الحركة الديمقراطية المصرية في ضوء‮ ‬الخبرات الدولية

الحركة الديمقراطية المصرية في ضوء‮ ‬الخبرات الدولية

2015-635790425022030202-203
في مراحل الوهن، تؤسس بعض الحركات المجتمعية لتعافيها المستقبلي، حين توظف أدوات النقد الذاتي بهدف إعادة النظر في أحوالها، وأدوارها، وممارساتها، ولكي تنتج تقييما موضوعيا لأسباب هذا الوهن، والسبل الحقيقية لتجاوزه.

الكثير من هذا تحتاج إليه اليوم الحركة الديمقراطية في مصر التي تواجه أزمة كبري وتبحث عن البقاء، وعن شيء من الفاعلية في واقع تتكالب علي مواقع القوة والنفوذ والتأثير فيه مصالح، ومؤسسات، وأجهزة ذات نزوع سلطوي يتعارض مع سيادة القانون، وحقوق وحريات المواطن، وبلا رؤية واضحة بشأن قضايا التقدم، والتنمية المستدامة، والعدالة الاجتماعية.
أولا – خبرات دولية:
في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين، وعقب حربين عالميتين مدمرتين، قامت أغلبية الحركات اليمينية والمحافظة في المجتمعات الأوروبية الغربية بنقد ذاتي شامل، مدفوعة بحقيقة أن الأفكار الفاشية والعنصرية تبلورت علي حوافها، وبكونها تحالفت مع حكومات غير ديمقراطية، وامتنعت عن مقاومة الاستبداد، والحروب، وجرائم الإبادة، والجرائم ضد الإنسانية، والانتهاكات المروعة، وأعادت تعريف مرتكزاتها كحركات ديمقراطية وحزبية تشارك في العمل العام والسياسي بسلمية وعلنية، وباحترام لمبادئ سيادة القانون، وتداول السلطة، عبر آليات وإجراءات انتخابية، ومواطنة الحقوق المتساوية، وكحركات اجتماعية تدافع عن المزج بين اقتصاد السوق ومسئولية الدولة لضبط اختلالاته، ومناهضة التمييز، وضمان الحياة الكريمة للمواطن، وتسعي للجمع بين احترام حريات الأفراد، والتزام مقتضيات المعرفة، والعلم، والعقل، وبين تشجيع المجتمع علي تقدير منظومات القيم الدينية دون إجبار، وفي إطار دساتير وقوانين تحمي التعددية والتسامح.
وفي سياقات مغايرة، شهد النصف الثاني من القرن العشرين اتجاه بعض الحركات اليسارية والشيوعية في المجتمعات الأوروبية الغربية إلي مراجعة لأحوالها وأدوارها المجتمعية، ومواقفها السياسية علي نحو أخرجها من خانات رفض الآليات والإجراءات الانتخابية، ومهد لمشاركة أحزابها من مواقع المعارضات البرلمانية في الديمقراطيات الليبرالية، التي كانت مؤسساتها التشريعية، والتنفيذية، والقضائية تتشكل (أو يعاد تشكيلها)، وتستقر في ظل حالة من القبول العام، وساعدها علي إلزام الحركات اليمينية والمحافظة وأحزابها “الديمقراطية المسيحية” ببعض سياسات العدالة الاجتماعية، وبضمانات حقوق وحريات المواطن.
