يعيش العراق وضعاً صعباً ومزرياً من كل النواحي، ولم تزل الاحتجاجات قائمةً في شوارع المدن الأساسية ضد سياسات الحكومة، وخصوصاً في بغداد، إذ لم تأبه الحكومة ورئيسها، حيدر العبادي، لما يجري من تظاهرات صاخبة، ومطالبات سلمية، وهي تتحرك في الشوارع، تقودها تنسيقيات قوى شعبية مدنية وشبابية ناشطة، تقف بالضد من أدوات الحكم المتحاصصة وآلياته الحزبية وعناصره الفاسدة. كلها اليوم تراهن على إضعاف قوة المتظاهرين، وكسر شوكة الأحرار الذين ما زالوا يراهنون على الإصلاحات، في حين تتوالى أعمال الضغط والإرهاب ضدهم من “عصابات” بأزياء رسمية، تقوم بتصفية بعض الناشطين، أو تخطف آخرين من القيادات الشابة، من أبرزهم الناشطون، علي هاشم وعماد طه وضرغام محسن الرشيد، وتعرضهم للتعذيب من دون أن تحرّك الحكومة ساكناً، أو تصدر حتى بياناً، أو أنها تقوم بدورها في حماية الناس، ثم التعرّض للناشط، واعي المنصوري، قبل شهر، وهو الذي لا يزال مغيباً، ولا تعرف الجهة التي اختطفته، وجرى قبل أيام اختطاف الناشط، جلال الشحماني، ولا يزال مصيره مجهولاً لرفاقه وعائلته.
ويبدو أن مثل هذه الأساليب البدائية لم تنل من همّة الثوار أبداً، إذ لم تزل الحشود تترى في ساحة التحرير، على الرغم من العوائق التي تضعها الشرطة بعلم وزارة الداخلية ورئيس الحكومة. تتهم تنسيقيات المتظاهرين الحكومة ومؤسساتها، اليوم، بفعل هذه الأعمال القمعية، لكي تخيف المتظاهرين والمحتجين الذين يزداد نشاطهم، وتكبر مطاليبهم يوماً بعد آخر، وجمعة تلو أخرى. ويقول أبرز المنسقين لهذه التظاهرات، إن تعرّض الناشطين للاعتقال أو الاختطاف لا يزيد الحركة الاحتجاجية في العراق إلا قوة وصلابة ضد الأوضاع الحالية، ومهما مورست ممارسات قمعية مثل هذه من المؤسسة الأمنية، فإن العنف لا يزيد الناشطين إلا تماسكاً ومطاولة. علماً أن المطالب الشعبية في العراق، حتى اليوم، لم تصل إلى الدعوة إلى إطاحة النظام السياسي، وتبديل العملية السياسية، بل إنها متوقفة في الدعوة إلى الإصلاحات الحقيقية، ومحاولة القضاء على الفساد المستشري في كل مرافق الحياة العراقية، وتطالب بمحاكمة الفاسدين، وكل الذين قادوا العراق إلى هذا الخراب. ولكن، إن بقيت الحالة على ما هي عليه، ستكون الحكومة العراقية مشاركة في الجريمة، وستحفر قبرها بأيديها، فهي ملتزمة الصمت القاتل إزاء الجرائم التي تحدث ضد الناشطين المعارضين، وبدأت تراهن على ضعف المتظاهرين. وثمة دعوات، من قلب ساحة التحرير في بغداد، اليوم، تطالب القيادات التنسيقية بتوحيد الجهود، وتصعيد الموقف إزاء رئيس الحكومة، حيدر العبادي، الذي يبدو أنه غير مبال أبداً بإرادة الشعب ومطالبه المشروعة.
يبدو أن حيدر العبادي، كما كتب صاحب هذه السطور في مقالات سابقة، أضعف سياسي عراقي يصل مصادفة إلى دفة الحكم، ليغدو رئيساً لمجلس وزراء، وهو لا يصلح أبداً في اتخاذ قرارات حاسمة، من أجل الاستجابة لتحدي الشعب، والبدء بالتغيير الجذري، كما أنه لم يزل يدور في دائرة حزبه، أي في فلك حزب الدعوة الإسلامية وحلفائه، فهو، كما تفيد الوقائع، رجل ضعيف جداً، ضمن هذه الطبقة الحاكمة السيئة، وإنه لا يدرك، حتى الآن، خطورة وضعه، كونه يقف في أعلى هرم السلطة، وربما يكون مشاركاً مشاركة حقيقية مع كل الفاسدين في تدمير العراق، وربما جمع كلّ هذه وتلك في سلّة واحدة. صحيح أنه يتخبّط اليوم، ولا يعرف من أين يبدأ، باعتماده على شلّة فاسدين من حزبه، لا تريد إزاحة الفساد، ولا محاكمة المجرمين بحق العراق والعراقيين، كونهم من أبناء ذلك الحزب، أو من قوى متحالفة.
العبادي، اليوم، مسؤول عن كل ما حدث منذ تسلمه أمر العراق، وما سيحدث في قابل الأيام. ونسمعه يخرج تلفزيونياً، بين وقت وآخر، لكي يبرّر وضعه، فيستجدي عطف الآخرين، فهو يتكلم ولا يفعل شيئاً، ويعد الناس ولا يفي بوعوده، والناس لا تعرف لماذا كلّ هذا الإصرار على إبقاء مسؤولين فاسدين، هم غاية الفساد في مناصبهم، بل لماذا لا يقدم على اتخاذ خطوات إجرائية، في تقديم جملة من المتهّمين والمجرمين إلى التحقيق والعدالة؟ وقد خرج، أخيراً، إلى العالم، يجلس إلى جانب سلفه نوري المالكي يضحكان، وكأن الأخير غير متهم بأبشع التهم طوال ثماني سنوات من حكمه الدامي العراق.
