ومدن مدمرة.
ببساطة، تراجعت القضية الفلسطينية إلى الوراء، وبدا أن التغييرات الجارية في الأمن الإقليمي وأبرزها محاولات دول إقليمية للهيمنة على المنطقة من خلال تابعين لها أو من قبلها مباشرة هي التي تحظى بالاهتمام والدراسة من قبل المهتمين والمراقبين.
حرب غزة طرحت أسئلة من نوعية هل هي امتداد للقضية الفلسطينية حقاً أم أنها امتداد للصراع الجاري في المنطقة؟ الامتداد للقضية جاء من أن الحرب أعقبت أحداث القدس وحي الشيخ جراح بكل ما كانت تثيره من أصول للمسألة الفلسطينية متعلقة بالمسجد الأقصى وحقوق اللاجئين الفلسطينيين ومحاولات تنظيمات إسرائيلية متطرفة في إقحام يهود بمساكن يعيش فيها فلسطينيون.
أما الامتداد المتعلق بأوضاع المنطقة فجاء أولاً من أن تنظيم حماس أخذ في قصف أهداف إسرائيلية دون أي مشاورات، ولا نقول إذنا، مع السلطة الوطنية الفلسطينية المفترض فيها أنها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. هي وحدها التي تملك سلطة الحرب والسلام وتقرير مصير الشعب الفلسطيني.
وفي الحقيقة أن الدخول في حرب هو مسألة أكثر تعقيداً بكثير من مجرد إشهار القدرة على إطلاق الصواريخ. وثانياً أن الصواريخ التي استخدمتها حماس في الحرب كانت من نفس نوعية الصواريخ التي ضُربت بها مدن عربية من قبل انطلاقاً من اليمن أو العراق.
لم يكن تواصل حماس مع إيران غائباً في أي لحظة من لحظات المعركة؛ وفي أوقات بدت تمنيات بتدخل إيراني في الحرب عن طريق حزب الله اللبناني عندما انطلقت صواريخ من جنوب سوريا ولبنان كانت إشارة أكثر منها حقيقة لأنها لمعت وانطفأت دون إصابة هدف. وثالثاً أن الحرب لم تحقق الكثير فيما يتعلق بالهدف الفلسطيني الأسمى وهو قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية. والعكس كان هو ما حدث عندما تم توجيه ضربة كبيرة لهدف الدولة نتيجة أنه لا توجد دولة حقيقية في العالم لا تكون فيها سلطة تمتلك حق الاستخدام الشرعي للقوة. كان في الأمر إشارة إلى النموذج اللبناني، حيث توجد الدولة التي يعرفها العالم بحكومتها ورئيسها وسفرائها وبنكها المركزي؛ ولكن قرار الحرب والسلام يقع في يد حزب الله الذي هو الجماعة المعتمدة من إيران في لبنان. في هذه الحالة لم تكن “حماس” تحارب من أجل فلسطين، وإنما حربها كانت جزءاً من الحرب الخفية بين إيران وإسرائيل التي باتت تجري في بر وبحر الشرق الأوسط.
أدت الحرب التي استمرت 11 يوما إلى مقتل أكثر من 240 من سكان غزة و12 من سكان إسرائيل، ودمرت معظم غزة، وفقاً لتقارير دولية تضرر 17 ألف مبنى وأحياء كاملة. ووفقا لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية تضرر كل شيء من مرافق الرعاية الصحية إلى البنية التحتية للمياه والصرف الصحي إلى خطوط الكهرباء من جراء الضربات الجوية، لكن حماس التي تحكم قطاع غزة وغيرها من الجماعات المسلحة الأصغر مثل الجهاد الإسلامي تفاخرت بما وصفته بأنه “هزيمة مذلة” لإسرائيل ولرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. والحقيقة هي أنه طبقا لما جاء في دورية “أتلانتيك The Atlantic” بتاريخ 24 مايو 2021 أثناء فترة الحرب أطلقت حركتا “حماس” و”الجهاد الإسلامي” 4369 صاروخًا من مختلف الأحجام ومدى الصواريخ من غزة باتجاه إسرائيل. ووفقا للمعلومات المتاحة، فإن ما يقرب من ثلثي هذه الصواريخ أخطأت أهدافها، حيث أصابت الحقول وغيرها من المناطق المفتوحة، أو تعطلت وسقطت بعد وقت قصير. ولا يزال ذلك يترك نحو 1500 صاروخ توجهت إلى مناطق مأهولة. ومن اللافت للنظر أن هذا الوابل أسفر عن سقوط عدد القتلى المشار إليه فقط من نحو 150 صاروخا بواقع أكثر من 10 صواريخ لكل إصابة، حيث تم اعتراض أكثر من 90٪ من الصواريخ بواسطة نظام الدفاع الصاروخي “القبة الحديدية”.
المدهش أنه لم ترد في إعلانات “حماس” معلومات عن الأهداف العسكرية والمدنية التي حددتها عند إطلاق هذه الصواريخ. والمرجح أن الإصابات التي جرت في إسرائيل كانت في تلك المناطق التي لا يتوافر لسكانها “فقاعات” خرسانية للجوء إليها ساعة القصف، وأغلبهم من الفقراء والعرب الفلسطينيين.
وفي المقابل ووفقاً لما جاء في دورية “ناشونال إنترست أو The National Interest” الأمريكية في 2 يونيو الجاري، رسم الجيش الإسرائيلي مخططًا لكيفية استهداف “حماس”. كان ذلك في عملية تسميها إسرائيل “مترو” في غزة، وهي سلسلة من الأنفاق تحت الأرض التي تربط أكثر من 100 كيلومتر تحت قطاع غزة. تجدر الإشارة إلى أن قطاع غزة يبلغ طوله 41 كيلومترا وعرضه بين 6 و12 كيلومترا، مما يعني أن شبكة الأنفاق تحت الأرض لم تكن واسعة فحسب، بل كانت مناطق متقاطعة أسفل المباني المدنية التي تشكل قطاعا كبيرا من قطاع غزة.
المنطقة مزينة بالمباني المنخفضة والبلدات والقرى، ما يجعلها واحدة من أكثر المناطق ازدحاما في العالم. بينما واجهت الجيوش في الماضي شبكات وعقبات أنفاق تحت الأرض، من خط ماجينو إلى أنظمة أنفاق أقيمت في كوريا الشمالية وفيتنام، ولكن ما جعل الأنفاق أكثر تعقيداً هو وجود العديد من المدنيين.
بدأت الحملة الرئيسية ضد “مترو” يوم الجمعة، 14 مايو، حيث قامت نحو 160 طائرة بمطاردة 150 هدفاً في حملة جوية استمرت ليلاً. وكانت النتيجة ما جاء في قوائم الخسائر البشرية والمادية لقطاع غزة؛ وما أضيف لها من إعطاب ٦٠٪ من النظام الدفاعي والصاروخي لحماس والجهاد الإسلامي.
على أي الأحوال انتهت الحرب، وجرى وقف إطلاق النار، وتبادل الطرفان حديث النصر، ورجع الفلسطينيون مرة أخرى إلى ما كانوا عليه من فصائل تجري محاولة المواءمة فيما بينها، وعاد الإسرائيليون إلى فصائلهم الخاصة لتشكيل حكومة جديدة، لم يكن هناك الكثير من الجديد تحت الشمس الفلسطينية الإسرائيلية.
عبدالمنعم سعيد