وفي العقدين الأخيرين من القرن العشرين، وإزاء تبني حكومات اليمين في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية لتوجهات اقتصادية واجتماعية نيوليبرالية، عمدت إلي إنهاء أو تقليص سياسات العدالة الاجتماعية في قطاعات حيوية، كالخدمات التعليمية، والرعاية الصحية، وضمانات الحياة الكريمة للعاطلين عن العمل، والفقراء، والضعفاء، سنا، أو مرضا، أو عجزا، وإلي تهميش دور الدولة والمؤسسات ذات الملكية العامة في ضبط اختلالات السوق، وإزاء توالي فوز اليمين بالانتخابات البرلمانية في بريطانيا وألمانيا وغيرهما، وبالانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة الأمريكية، وبلدان أخري – شرعت حركات اليسار مجددا – ومن مواقع المعارضة، في إعادة النظر في جمودها الفكري الذي ألزمها بالدفاع عن سياسات للعدالة الاجتماعية، أضاعت الأغلبيات الانتخابية المؤيدة لها، في ظل تراجع مؤشرات الأداء الاقتصادي والاجتماعي. وكان أن خرج اليسار الأوروبي، عبر أحزابه العمالية والاشتراكية الديمقراطية، برؤي جديدة للمزج بين اقتصاد السوق وبعض سياسات العدالة الاجتماعية، مع الدفع باتجاه تحسين الأداء الاقتصادي والاجتماعي. وعُرفت هذه الرؤي في بريطانيا بالطريق الثالث، وفي ألمانيا بالاشتراكية الديمقراطية الجديدة، وفي الولايات المتحدة بالليبرالية الاجتماعية. وكان أن تمكنت هذه الرؤي من إعادة الأغلبيات الانتخابية إلي اليسار، ودفعت لبعض الوقت بقيادات أحزابه إلي مراكز الحكم مع توني بلير في بريطانيا (1997-2007)، ومع جيرهارد شرودر في ألمانيا (1998-2005)، ومع بيل كلينتون في الولايات المتحدة (1993-2001)، بغض النظر عن تقييم أداء هؤلاء القادة بعد وصولهم انتخابيا للحكم.
وطوال ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، والعقد الأول من ألفية الإنسانية الجديدة، وظفت الحركات العمالية، واليسارية، والحركات الديمقراطية، ومجموعات الدفاع عن الحقوق والحريات في العديد من بلدان أمريكا اللاتينية أدوات النقد الذاتي لإدراك أوجه الوهن، والعجز، والقصور التي تورطت بها، أو فرضت عليها، ومكنت نخبا مستبدة، ذات مكونات عسكرية ومدنية، إما من الإطاحة بالحكومات اليسارية، أو من القمع الدموي للمعارضات الشعبية، أو من ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وانتهاكات واسعة النطاق ضد الشعوب دون مساءلة أو محاسبة، وفي ظل شيء من التأييد الدولي، خاصة من قبل رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية المتعاقبين.
في سياق النقد الذاتي، انفتحت بعض الحركات العمالية واليسارية في أمريكا اللاتينية، بهدف الاقتراب من المواطن، ومن الرأي العام المحلي والعالمي، علي المشاركة في الآليات والإجراءات الانتخابية في بلدانها، وإن اتصفت بالشكلية، وبغياب النزاهة والشفافية، واتجه بعضها الآخر إلي تركيز جهوده في أنشطة المجتمع المدني، وفي العمل التنموي والجماهيري المنظم وطويل النفس. وتبنت طائفة ثالثة من الحركات مهام إدارة حملات توعية محلية وعالمية بشأن الجرائم والانتهاكات، وحتمية توثيقها، والكشف عنها، ومصارحة الناس بها، والمحاسبة عليها.
وقامت طائفة رابعة باستثمار طاقاتها في الإنتاج الفكري، والمعرفي، والسياسي الذي ابتعدت به عن الصياغات الحادة للأفكار الشيوعية، واعترفت بحق كافة الحركات والقوي السلمية في الوجود، ومن ثم في الانفتاح التدريجي علي المؤسسات الدينية التي دعمت تقليديا اليمين، بما في ذلك حكوماته ذات السمات شبه الفاشية، ثم بحثت بعض قطاعاتها التقدمية (تعرف بمسمي لاهوت التحرير) عن تجاوز لمأزق التوقف عن دعم السلطات دون تورط في مساعدة حركات شيوعية تطالب بالقضاء علي الدين، وفي الاقتراب من مؤسسات التعليم الجامعي، ووسائل الإعلام والثقافة التي كانت الكثير من العناصر الليبرالية المؤثرة بها راغبة في التعبير الحر عن الرأي والفكر، ونقد الفاشية والاستبداد، في سياقات أوسع من الانتماء إلي اليسار، وتبحث عن أطر جماعية قد توفر شئيا من “الأمان النسبي” للقيام بذلك.
