لقد كان للوفرة المائية في بلاد ما بين النهرين، دجلة والفرات، وروافِدهما الكثيرة، أهمية بالغة في صياغة تاريخها العريق، إذ أن قوة دفعها الفاعلة جعلت أهلَ هذه البلاد أوائلَ الرواد السبّاقين في الإبداع والابتكار والاختراع في مجالات الفلسفة والفكر والعلوم والأدب والفنون، وفي الزراعة والصناعة والاقتصاد، على مدى ألوف السنين.
وقد ارتبطت حياة الملايين من البشر في بلاد ما بين النهرين بالأنهر الكبيرة والصغيرة ارتباطا حيويا لا فكاك عنه، ولم تتأثر بما شهدته البلاد من حروب وغزوات، حتى أصبح من أصعب المستحيلات أن تقوم حياة للعراقيين بلا دجلة، وبلا فرات.
إلا في أيامنا الرديئة هذه التي بلغت فيها الدولة العراقية أرذل عمرها الطويل لتتجرأ عليها جارتاها المسلمتان، وتطعناها في ظهرها، فتَقطعان شرايين الحياة عن أهلها المستضعفين.
فقد كشف تقرير أعدته منظمة المياه الأوروبية عن حقيقة مخيفة تقول إن “العراق سيخسر واردات نهري دجلة والفرات بشكل كامل بحلول عام 2040”.
وذلك لأن تركيا أقامت مشروعا في جنوب شرق الأناضول أطلقت عليه اسم “GAP” يتكون من 22 سدا ضخما، منها 14 على نهر الفرات أهمها سد أتاتورك، و8 على دجلة أهمها سد إليسو الذي مكَّنها من حبس نصف موارد دجلة المائية، وجعلها تحتكر 90 في المئة من مياه نهر الفرات.
وقد لخّص الرئيس التركي الأسبق سليمان ديميريل، دوافع الأتراك للتصرف في مياه النهرين بانفرادية أنانية مفرطة، دون أي اعتبار لحقوق الآخرين فيها، فقال إن “مياه دجلة والفرات تركية، ومصادر مياههما تركية، وكما أن آبار النفط تعود ملكيتها للعراق وسوريا ونحن لا نشاركهما في مواردهما النفطية فلا يحق لهما مشاركتنا في مواردنا المائية. إنها مسألة سيادة”.
إلا أن حكومة رئيس الوزراء تركت أوزال عقدت في العام 1987 مع نظام حافظ الأسد اتفاقية منحت سوريا بموجبها 500 متر مكعب في الثانية من نهر الفرات، مقابل وعدٍ من حافظ الأسد بمنع مسلحي حزب العمال الكردستاني من نسف ذلك السد. لكنها رفضت عقدها مع العراق الذي لم يستطع أن يفعل شيئا للرد على هذا العدوان، وذلك بسبب انشغاله بحربه مع إيران، وبحكم حاجته الحيوية الملحة لتركيا كممرٍ لوارداته العسكرية والمدنية، آنذاك.
من جانبها دأبت إيران، منذ عام الغزو الأميركي للعراق في 2003 على إقامة سدود على منابع الأنهار الكبيرة التي تتدفق باتجاه العراق لتسيطر على مياهها، مثل نهر الزاب، وحوّلت مسار الأنهار الصغيرة لتبقى داخل الأراضي الإيرانية، الأمر الذي حرم العراق من حصته المائية، وتسبّب في جفاف الكثير من الأنهار، بينها نهر الواند في خانقين.
ووفقا لتوقعات مؤشر الإجهاد المائي، فإن العام 2025 سيكون عام الجفاف الشديد في عموم العراق، مع جفاف شبه كلّي لنهر الفرات، وتحوّل نهر دجلة إلى مجرى مائي شحيح.
إن هذا النوع من الغزو والاغتصاب ليس استخفافا بالسيادة الوطنية العراقية، فقط، ولا بحقوق الجيرة، ولا برابطة الدين، بل هو حرب تجويع قاتلة، وحصار اقتصادي مقصود أخطر وأشدُّ إيذاء من الحصار الدولي الظالم الذي فرضته الولايات المتحدة على الشعب العراقي في التسعينات. وقطع الأعناق ولا قطع الأرزاق.
