أزمة لبنان متشابكة مع الجغرافيا السياسية في المنطقة

أزمة لبنان متشابكة مع الجغرافيا السياسية في المنطقة

تتصاعد أسوأ أزمة اقتصادية في لبنان منذ قرابة العامين مخلفة وراءها انهيارا ماليا، وتراجعا في القدرة الشرائية لمعظم السكان. وتتزامن الأزمة الاقتصادية مع أزمة سياسية لا تقل سوءا. ويتوقع متابعون أن تمتد هذه الأزمة إلى ما وراء الحدود بسبب تشابك حالة البلد مع الجغرافيا السياسية في المنطقة، حيث يسهم خضوع الفاعلين في المشهد اللبناني، وهي حكومة العهد برئاسة ميشال عون وحليفه حزب الله، إلى إملاءات إيران التي حولت البلاد إلى حديقة خلفية لنفوذها، في تأجيج الأوضاع داخليا وخارجيا.

بيروت – يواجه لبنان أزمة اقتصادية وسياسية ممتدة تتمثل في نقص في المحروقات، وقد جرى رفع سعرها بما يتجاوز30 في المئة، وانقطاع التيار الكهربائي، والتراجع في قيمة الليرة إلى مستويات قياسية، واحتجاجات الشارع وتعطل تشكيل الحكومة.

وقد ازدادت مؤخرا حدة الأزمة، إذ بات اللبنانيون ينتظرون في طوابير طويلة أمام محطات الوقود التي اعتمدت سياسة التقنين في توزيع البنزين والمازوت. ويتزامن ذلك مع انقطاع في عدد كبير من الأدوية وارتفاع في أسعار المواد الغذائية المستوردة بغالبيتها.

ويزيد من حدة الأوضاع الاقتصادية تأزم الوضع السياسي والفشل حتى الآن في تشكيل حكومة جديدة تخلف حكومة تصريف الأعمال الراهنة برئاسة حسان دياب، والتي استقالت في 10 أغسطس 2020، بعد 6 أيام من انفجار كارثي في مرفأ بيروت.

وبحسب الخبراء والمتابعين، فإن الأوضاع في البلاد تشكل مصدر قلق بالغ لا تقتصر تداعياته على الداخل اللبناني فحسب.

ألكسندر لانغلوا: الجماعات اللبنانية التي تتلقى دعما خارجيا ستجد نفسها على طرفي نقيض في صراع سيتسرب بالتأكيد إلى البلدان المجاورة

وكتب المحلل الفرنسي ألكسندر لانغلوا في تقرير نشرته مجلة “ناشيونال إنتريست” الأميركية، أنه “في خضم الشرق الأوسط المضطرب، وجدول الأولويات المتزاحم للمجتمع الدولي، تحول لبنان تقريبا إلى دولة فاشلة”.

ويشرح لانغلوا، المتخصص في السياسة الخارجية وخاصة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أنه ورغم ذلك، وفي حين أنه قد يكون من السهل على البعض تجاوز هذا البلد الصغير الذي يقع شرقي البحر المتوسط، في زحام القضايا الإقليمية الأوسع نطاقا، سيكون النظر إلى الوضع في لبنان كفكرة لاحقة آثار سلبية عميقة مع عوامل خارجية كبيرة.

ومن المؤكد أن حالة لبنان متشابكة بشكل معقد مع الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط، وهو أمر يجب على زعماء العالم الاعتراف به لمنع مأساة قد تمتد إلى ما وراء حدود لبنان.

ويشير حجم القضايا السياسية والاقتصادية في لبنان إلى المخاطر الكامنة في تجنب هذه القضية. ويرسم تقرير للبنك الدولي صدر مؤخرا صورة صارخة، حيث جاء فيه “من المرجّح أن تكون الأزمة المالية والاقتصادية في لبنان ضمن أقصى الأزمات العشر الأكثر حدة على مستوى العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر، وربما ضمن الأزمات الثلاث الأولى”.

وأوضح أن المقاييس الاقتصادية لا تكذب، فقد انخفض إجمالي الناتج المحلي للبنان بنحو 40 في المئة بين عامي 2018 و2020، وارتفع معدل البطالة من 28 في المئة في فبراير 2020 إلى 40 في المئة في ديسمبر 2020، ووصلت الليرة اللبنانية إلى سعر صرف حقيقي (بناء على أسعار السوق السوداء) يتجاوز 17 ألف ليرة أمام الدولار الأميركي، كما انخفضت واردات البضائع بنسبة 45 في المئة حيث أجبر التضخم مخزون العملة المتداولة على الزيادة بنسبة 197 في المئة. ونتيجة لذلك، يعيش الآن أكثر من نصف السكان تحت خط الفقر.