وكان حصاد التوظيف الجاد لأدوات النقد الذاتي من قبل الحركات العمالية واليسارية والحركات الديمقراطية في أمريكا اللاتينية هو مسارات تحول ديمقراطي مبهرة تستوطن المجتمعات، والدولة، والحياة السياسية، في ظل قبول شعبي، وتوافق بين اليسار واليمين علي تطبيق منظومات متكاملة للعدالة الاجتماعية، وللعدالة الانتقالية لتحقيق المكاشفة والمحاسبة، ثم ممارسة التسامح بشأن جرائم وانتهاكات الماضي، ولضمانات حقوق وحريات المواطن دون تمييز بين السكان الأصليين وذوي الأصول الأوروبية، أو بين ميسوري الحال ومحدودي الدخل.
ثانيا – أزمة الحركة الديمقراطية :
تستطيع الحركة الديمقراطية في مصر الإفادة من الخبرات الدولية هذه، والبناء عليها، وعلي خبرات كثيرة أخري للتعافي المستقبلي، وللانتصار للوطن العادل والمتقدم والمتسامح الذي تبحث عنه.
فمنتسبو الحركة الديمقراطية في مصر فئات عدة. فهناك من تفرض عليهم ممارسات سلطوية هوية ضحايا المظالم والانتهاكات، عبر قوانين وإجراءات قمعية، وعقوبات سالبة للحرية. وهناك من يتوزعون علي منظمات المجتمع المدني، وتشكيلات نقابية، وشبابية، وطلابية مختلفة. وثمة من يحضرون علي هوامش المجال العام كأصحاب رأي وفكر حر يغردون بعيدا عن الموجة المؤيدة للسلطوية، وكذلك عن رافعي شعارات الديمقراطية بغير اتساق، ما كان له إلا أن يحتم رفض انتهاكات الحقوق والحريات دون معايير مزدوجة، ورفض الخروج علي مسارات التحول الديمقراطي دون استسلام لمقولات “الضرورة” الرائجة. ويملك هؤلاء كلهم المهارات العقلية، والأدوات الفكرية اللازمة للانفتاح علي الخبرات الدولية، ويستطيعون اليوم التوظيف الإيجابي لوضعية الوهن الراهنة للشروع في نقد ذاتي جاد، والتحرك بوعي إلي الأمام.
وبدون استعلاء أو إنكار، تتراكم اليوم لدي منتسبي الحركة الديمقراطية من الخبرات المجتمعية ما يؤهل لجر الخطوط الفاصلة بينهم وبين قوي الإرهاب والعنف والتطرف التي تدعي، زورا وبهتانا، مواجهتها للسلطوية. وهي بحملها للسلاح، وقتلها للناس، وبطائفيتها المقيتة، وتهديدها لسلم المجتمع الأهلي، ولمؤسسات الدولة الوطنية، تتناقض بالكامل مع كافة مرتكزات وأهداف الديمقراطيين، وتبرر عملا للمزيد من القمع السلطوي، ولذلك ينبغي خوض مواجهة شاملة ضدهم. كما تتوافر لدي مكونات الحركة الديمقراطية من عناصر الرؤية الواضحة ما يساعد أيضا علي جر الخطوط الفاصلة بينهم وبين من يرفعون شعارات الديمقراطية، والحقوق والحريات، ويوظفونها لتمرير السلطوية، أو لتبريرها كإجراءات “ضرورة”، أو يتقلبون في تعاملهم مع انتهاكات الحقوق والحريات بين صمت وإدانة، وفقا لمعايير مزدوجة، أو يحتكرون زيفا حق الحديث باسم الوطنية، وباسم الدولة الوطنية.
