مع اقتراب نهاية الأزمة الصحية، من المنتظر أن تنتعش الاقتصادات في ظل ارتفاع مستويات الطلب والاستهلاك، لكن مع بلوغ الأسعار ذروتها، يحتدم الجدل حول ما إذا كانت هذه الظاهرة مؤقتة أم أنها ستستمر لفترة.
في تقرير نشرته صحيفة “لوموند” (lemonde) الفرنسية، تقول الكاتبة أوريلي إن الأسعار بالولايات المتحدة ارتفعت في مايو/أيار بنسبة 5% على أساس سنوي، لكن الانتعاشة التي حققها الاقتصاد بعد الوباء أدت إلى ارتفاع معدل التضخم بعد سنوات طويلة تميزت بانخفاض الأسعار.
وحسب الكاتبة، هناك عاملان أساسيان يفسران هذا الأمر، أولا هناك الكثير من الأموال المتداولة، ويوضح المحلل الإستراتيجي في شركة “بيكتيه ويلث مانغمنت” (Pictet Wealth Management) وفريدريك دوكروزيه، أنه “عام 2020، واجهنا أكبر أزمة اقتصادية عالمية بعد الحرب، ولكننا شهدنا أيضا رد الفعل النقدي الأكثر طموحا، ولقد كان رد فعل البنوك المركزية سريعا وقويا وفعالا”.
وقد قام الاحتياطي الفدرالي الأميركي بضخ سيولة في الأسواق بعد 3 أسابيع فقط من بداية الأزمة الصحية، بين منتصف مارس/آذار وأوائل أبريل/نيسان 2020، وكانت أكثر مما قام بضخه عام 2009 بأكمله، بعد أزمة الرهن العقاري. يضاف إلى ذلك حوافز مالية غير مسبوقة بالولايات المتحدة وأوروبا، وخطط كبيرة للإنعاش، ويقول دوكروزيه في هذا الشأن “كل هذا من شأنه أن يمثل دفعة هائلة للاقتصاد”.
ثانيا، ومع التقدم السريع لحملة التطعيم بالولايات المتحدة، بدأ الاقتصاد يتعافى بسرعة وقوة، ويتزايد طلب المستهلكين، وتكافح الشركات لإنتاج كميات كافية لتلبية احتياجات السوق، مما ولد اختناقا اقتصاديا خاصة أن المخزونات كانت عند أدنى مستوياتها بعد أشهر من الإغلاق.
نتيجة لذلك، حققت طلبات المواد الخام والسلع الوسيطة قفزة نوعية، مما أدى إلى ارتفاع الأسعار، ويؤكد دوكروزيه أن هذه الظاهرة يمكن أن تستمر بضعة أشهر، لأن الشركات ستزيد مؤقتا إنتاجها ومخزونها بما يتجاوز احتياجاتها الحقيقية، مما سيحافظ على مستوى التضخم.
معيار جديد
تقول الكاتبة إنه تم تضخيم هذه الظاهرة من خلال ما يُسمى “تأثير القاعدة” الذي يدفع الأسعار إلى الأعلى.
ويعلق ستيفان مونييه رئيس الاستثمارات في بنك “لومبارد أودييه” (Lombard Odier) قائلا “هذا هو الحال بشكل خاص بالنسبة للنفط، الذي انخفض سعره إلى 30 دولارا للبرميل عام 2020 وانتعش إلى 70 دولارا اليوم. يجب أن يحقق استقرارا الآن”.
في الوقت الراهن، ينقسم الخبراء حول ما إذا كان التضخم الحالي مؤقتا أم دائما، ويرجح البعض -وهو توجه تغذيه بيانات الاحتياطي الفدرالي- أن يكون الأمر ظرفيا، مع توقعات بانكماش تدريجي مع حلول سبتمبر/أيلول، ثم العودة إلى مستويات قياسية بحلول عام 2022. في المقابل، تتوقع بعض الأطراف الفاعلة، مثل “أموندي” (Amundi) و”بلاك روك” (BlackRock) و”أوستروم” (Ostrum) أن يستمر التضخم لفترة طويلة.
