منذ عام 2019، شهدت البتكوين (Bitcoin) -العملة المشفرة الأكثر شهرة وتداولا- تقلبات كبيرة كشفت الكثير من الأوجه الخفية للمعاملات المالية الرقمية، فما مستقبل هذه العملات؟
في تقرير نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” (The New York Times) الأميركية، يقول الأستاذ بجامعة كورنيل والباحث بمعهد بروكينغز، إسوار براساد، إنّ سعر البتكوين وصل إلى مستوى قياسي هذا العام، حيث ارتفع إلى أكثر من 60 ألف دولار، مسجّلا زيادة بثمانية أضعاف خلال 12 شهرًا فقط، قبل أن ينخفض إلى النصف في غضون أسابيع قليلة.
كما ارتفعت قيمة العملات المشفرة الأخرى مثل “دوجكوين” (dogecoin)، قبل أن تسجل انخفاضا أكثر حدة، متأثرة بتغريدات رجل الأعمال الأميركي إيلون ماسك. ولكن رغم الانخفاض الأخير في أسعارها، فقد تجاوزت القيمة السوقية الإجمالية لجميع العملات المشفرة 1.5 تريليون دولار.
لسائل أن يسأل، هل ستهيمن العملات المشفرة على حياتنا مستقبلا؟ وهل يجب علينا الاستثمار فيها؟ وهل تنذر التقلبات الهائلة في أسعارها -حيث فقدت ما يناهز تريليون دولار من قيمتها الإجمالية في مايو/أيار الماضي- بمشاكل في النظام المالي العالمي؟
يشير الكاتب إلى أنّ بتكوين -التي اخترعها شخص أو مجموعة أشخاص ما زالوا إلى اليوم مجهولي الهوية- تهدف لإجراء المعاملات النقدية دون تدخل طرف ثالث موثوق به، على غرار البنوك المركزية أو المؤسسات المالية الرسمية.
وقد ظهرت أهمية البتكوين في خضم الأزمة المالية العالمية عام 2008، وهو توقيت تزعزعت خلاله الثقة في البنوك والحكومات. سهّلت البتكوين المعاملات وذلك باستخدام الهويات الرقمية، ومنح المستخدمين قدرا من الخصوصية من خلال عدم الكشف عن هوياتهم. لكنّ هذا العامل مهّد الطريق لاستخدام البتكوين في الأنشطة غير المشروعة، على غرار الهجمات الإلكترونية الأخيرة بهدف ابتزاز الأموال.
ومع ازدياد شعبيتها، أصبحت عملة البتكوين مرهقة وبطيئة ومكلفة -وفقا للكاتب- إذ يستغرق التحقق من صحة معظم المعاملات باستخدام العملة المشفرة حوالي 10 دقائق، وبلغت رسوم المعاملات في المتوسط حوالي 20 دولارا خلال العام الجاري، كما أن قيمة البتكوين غير المستقرة جعلت منها وسيلة تبادل غير موثوق بها.
وحسب الكاتب، فقد أصبح من الواضح أنّ بتكوين لا تخفي هويات المستخدمين بشكل تام، فقد أدى نجاح الحكومات في تتبع واسترداد جزء من الأموال المدفوعة لمجموعة القراصنة “دارك سايد” (DarkSide)، إلى زيادة الشكوك حول مدى خصوصية معاملات البتكوين وعدم قابليتها للتتبع.
ولئن فشلت بتكوين في أهدافها المعلنة، فقد أصبحت وسيلة لاستثمار المضاربة، وهو أمر محير من وجهة نظر الكاتب، لأنها تفتقر إلى أي قيمة جوهرية أو أي دعم من الجهات الرسمية.
ويدّعي محبو بتكوين أن قيمتها تأتي من ندرتها، تماما مثل الذهب، حيث تفرض خوارزميات هذه العملة حدا أقصى لإنتاج العملة يبلغ 21 مليون وحدة رقمية (تم إنشاء ما يقرب من 19 مليونًا حتى الآن).