المسؤولية التاريخية التي يضطلع بها العبادي، اليوم، مضاعفة، وستكون نتائجها وخيمة جداً، فهو مسؤول عن نتاج سياسات كارثية اتبعها سلفه المالكي، من دون أن يعالجها جذرياً، ويقطع دابرها بإعلانه التخلي عنها، وعن كلّ العملية السياسية التي قادت إلى هذا المصير، وهو مسؤول عن الوضع الحالي، وما يمكن عمله إزاء حالات التردّي الاقتصادي، والإفلاس الذي تقود إليه سياساته البليدة. يعترف ببعض الأخطاء، ولكن، ليست لديه القدرة على معالجتها. خوفه من مراكز القوى المسيطرة عليه بالذات سيقوده إلى المقصلة حتماً، فهو، كما يبدو، ضعيف جداً، وخاضع لإرادات هذه الطبقة الحاكمة. وكم أتمنى عليه ألّا يبرر عجزه مرة بحجة أن الشعب لم يفوّضه بإجراءات حاسمة، ومرّة بحجّة الحفاظ على أحوال طبقة متنفّذة، يرى في التغيير إضراراً بمصالحها، ومنافع أبنائها، ومرّة أنه يرى أنّ مطالب المتظاهرين تعجيزية، وليس باستطاعته تنفيذها كلّها.
والحقيقة أن حيدر العبادي لا يصلح أبداً لقيادة العراق في أيّ مرحلة، وحتّى إنْ عاش مأزقاً،فهو يعاني من عجز وتراخ وضعف، وليس باستطاعته أن ينفصم عن هذه البنية الطفيلية التي ثبت للعالم مدى خطورتها في العراق. الإحباط النفسي وسوء الحياة المعيشية وانعدام الأمن والجوع وتفشي الفساد وانتشار الكوليرا الذي أصاب العراقيين يدفعهم إلى الثورة أو الرحيل إلى المجهول، والمجتمع يزداد تفككاً وتشرذماً يوماً بعد يوم. وما يعانيه المشرّدون والنازحون في داخل العراق من مآس وكوارث، وما حدث من تهجيرٍ للسكان ومن تدمير لحياتهم وتعايشهم وتقاليدهم وأطيافهم في كلّ أنحاء العراق سيكون له تبعات اجتماعية وسايكولوجية وخيمة، ما لم تبدأ الحكومة سياسات جديدة، وتمضي بهدي مبادئ وطنية جديدة، يبدو أن الشعب بات بحاجة إليها مع توالي الأيام.
تزداد الحكومة العراقية، وكل القوى الشريرة المسيطرة على حكم العراق، توحشاً وقساوة في الحفاظ على مصالحها ومنافعها ومفاسدها، باتباعها سياساتٍ تمرّست عليها، منذ زمن الاحتلال. وثمّة سجل حافل، لم يكتمل بعد، من الفضائح التي مارسها كلّ القتلة والطفيليين والعصابات والمليشيات وقوى الإرهاب في العراق، سنوات، ضدّ كلّ ما هو إنساني ووطني واجتماعي ومال عام، حتى خسر العراق أكثر من ألف مليار من الدولارات، لا يعرف أحد أين ذهبت. واليوم، يسير العراق نحو حافة الإفلاس، ويهرع قادته إلى الاستدانة والقروض الأجنبية من البنوك العالمية وبيع ثروات العراق بالآجل، على مدى مائة سنة، من أجل نهب الأولين والآخرين وكلّ ثروة الأحفاد القادمين. إنهم يريدون رهن العراق، واتّباع أكبر جريمة في تاريخه، لكي تكمل مافيات هذه الطبقة الحاكمة سرقاتها، حتى من أفواه العراقيين القادمين في المستقبل.
لا يمكن للعراقيين الأحرار أن يسكتوا، بعد اليوم، فالصمت لا يجدي نفعاً إزاء ما تفعله هذه الطبقة الحاكمة والقوى الشريرة المتحالفة معها، والمناصرة لها. إلى متى يبقى هؤلاء متسلطين وحاكمين، وهم يتاجرون باسم الدين، وباسم الديمقراطية، وباسم الطائفة، وباسم المرجعية ضمن عملية سياسية جائرة، أثبتت الأيام سخفها ورداءتها وعفانتها؟ متى يمزق الشعب العراقي كلّ الحجب، ليقوم بثورته العارمة ضد بؤر الفساد في المنطقة الخضراء، وكل القصور الكبرى، ويقتلع منها مومياءات هذه العملية السياسية؟ متى يتحرر كل العراق من هذه الطغمة الحاكمة ويزيل كل آثارها، ويعيد إلى العراقيين كرامتهم وحرياتهم وحقوقهم ومواطنتهم ومدنهم السليبة وبيوتهم وأموالهم العامة، ويحافظ على حدودهم وثرواتهم وأساليب حياتهم وحياة أبنائهم وأحفادهم؟
سيّار الجميل
العربي الجديد