ويملك منتسبو الحركة الديمقراطية كذلك من التعددية والتنوع واحترام الآخر ما يلزم بالانفتاح علي أصوات ومجموعات بين صفوف الموالاة، باتت تتحفظ علي طغيان المكون الأمني، وتنتقد تكرر المظالم والانتهاكات، وتتخوف من موت السياسة.
في هذا السياق، وفي سياق الإفادة من الخبرات الدولية التي سبقت الإشارة إليها، يستحيل المزج بين الفكرة الديمقراطية وفهم للعلاقة بين المواطن، والمجتمع، والدولة، ومنظومة الحكم/السلطة، يستند إلي تبرير احتكار هذه المنظومة لمؤسسات وأجهزة الدولة، واختزالها في إرادة الحاكم، ومن ثم توظيفها لحصار واستتباع المجتمع، وإلغاء حيويته وفاعليته المودعة في تنظيماته الوسيطة وقطاعه الخاص، ولإخضاع المواطن وتجريده من الإمكانيات الفعلية للاختيار الحر، وللمبادرة الفردية، والسعي الذاتي إلي التقدم، عبر إعمال المعرفة، والعلم، والعقل، وإلي الترقي من خلال التزام قيم الإنسانية المحبة للحياة وللتسامح.
فالأسس الكبري التي تتشكل من حولها الفكرة الديمقراطية تتمثل فيما يأتي:
1- حتمية تحرير المواطن الفرد من استبداد منظومة الحكم/السلطة، والانتصار لحقه في الاختيار الحر إزاءها، كما تنتصر الفكرة العلمانية للحق نفسه لجهة السلطات والمؤسسات الدينية.
2- ضرورة فك حصار منظومة الحكم/السلطة للمجتمع، وغل اليد المستبدة والجبرية والقامعة لمؤسسات وأجهزة الدولة، لكي تتحرر إرادة الناس الجماعية، وتصان إنسانيتهم من الظلم، والقهر، والخوف، ومن ثم تُطلق حيوية وفاعلية واستقلالية تنظيمات المجتمع الوسيطة والقطاع الخاص.
3- تطبيق مبادئ العدل، وسيادة القانون، وتداول السلطة، والمحاسبة لإنقاذ مؤسسات وأجهزة الدولة من أخطار احتكارها من قبل منظومة الحكم/السلطة، وللحيلولة دون التوظيف الاستبدادي والإخضاعي لقدراتها، عوضا عن الاضطلاع بمهام الدولة الأصلية، وهي ضمان الأمن، وتحقيق الإدارة الرشيدة (الكفء وغير الفاسدة)، والتوافقية (محل رضاء قطاعات شعبية واسعة) للموارد والثروات، واحترام حق المواطن في الاختيار الحر، والامتناع عن حصار المجتمع.
وليست مصر باستثناء من هذه الأسس التي تثبتها تواريخ البشر المعاصرة، شرقا وجنوبا، كما غربا وشمالا. وليس نشر الفكرة الديمقراطية اليوم بين أهلها وفي ربوعها بممكن، ما لم تستقر في الضمائر والعقول أولوية حق المواطن في الاختيار الحر، وحق المجتمع في الحرية، والإنسانية، واستقلالية تنظيماته الوسيطة وقطاعه الخاص، وواجب الدولة في العدل، والتزام سيادة القانون، والتداول والمحاسبة في مواجهة خطر استبداد منظومة الحكم/السلطة.
وليست الحركة الديمقراطية المصرية بمغادرة لمواقع وخانات الوهن الراهنة، ما لم – بين شروط أخري – تسلم جميع أصواتها ومجموعاتها، ويقنع الراغبون في الانتساب إليها بخطأ تبرير إخضاع المواطن، وتمرير حصار المجتمع، وإبعاد مؤسسات وأجهزة الدولة عن مهامها الأصلية.