لكن الندرة بحد ذاتها لا يمكن أن تكون مصدرًا للقيمة، ويبدو أن مستثمري البتكوين يعتمدون على نظرية مخادعة، وهي أنّه لتحقق أرباحا من الاستثمار في هذه العملة، عليك العثور على شخص مستعدّ لشراء الأصل بسعر أعلى.
على الرغم من التقييمات النظرية، فلا يرجح الكاتب أن يؤدي انهيار سعر البتكوين والعملات المشفرة الأخرى إلى زعزعة النظام المالي العالمي، فالحقيقة أنّ البنوك بقيت في الغالب بعيدة عن الاستثمار في هذه العملات كما هي الحال مع أي فقاعة مضاربة، و”المستثمرون السذج” هم الأكثر عرضة للخسائر.
وحسب رأيه، يجب على الحكومات تحذير المستثمرين من الاندفاع وراء شراء هذه العملات، كما حدث مع أسهم شركة “غيم ستوب” مؤخرا، وتذكيرهم بتحمل مسؤولياتهم في حال انهيار قيمتها.
ويضيف الكاتب أن من أضرار البتكوين استخدام كميات هائلة من القدرات الحاسوبية لتعدينها. ووفقًا لبعض التقديرات، تستهلك شبكة بتكوين قدرًا كبيرًا من الطاقة يضاهي استهلاك الأرجنتين والنرويج، ناهيك عن جبال النفايات الإلكترونية المستخدمة في عمليات التعدين.
أما في الجانب الإيجابي، فيعتقد الكاتب أن البتكوين أثبتت قدرتها على تسخير برامج الحاسوب لتوفير وسيلة دفع آمنة على صعيد عالمي، دون الاعتماد على المؤسسات المالية الجشعة التي تفرض رسوما عالية.
وفّر ذلك على العمال المهاجرين دفع الكثير من الأموال لإرسال التحويلات إلى بلدانهم الأصلية، وساعدت التقنيات على تتبع المدفوعات بطرق أرخص وأسرع وأسهل للمستهلكين والشركات.
وفي ظل انتشار العملات المشفرة، يخطط فيسبوك لإصدار عملة خاصة به تسمى “ديم” (Diem) تهدف إلى تسهيل المدفوعات الرقمية. وستُدعم هذه العملة بالكامل -خلافا للبتكوين- باحتياطيات من الدولار الأميركي أو العملات الرئيسية الأخرى، مما يضمن أن تكون لها قيمة مستقرة. ولكن، يصعب الوثوق في فيسبوك، ويُستبعد -حسب الكاتب- أن تضحي الشركة بمصلحتها لتأمين رفاهية أكبر للجمهور.
ومن وجهة نظره، فإن احتمال قيام الشركات متعددة الجنسيات في يوم من الأيام بإصدار عملاتها المشفرة غير المدعومة في جميع أنحاء العالم أمر مقلق للغاية، لأن مثل هذه العملات لن تهدد الدولار الأميركي، لكنها قد تقضي على عملات البلدان الأصغر والأقل تقدمًا.
كما أن المتغيرات التي أحدثتها البتكوين وإتاحتها العديد من المنتجات والخدمات المالية بتكلفة منخفضة، حفّزت البنوك المركزية على إصدار نسخ رقمية من عملاتها، وتجري الصين واليابان والسويد بالفعل تجارب على العملات الرقمية.
لكن من بين المفارقات، أنه بدلاً من إضفاء الطابع الديمقراطي على المعاملات المالية، فإن بعض هذه الابتكارات قد تؤدي إلى تفاقم عدم المساواة، على حد تعبير الكاتب.
فقد يؤدي تفاوت الثقافة المالية فيما يتعلق بالعملات المشفرة إلى حصول كبار المستثمرين على العديد من الفوائد، في حين أن الأشخاص الأقل ثراء، والأكثر انبهارا بالتكنولوجيات الجديدة، قد يتعرضون إلى مخاطر كبيرة.
كما يمكن أن تؤدي الخوارزميات إلى تفاقم التحيز العنصري وغيره من التحيزات في التصنيفات الائتمانية والمزايا المالية، وقد يؤدي انتشار المدفوعات الرقمية إلى تدمير ما تبقى من خصوصية في حياتنا اليومية.
المصدر : نيويورك تايمز