يُعتبر السكان أحد عناصر القوة الشاملة لأي دولة، فهُم الأساس البشري لكيانها.ويُمثِّل عددهم وتكوينهم العِرقي ومهاراتهم عاملاً مهماً ومؤثراً على سياسات الدولة وتوجُّهاتها التنموية. لذلك، اهتم الباحثون بدراسة التغيرات والتحولات السكانية في الدول، وذلك كأحد جوانب استشراف مستقبلها والتنبؤ بالمسارات السياسية والتنموية التي يُمكن أن تتخذها، هذا فضلاً عن مصادر القوة والضعف فيها.
وتزداد أهمية هذه الدراسات بالنسبة للدول الكبرى عندما يكون من شأن نتائجها التأثير على توازن القوى على المستوى العالمي، وقدرة كل منها على الاستمرار في معدلات تقدمها التكنولوجي والحفاظ على استقرارها السياسي والاجتماعي.
ومناسبة هذا الحديث هو إعلان مكتب الإحصاء المركزي في الصين نتائج التعداد السكاني السابع لها في 11 مايو 2021 وما أثارته هذه النتائج من تحليلات وتقديرات. وحسب نتائج التعداد، فإن عدد السكان بلغ مليارا و400 مليون نسمة في الأول من نوفمبر 2020، وأنه زاد بعدد 72 مليون نسمة في العشر سنوات التي انقضت منذ التعداد السابق في 2010، أي بنسبة زيادة قدرها 5.3% وهو ما يُمثِّل نسبة زيادة معتدلة.
تُشير النتائج إلى أن السكان يتوزعون وفقاً للنوع بين 51.24% ذكور، و48.76 % إناث. مما يُمثِّل توازناً بين الجنسين. وأنهم يتوزعون على الفئات العمرية إلى 17.9% في المرحلة السنية من الميلاد وحتى 14 عاماً، و63.3% في المرحلة السنية (15-59) سنة، و18.7% لمن هُم أكبر من ذلك.
وبشأن التكوين العِرقي، فإن الغالبية العظمى من السكان تنتمي إلى قومية “الهان” بنسبة 91% وذلك إضافةً إلى عدد من المجموعات العِرقية الأخرى. أما عن توزيع السكان على المساحة الشاسعة للصين، فتذكر نتائج التعداد أنها متوازنة، فيسكن في المناطق الشرقية 39.9%، وفي الوسط 25.8%، وفي الجنوب 27.1%.
إن قراءة هذه النتائج تقودنا إلى خمسة استخلاصات:
أولها، أن عدد السكان في الصين بلغ مرحلة النُضج والتوازن. وأن سياسات الدولة للحد من الزيادة السكانية التي اتبعتها لسنوات طويلة قد تحققت، وأنها لم تعُد تخشى من الزيادة السكانية المُنفلتة وتأثيراتها السلبية على نمو البلاد.
وثانيها، ارتفاع معدلات الحراك الجغرافي والاجتماعي. فتُشير النتائج إلى أن 492.76 مليون فرد، أي بما يعادل ثلث عدد السكان، يقيمون في مدن غير تلك التي وُلدوا ونشأوا فيها. وأن هذا الحراك زاد بنسبة 88.5% عن نظيره في التعداد السابق لعام 2010. وأن السبب الرئيسي لهذا الانتقال هو البحث عن فرص أفضل للعمل والحياة.
وثالثها، أن الصين هي مجتمع حضاري بالأساس وأن أغلبية سكانه يقيمون في المدن وليس في الريف. فوفقاً لنتائج التعداد، بلغت نسبة سكان الحضر 63.9% من إجمالي عدد السكان مقارنة بنسبة 49.7% في التعداد السابق لعام 2010. وأن نسبة سكان الريف بلغت 36.1% لعام 2020، مقارنة بنسبة 50.3% في عام 2010، أي أنها انخفضت بنسبة 14.2%.
ورابعها، أن الصين هي مجتمع صناعي بامتياز. فتتوزع القوة العاملة فيها ما بين 25.1% في الأنشطة الاقتصادية الأولية كالزراعة وصيد السمك والتعدين، و27.5% في الصناعة، و47.4% في الخدمات. أي أن ثلاثة أرباع القوة العاملة الصينية تشتغل بالصناعة والخدمات.
وترتَّب على ذلك، اختلاف نسب مساهمة كل قطاع في الناتج المحلى الإجمالي. فبينما تقلصت نسبة إسهام قطاع الأنشطة الأولية إلى 7.7%، ارتفع نصيب الصناعة إلى 37.8% وقطاع الخدمات على 54.5%.
وخامسها، أن الصين تتحرك تدريجياً للانضمام إلى مجموعة الدول الصناعية التي تزداد فيها نسبة عدد كِبار السِن، وخصوصاً مع انخفاض نسبة المواليد من ناحية، وزيادة العمر بسبب التقدم الطبي وتحسين نظم التغذية من ناحية أخرى. وهو ما يُسمَّى في الأدبيات بـ “مجتمعات الهِرم السكاني”. ففي هذا الإحصاء، ارتفع عدد السكان في الفئة العمرية أكثر من 60 إلى ما يُماثل خُمس عدد السكان.
ويرى المحللون أن الصين تستطيع رغم ذلك الحفاظ على معدلات النمو العالية فيها بدليل تراجع نسبة إسهام قوة العمل في إحداث هذا النمو مقارنة بزيادة حجم الاستثمارات والتقدم التكنولوجي. ويُضيف آخرون أن عدد سكان الصين ربما يتجه إلى الانكماش لكن ذلك سوف يرافقه تحسين نُظُم التعليم الصناعي والتكنولوجي وارتفاع مهارات القوة العاملة، ومن ثَم معدلات إنتاجيتها. مما سوف يسمح باستمرار مساهمة العمال الأكبر سناً وتأخير سن إحالتهم إلى المعاش.
بالطبع، فإن هناك تحديات تفرضها نتائج التعداد مثل ضمان إنتاج الغذاء مع تراجع نسبة العاملين في قطاعيْ الزراعة وصيد الأسماك، ونسبة إسهامهما في الناتج المحلي الإجمالي. لم توضح النتائج توزيع عدد السكان على المرحلة السنية الممتدة من 15 إلى 59 عاماً، مما يقلل من القدرة على استشراف مستقبل القوة العاملة وبالذات بعد زيادة نسبة الشيخوخة. كما لم تُفصِّل النتائج أيضاً في توزيع السكان على الأقاليم والمقاطعات، واكتفت بذكر بيانات عامة عن الشرق والجنوب والوسط.
ولكن المؤكد أننا إزاء مجتمع ديناميكي ينبض بالحيوية والنشاط، وأن اقتصاده قادر على استمرار معدلات النمو السريع مستفيداً من الاستثمار في التكنولوجيات المتقدمة والذكاء الاصطناعي.
د. علي الدين هلال