وبالتبعية، ليست الحركة الديمقراطية بقادرة علي العودة بمصر إلي مسار تحول ديمقراطي، ما لم تصنع، من جهة، الكثير من الروابط الإيجابية بين الإنقاذ الفعلي للوطن، والانتصار للمواطن، وللمجتمع، وللدولة العادلة القوية، وتفك، من جهة أخري – دون تردد، أو مواربة، أو رمادية – الارتباط المتوهم بين الإنقاذ الفعلي للوطن، وقبول استبداد منظومة الحكم/السلطة، والادعاء المتكرر بحضور استثناءات تحتمه، أو ضرورات تفرضه.
وحين تتصاعد اليوم، وبعد صمت نسبي، وعلي وقع المظالم المتراكمة، الإدانة العلنية لانتهاكات حقوق الإنسان والحريات، وتعلو أصداء المطالبة بإحياء السياسة كنشاط حر، وتعددي، وتفاوضي، ومقاومة غلبة النهج الأمني علي فعل الحكم/السلطة، ومؤسسات وأجهزة الدولة، نكون إزاء تحولات إيجابية، جوهرها تخليق مساحات إضافية في المجال العام للدفاع عن بعض مضامين الحكم الرشيد، وعن الحقوق والحريات دون معايير مزدوجة.
ثالثا-“الشفرة” الديمقراطية بين اليمين واليسار:
يمينا، تأتي في الصدارة المسئوليات الآتية: 
1- عبء إعادة المكانة لحق المواطن في الاختيار الحر، ولاحترام مشاركته في إدارة الشأن العام، عبر الآليات والإجراءات الانتخابية وغيرها، دون التحقير من وجهة الاختيار والمشاركة، إن باستدعاء ممارسات الرشوة الانتخابية، أو من خلال إخضاع الفقراء، ومحدودي الدخل، وغير المتعلمين، وأهل الريف لاستعلاء مدعي الوعي من ميسوري الحال، والطبقات الوسطي، والفئات المتعلمة والمدينية.
 2- اكتشاف الأفضلية الأخلاقية، والأولوية المجتمعية والسياسية لحماية حيوية، وفاعلية، واستقلالية تنظيمات المجتمع الوسيطة (منظمات المجتمع المدني والجمعيات الأهلية)، والقطاع الخاص إزاء تغول مؤسسات وأجهزة الدولة.
3- التيقن من أن إقرار حق المواطن في الاختيار الحر واستقلالية المجتمع هما، مع إجراءات العدالة الاجتماعية، ضمانتا نشوء وتماسك طبقات وسطي قوية تبحث عن المبادرة الفردية بهدف الترقي، وتتجه إلي النشاط في التنظيمات الوسيطة والقطاع الخاص لإنجاز التقدم العام، وتطالب بخدمات تعليمية، واجتماعية، وثقافية ذات جودة، وتدفع منظومة الحكم/السلطة إلي الالتزام بالعدل، وسيادة القانون، والتداول والمحاسبة.
 4- إدراك أن اعتماد مبادئ مواطنة الحقوق المتساوية، دون تمييز، وفصل الدين عن قضايا الحكم، والسلطة، والسياسة، وإخضاع المؤسسات جميعها لرقابة السلطات العامة المنتخبة، تعد عناصر أساسية للمجتمع الحديث وللدولة الوطنية الحديثة.
أما مسئولية اليسار عن إعادة النظر في علاقة المواطن، والمجتمع والدولة، ومنظومة الحكم/السلطة، وتعميق حراك إدانة الانتهاكات، والمطالبة بإحياء السياسة، فتستدعي أمرين أساسيين: 
1- عدم منح الشرعية الأخلاقية، والمجتمعية، والسياسية لاستبداد الدولة إزاء المواطن، ولفرضها الحصار علي المجتمع وتنظيماته الوسيطة وقطاعه الخاص، وإدراك أن هذا التغول يفتقد كافة الأسباب الفعلية للقوة، وللمنعة، وللتقدم. فدولة اليسار المتغولة هي نقيض الأمل في الدولة الوطنية العادلة القوية، ونقيض الفكرة الديمقراطية مادامت لم تحضر مبادئ العدل، وسيادة القانون، وتداول السلطة، والمحاسبة، وتستقر الضوابط الناتجة عنها وعن حق المواطن في الاختيار الحر والمجتمع في الاستقلالية.