وهو، بوجهه الآخر، استصغار واحتقار وإذلال متعمّد لكل من في الحكومة، وفي الحشد، وفي أحزاب السلطة. بل لكل الشعب العراقي، عملا بالمثل القائل “حين تسقط البقرة تكثر عليها السكاكين”.
وإزاء عدوان خطير من هذا الوزن ومن هذا النوع لا يستحي رئيس الحكومة والقائد العام للقوات المسلحة مصطفى الكاظمي من إكثار الحديث عن هيبة الدولة، ولا يكفّ مجاهدو ميليشيات الحشد الشعبي عن “تعيير” العراقيين بأنهم حماة أعراضهم، ولا يتوقف قادة أحزاب الولاء الكامل لولاية الفقيه عن الثرثرة بحب الوطن وكرامته وسيادته، ويتبعهم في ذلك ملوك دولة أربيل، وأمراء السليمانية، ولا يتخلف عن ذلك السياسيون الانتهازيون سنة الحكومة، حتى جعلوا المواطن العراقي يكره كلمة “هيبة”، ويسخر من كلمة “سيادة”.
فالحقيقة التي لا يعترف بها حكام المنطقة الخضراء هي أن الدولة العراقية، منذ أيام الغزو الأميركي، وتابعِه الاحتلال الإيراني، وهي بلا سيادة، وحكامَها بلا كرامة.
فالجارة المسلمة، إيران، داخلة بالعرض والطول في هيبة الدولة العراقية وسيادتها، ولا أحد يرى، ولا أحد يسمع، ولا أحد يتكلّم.
والجارة المسلمة الأخرى، تركيا، تدخل بجيوشها وتخرج كما تشاء ومتى تشاء، فتقتل وتعتقل وتحرق وتدمر، برضا حكومة بغداد، وبصمت نوري المالكي ومقتدى الصدر وهادي العامري وقيس الخزعلي، ومباركة الأسرة البارزانية، وسعادة أسامة النجيفي، وأخيه أثيل النجيفي، وأرشد الصالحي، قائد الجبهة التركمانية في العراق.
والخلاصة هي أن الحكام الذين نصّبهم الأميركيون والإيرانيون رؤساء جمهورية ورؤساء وزارات ووزراء وسفراء ومدراء وقادة جيوش لم يكتفوا، فقط، ببيع الدولة وسرقة أموالها وإفشال مؤسساتها وإشاعة الفوضى والرشوة في مفاصلها، وتجويع أهلها، وتعميق الخلافات الطائفية والعنصرية بين مواطنيها، وإشعال نار الاقتتال بين قبائلها ومحافظاتها، بل سمحوا بسرقة مياه نهريْها الخالدين، دجلة والفرات، وروافدهما العديدة، وسكتوا عن قتل شط العرب، وذبول الزهر، وموت الشجر، وهروب العصافير، ونفوق السمك، واختفاء الفواكه والخضار، واستبدال أغاني الشعراء والمطربين الذين ظلوا آلافَ السنين يتغنون بشواطئ دجلة وضفاف الفرات بقصائد الشكوى وبالنغم الحزين.
إذن ما دامت رابطة الدين لم تشفع، ولم تمنع، ولم تردع، فإن لغة القوة هي وحدها الرافعة الدافعة النافعة مع جيراننا الذين يخافون، ولا يستحون.
ثم، ما دام نظام المحاصصة المشؤوم لا يسمح بمعاتبة الولي الفقيه على سرقة مياه الشعب العراقي، فلينهض الكاظمي، وهو بطل الهيبة والسيادة، فيستخدم سلاح التجارة والنفط والاقتصاد مع تركيا، كما استخدمه السعوديون، ويهشّ عليها بعصا حزب العمال الكردستاني، كما هشّ بها قبلَه حافظ الأسد فأجبرها على تقديم فروض الطاعة.
فهل يفعل قبل فوات الأوان؟ أو… هل يستطيع؟
العرب