ويحدد التقرير، مستندا إلى مرصد الاقتصاد اللبناني لخريف 2020، الأزمة بأنها “الكساد المتعمّد”. وهذا المصطلح قابل للتطبيق، حيث لم تفعل الطبقة الحاكمة في لبنان الكثير لمعالجة القضايا الهيكلية وراء الأزمة، والتي تجسدت بأفضل صورة في الفشل في تشكيل حكومة على مدار أكثر من ثمانية أشهر. كما عملت الشخصيات السياسية في لبنان من أجل الاحتفاظ بنظام المحسوبية الذي يثريها، لأن الإصلاحات الهيكلية الجادة من شأنها أن تؤدي إلى تقويض حجم ما ينهبون من البلاد. والنتيجة: جمود سياسي مصطنع يضر فقط باللبنانيين.

وهذا السيناريو غير مستدام. ونظرا إلى درجة الاضطراب الاجتماعي الناجم عن ثورة أكتوبر 2019، والتي شكلت لحظة فارقة في الوحدة بين النسيج المتنوع للسكان، فقد أصبح من الصعب بشكل متزايد القول إن لبنان لا يتجه نحو الانهيار والصراع اللاحق. وقد ازداد الصراع الطائفي والعرقي في ظل تصلّب الأحزاب السياسية في خطوط الانقسام على طول شبكات المحسوبية. ويصح هذا بشكل خاص بين المواطنين اللبنانيين واللاجئين السوريين.

وتكمن هنا الصلة الإقليمية والقضية الأوسع نطاقا، وهي أحد العوامل الخارجية لعدم استقرار الدولة. ولا يمكن إلقاء اللوم على اللاجئين السوريين فيما يواجهه لبنان من مشاكل حاليا، حيث تقدم الحكومة اللبنانية الحد الأدنى من الخدمات في المقام الأول، فقد وفر وجودهم للنخب السياسية كبش فداء لغرس بذور عدم الاستقرار بين المجموعات العرقية.

وعلاوة على ذلك، فإن أزمة العملة في سوريا مدفوعة بأزمة العملة اللبنانية، والعكس صحيح. إن التاريخ وحده، منذ اتفاق الطائف والتدخل السوري في لبنان، يصور الطبيعة المترابطة حقا بين البلدين. وفي نهاية المطاف، فإن عدم الاستقرار داخل إحدى الدولتين يمتد إلى جارتها.

وأوضح لانغلوا أن مثل هذا الترابط يتصل بالجغرافيا السياسية الإقليمية الأوسع نطاقا، ويضيف أنه في حين تركز جهود التطبيع بين الخليج ودمشق جزئيا على خطط إعادة الإعمار المربحة، من المرجح أيضا أنها تشكل محاولة لمواجهة النفوذ الإيراني في سوريا ولبنان. ويشمل ذلك المملكة العربية السعودية، التي يشير انخراطها الدبلوماسي مؤخرا مع المسؤولين السوريين إلى أن الرياض تنظر إلى حكومة بشار الأسد على أنها ضرورية لمواجهة طهران، وأنها باب خلفي للنفوذ في لبنان.

وفي موازاة ذلك، تواصل إيران لعب دور رئيسي في دعم الجماعات المسلحة في لبنان وسوريا، مثل حزب الله. وبدلا من العضلات الاقتصادية المرنة، تعتمد إيران وحلفاؤها على الأيديولوجيا والقوة. ويشكل ذلك محاولة طويلة الأمد للحفاظ على ممر نفوذ من إيران إلى البحر المتوسط، وهي استراتيجية تحقق نتائج بغض النظر عن القيود المحلية الناجمة عن المصاعب الاقتصادية.

وفي تقدير لانغلوا فإن انهيار لبنان قد يؤدي إلى سلسلة من ردود الفعل للأحداث التي تزيد من زعزعة استقرار المنطقة. وكما هو الحال في سوريا، ستجد الجماعات اللبنانية التي تتلقى دعما خارجيا، نفسها على طرفي نقيض في صراع سيتسرب بالتأكيد إلى البلدان المجاورة. ويمكن أن يؤدي تجزؤ الدولة إلى كسر التحالفات المحلية القائمة على التقدم الشخصي داخلها، والتي يمكن أن تزول أسسها إذا انهارت تلك الدولة. وبالأساس، يمكن أن يتراجع النهج القديم المتمثل في إلقاء اللوم في العنف على الأطراف المتعارضة.

وخلص لانغلوا إلى أنه سيكون لهذا الأمر أثر سلبي عميق على المجتمع اللبناني، وجهود تحقيق الاستقرار الإقليمي، مثل الحوار الأخير بين السعودية وإيران.

وعلاوة على ذلك، فإن النزوح الجماعي المحتمل للملايين قد تكون له آثار دولية كبيرة على عالم رفض بالفعل التدفق الهائل للنازحين السوريين على مدى السنوات العشر الماضية. وبعبارات بسيطة، لا يمكن للمنطقة أو العالم تحمل الصدمة المشتركة لانهيار الدولة في كل من سوريا ولبنان، ولا التأثير اللاحق على الجهود الرامية إلى استقرار الأوضاع في الشرق الأوسط، كما لا يريد زعماء العالم مواجهة مثل هذا السيناريو.

العرب