2- إعادة المكانة لأولوية الصياغة الديمقراطية دستوريا، وقانونيا، وسياسيا للعلاقة بين المؤسسات العسكرية والأمنية، وبين المؤسسات التنفيذية المدنية، والسلطة التشريعية المنتخبة، والسلطة القضائية المستقلة.
وبدون ذلك، ستتراجع فرص إكساب الحراك الراهن للمطالبة بإحياء السياسة في مصر سمات ديمقراطية واضحة، وتطويره باتجاهات ترسيخ الارتباط بالفكرة الديمقراطية. غير أن فك الشفرة، وفي سياق الاجتهاد معرفيا وفكريا للبحث عن مخارج للحركة الديمقراطية من مواقع وخانات الوهن، ولحماية المواطن والمجتمع، والدولة الوطنية من الاستبداد، يقتضي أيضا تحرير الفكرة الديمقراطية من بعض الأوهام واجبة التفكيك.
رابعا – تفكيك أوهام التعاقب والتأجيل والضرورة وتديين السياسة:
أحاطت هذه الأوهام بالفكرة الديمقراطية في مصر منذ خمسينيات القرن العشرين، وضربت عليها صنوفا من الحصار المعرفي، والقيمي، والفكري، والسياسي علي نحو حال دون تجذرها المجتمعي، ومكن – بين عوامل أخري – السلطوية الحاكمة من البقاء طويلا، ومن احتواء لحظات الطلب الشعبي علي الديمقراطية، بالتعارض مع الاتجاه العام للخبرات الدولية في هذه الفترة. وما لبثت هذه الأوهام تُحكم حصارها حول الفكرة الديمقراطية في واقعنا الراهن، وتفتح الأبواب مشرعة أمام التجديد المستمر للسلطوية.
1- وهم التعاقب: وهو يرتبط بترويج منظومات الحكم/السلطة التي سيطرت علي مصر منذ 1952، ومعها بعض نخب اليسار التقليدي، (ومضاده اليسار الديمقراطي الذي تبلور فكريا وتنظيميا خلال العقود الماضية) لكون بناء الديمقراطية يمر، أولا، عبر تحقيق معدلات تنمية اقتصادية واجتماعية تتغلب علي أزمات التخلف، والفقر، والأمية، والبطالة، والفجوات الواسعة في معدلات دخول الأفراد، وتحسن من ظروف الناس المعيشية، ومن مستويات الخدمات التعليمية والصحية، وخدمات الرعاية المتاحة لهم، وتدعم الجهود والخطط التنموية، التي ليس لها من دون “الدولة ومشروعاتها العملاقة” من فاعلين قادرين علي الاضطلاع بها، وذلك عبر التأسيس لسيادة القانون، وتداول السلطة، وضمانات الحقوق والحريات.
وبعيدا عن أن الكثير من دراسات العلوم السياسية، والأبحاث الاقتصادية تجرد الرؤية “التعاقبية” – البدايات التنموية المتبوعة بتحول ديمقراطي – من الحجية، نظرا للعدد المحدود من المجتمعات والدول التي اقتربت من التماهي معها منذ خمسينيات القرن العشرين، وللخصوصية البالغة المرتبطة بها (كوريا الجنوبية كمثال)، وتصنفها من ثم كوهم ذي جاذبية للسلطويات الحاكمة، يتجاهل هذا “التعاقب” ثلاث حقائق، هي:
أ- إن تطور المجتمعات والدول يندر أن يأتي في خطوط مستقيمة لا تتداخل، أو في مراحل زمنية قاطعة يمكن بصددها إعمال القواعد الهندسية، والحسابات المعملية لتعريف البدايات والنهايات المنظمة، وتحديد النقلات المتوقعة من خطط تنموية إلي تحول ديمقراطي.