ويقول مديرا الاستثمار في أموندي، باسكال بلانكي وفانسون مورتييه، في بيان، إن الاقتصاد قد يواجه في النهاية تضخما هيكليا حادا.
ويوضح الخبيران أن تفويضات البنوك المركزية تتحول من السيطرة على التضخم إلى حالة أصبحت فيها السياسة النقدية الاستثنائية هي الوضع الطبيعي الجديد. بالإضافة إلى ذلك، التعايش بين السياسة النقدية ونتائج “كوفيد-19” يخلف أرضا خصبة للتضخم.
يشار إلى أن التضخم الحالي يتغذى بشكل أساسي على بعض بنود الإنفاق الأساسية، أولا. وقد بلغ مؤشر التضخم الأميركي في مايو/أيار نحو 3.8% فقط، بعد إزالة أسعار المواد الأكثر تقلبا، مثل الطاقة والغذاء (التضخم الأساسي).
ويرى جيل مويك كبير الخبراء الاقتصاديين بمجموعة “أكسا” (Axa) أن 4 قطاعات، وهي السيارات المستعملة والمؤجرة والتأمين على السيارات والنقل الجوي، التي تقل قيمتها مجتمعة بالمؤشر عن 6%، تفسر أكثر من نصف تسارع التغيير على أساس سنوي.
ويعود مونييه بالقول إن أهمية الرقم الكلي ليست بقدر أهمية الأرقام الفرعية، طالما أن الارتفاع يرجع فقط للارتفاع الشديد بأسعار تذاكر الطيران وليالي الفنادق، فلا داعي للقلق.
مستويات التضخم بأوروبا
تؤكد نادين تريموليير مديرة “بريمونيال” (Primonial) للاستشارات المالية أنه “علينا أن ننظر إلى آثار الجولة الثانية، أي زيادة تكاليف العمالة، والتي ستولد تضخما أكثر استدامة”.
لكن حتى الآن، لم تتم استعادة ثلث الوظائف التي فُقدت بسبب الجائحة، ويوضح دوكروزيه أن معدل البطالة انخفض بالولايات المتحدة، لكن الكثير من الناس تركوا سوق العمل، مما قد يحد من زيادات الأجور مستقبلا.
وفيما يتعلق بالانتعاش الاقتصادي، مازالت المؤشرات غير واعدة في أوروبا بسبب تعثر حملات التطعيم، ويقول مويك بهذا السياق “في الولايات المتحدة، عاد الناتج المحلي الإجمالي تقريبا إلى مستواه الذي كان عليه قبل الأزمة. لكن، ليس هذا هو حال أوروبا”. مما يعني أنه من المنتظر أن تكون مخاطر التضخم أقل.
في فرنسا، ارتفع مؤشر الأسعار بنسبة 1.4% على أساس سنوي في أبريل/ نيسان، ويؤكد مونييه أن المتوسط خلال الفترة بين سنتي 2013-2021 كان أقل من 1%، وهو أقل بكثير من سقف 2% الذي حدده البنك المركزي الأوروبي.
ويتوقع بنك “لومبارد أودييه” بلوغ ذروة 2% بفرنسا في أكتوبر/تشرين الأول، قبل أن ينخفض التضخم إلى حوالي 1.3% عام 2022.
في المقابل، يظل الإطار الذي سيتم خلاله استخدام المليارات التي تم توفيرها خلال الأزمة بأوروبا والولايات المتحدة مجهولا، حسب الكاتب. ويقول مويك بهذا الإطار في معظم الحالات، لم يتم استثمار هذه الأموال بالسندات المجمدة ويمكن تعبئتها بسهولة. وإذا تم إنفاقها بشكل جيد، فقد يساعد ذلك في تغذية ارتفاع الأسعار الذي يمكن أن تكون له آثار مدمرة على اقتصاداتنا.
المصدر : لوموند