ب- اعتياد منظومات الحكم/السلطة والنخب المتحالفة معها علي إخضاع المواطن، والمجتمع، والدولة، والامتناع عن التأسيس لسيادة القانون، وتداول السلطة، وضمانات الحقوق والحريات، يؤديان بها إلي الربط العضوي بين بقاء الإرادة الانفرادية وحماية مصالحها، وبين غياب الديمقراطية. ويقود ذلك إلي دفاع مستميت عن السلطوية في لحظات الطلب الشعبي علي الديمقراطية، حتي حين تنجح الخطط التنموية في التغلب علي أزمات التخلف، والفقر، والأمية، والبطالة، وتتحسن ظروف الناس المعيشية، وهو ما لم يحدث في مصر علي نحو مستدام منذ خمسينيات القرن العشرين.
ج- تواصل غياب الديمقراطية ينزع عن مؤسسات وأجهزة الدولة، وعن غيرها من المؤسسات العامة، وعن المؤسسات الخاصة، وبل وعن بعض تنظيمات المجتمع الوسيطة في المساحات الأهلية والمدنية، القدرة علي إدارة شئونها ومن ثم شئون المواطن، بمعزل عن السلطوية الحاكمة التي تصبح بذلك الإطار المرجعي الوحيد للمجتمع وللدولة، ويصبح التعاطي معها الوسيلة الوحيدة الجاهزة للاستدعاء فرديا وجماعيا.
2- وهم تأجيل بناء الديمقراطية، وارتهان سيادة القانون، وتداول السلطة، وضمانات الحقوق والحريات لأهداف تصاغ كشعارات كبري، وتربط منظومات الحكم/السلطة بينها وبين “المصلحة الوطنية”، و”المصلحة العامة” علي نحو أحادي لا يحتمل الإضافة أو التعديل، وتسير علي درب الحكام نخب التابعين.
منذ منتصف القرن العشرين وإلي اليوم، تتردد مقولة “لا صوت يعلو” وأمثالها، لكي تقدم الاستقلال الوطني، أو التنمية، أو تأهيل الناس للممارسة الديمقراطية، أو الاشتراكية، أو تحرير فلسطين، أو مواجهة الصهيونية والإمبريالية، أو معركة تحرير التراب الوطني، أو الرخاء الاقتصادي، أو الاستقرار، أو الحفاظ علي الدولة الوطنية، أو الحرب علي الإرهاب، كصنو “المصلحة الوطنية”، ولإقصاء كل ما يتعلق بأهداف، أو قيم، أو مبادئ أخري. ومنذ ذلك الوقت، يتم توظيف مقولة “لا صوت” لتبرير تأجيل الديمقراطية، وللتعميم الزائف للنظرة السلبية لسيادة القانون، وتداول السلطة، وضمانات الحقوق والحريات كمعوقات وقتية تحول دون حماية “المصلحة الوطنية”، وتحقيق أهداف “المرحلة”، أو كترف “لا تحتمله الأخطار والتهديدات والتحديات التي يتعرض لها الوطن”، ويتعين بالتالي تأجيل المطلب الديمقراطي، وإسكات الأصوات والمجموعات التي تطالب به.
ويتم في هذا السياق استبعاد الروابط الإيجابية بين سيادة القانون، وتداول السلطة، وضمانات الحقوق والحريات، وبين إنجاز المجتمعات والدول لاستقلالها الوطني، وللتنمية، وللتقدم وللرخاء، وللسلم الأهلي، وذلك علي الرغم مما لهذه الروابط من دلائل ذات حجية ومصداقية تأتي بها تواريخ الكثير من الشعوب البعيدة، عنا وبعضها القريب منا.
3- وهم الضرورة الوطنية: ينبع المحتوي السلطوي لمقولات الضرورة من كونها في حدها الأدني تبرر للخروج علي الديمقراطية، وتنزع عمليا عن المواطنات والمواطنين الحق في الاختيار الحر في الانتخابات بإضفاء شرعية الضرورة الوطنية علي المرشح الرئاسي لمنظومة الحكم/السلطة (أو علي قوائمها ومرشحيها في الانتخابات البرلمانية)، ومن كونها في حدها الأقصي أيضا تحول فعليا بين الناس والتعبير الحر عن الرأي فيما وراء توجهات وأفعال السلطة التنفيذية التي يروج لها كالتعبير الأوحد عن الضرورة الوطنية، وينتفي من ثم الحق في معارضتها سلميا.
غير أن مقولات الضرورة، وهي ذات تاريخ مديد يصل بين خمسينيات القرن العشرين واليوم، تتجاوز في صياغاتها، وفي مجالات توظيفها تبرير الأحداث الكبري ذات المحتوي السلطوي، وإضفاء شرعية علي منظومات الحكم/السلطة. فباسم الضرورة الوطنية، أيضا، تتحالف النخب الاقتصادية، والمالية، والإدارية مع الحكم/السلطة. وهي في الكثير من الأحيان، تبتغي فقط حماية مصالحها، وامتيازاتها، وعوائدها. وباسم الضرورة الوطنية، تتنصل بعض نخب اليسار والنخب الليبرالية من الفكرة الديمقراطية، وسيادة القانون، وتداول السلطة، وضمانات الحقوق والحريات.
4- وهم “تديين السياسة وتسييس الدين”: وهو يقوم علي الزج الفاسد للدين المنزه إلي دروب الحكم والسلطة، وشئونها، وشئون المجتمع والدولة، عبر استغلال الدين، ومساحاته، ورموزه لإضفاء قداسة زائفة، إن علي منظومات الحكم/السلطة، وتوجهاتها، وأفعالها، أو علي جماعات وتيارات اليمين الديني وسردياتها، ومقولاتها، وممارساتها. ويعود ذلك في مصر إلي سياقات زمنية أبعد من منتصف خمسينيات القرن العشرين، والذي تتورط به إلي اليوم مؤسسات دينية رسمية، كما تمارسه جماعات وتيارات اليمين الديني، عبر ادعاء احتكار الحقيقة المطلقة عن شئون الحكم، والسلطة، والمجتمع، والدولة، في تناقض مع المحتوي الديمقراطي المتمثل في التنوع، والتعدد، والاختلاف، والتدافع السلمي، وحق المواطن في الاختيار الحر، والتعبير الحر عن الرأي، في إطار سيادة القانون، وتداول السلطة، وضمانات الحقوق والحريات.
ويضفي وهم تديين السياسة وتسييس الدين، وبفاعلية مجتمعية يصعب إنكارها، علي منظومات الحكم/السلطة، في لحظات الطلب الشعبي علي الديمقراطية، شرعية اعتادت المؤسسات الدينية الرسمية (الإسلامية والمسيحية) ونخبها علي صياغتها وتجديدها لتواكب تنوع الأحداث، واختلاف شخصيات الحكام، وتوجهاتهم، وأفعالهم. كما يمكًّن هذا الوهم جماعات وتيارات اليمين الديني، في لحظات الصعود المجتمعي، من ممارسة الاستعلاء علي المختلفين معهم، والاستخفاف بمقتضيات المواطنة، وضمانات حقوقهم وحرياتهم، حتي وهي تجتهد للانتساب للفكرة الديمقراطية، وتزين لها، في لحظات التراجع، الخلط الكارثي بين المقاومة السلمية للمظالم وروايات مظلومية شمولية، ومتطرفة، ومعادية للآخر، أينما كان، لتبرير التطرف، والعنف، والدماء. وفي هذه الحالات جميعا، تُحاصر الفكرة الديمقراطية، ويحاصر الباحثون عنها، والمطالبون بها.
ولذلك، فلا خلاص للفكرة الديمقراطية في مصر من صنوف الحصار المفروضة عليها دون تفكيك للأوهام الأربعة، ودون فك لشفرتها، تنجزه الحركة الديمقراطية بتحمل مسئوليتها، والإفادة من الخبرات الدولية ذات الصلة لتجاوز وضعية الوهن الراهنة.
د.عمرو حمزاوي
مجلة السياسة الدولية