لطالما تمّ التعريف بمحافظة كركوك العراقية كمُرتكز للتوترات السياسية والعرقية، مع إمكانِه إنجاح جهود المصالحة الوطنية بين الأكراد والعرب والتركمان أو إفشالها. ومع مرور كلّ أسبوع، ترتفع مكانة كركوك على جدول أعمال السياسيين العراقيين، وأصبحت المحافظة نقطة محورية للتسييس العربي -الكردي وبين الأكراد أنفسهم على حد سواء.
وتشكّل كركوك حالياً نقطة مركزية لخمس مجموعات من الصراعات المتشابكة. ويتمثّل الصراع الأول بالقتال ضدّ التنظيم الذي أطلق على نفسه اسم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش»)/«الدولة الإسلامية». ويتباطأ هذا الصراع في وسط العراق وبقي ثابتاً إلى حد كبير على طول الجبهة الكردية مع التنظيم منذ عدة أشهر. وحالياً يحتاج التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة إلى إقامة جبهة شمالية جديدة ضد تنظيم «الدولة الإسلامية»، تجْمَع بين القوات شبه العسكرية العربية السنية بدعم كردي ودولي. وتشكّل كركوك نقطة انطلاق العمليات ضدّ معقل تنظيم «داعش» المجاور في الحويجة.
مناظرات إدارية
يشكل الجدال بين الحكومة الاتحادية في بغداد و«حكومة إقليم كردستان» بشأن مبيعات النفط، الصراع الثاني الذي يبلغ نقطة التأزّم في كركوك. وحالياً، تستفيد «حكومة إقليم كردستان» من حوالى 180 إلى 240 ألف برميل يومياً من النفط المستخرج من حقول في كركوك كانت تديرها “شركة نفط الشمال” الاتحادية حتى حزيران/يونيو 2014.
وهذه الكميات جوهريةٌ للجهود الجديدة التي يبذلها «إقليم كردستان» لتحقيق الاستقلال الاقتصادي عن بغداد. وفي الوقت نفسه، ما زالت “شركة نفط الشمال” الاتحادية تشغّل حقولاً أخرى في كركوك تُرسل حوالي 170 ألف برميل من النفط إلى تركيا يومياً لتصدّرها الحكومة الاتحادية عبر خط أنابيب «حكومة إقليم كردستان». وقد يكون التصدير التعاوني لهذه الكميات التي تديرها “شركة نفط الشمال” جزءاً هاماً من ميزانية العراق لعام 2016، في الوقت الذي تعاني فيه البلاد من ضائقة مالية.
وتمثّل كركوك أيضاً قمرة قيادة المناقشات الإدارية بشأن اللامركزية بين الحكومة الاتحادية ومحافظة كركوك برئاسة المحافظ النشط نجم الدين كريم. وقد تكون حكومة كركوك المحلية الأكثر حزماً في العراق، حيث يسعى كريم إلى الحدّ من إشراك كل من الوكالات الاتحادية وتلك التابعة لـ «حكومة إقليم كردستان» في الشؤون المحلية للمحافظة وتحقيق التوازن بينها.
وفي الأشهر الأخيرة، قاوم كريم ومجلس المحافظة تعيين بغداد عميداً جديداً لجامعة كركوك ورئيساً جديداً لـ “شركة نفط الشمال”، في حين تحاول بغداد منع المحافظ من إخراج مدير استخبارات كركوك من تحت جناح وزارة الداخلية الاتحادية.
نزاع مع بغداد
تشكّل اللامركزية المالية في كركوك نقطة خلاف أخرى بين بغداد والمحافظة. وتدين بغداد لكركوك بأكثر من 1.37 مليار دولار خلال عامي 2014 و 2015 على شكل صناديق تنمية إقليمية وإتاوات “الدولارات البترولية” تخصصها الحكومة الاتحادية العراقية في الميزانية للمحافظات المنتجة للنفط. ولم تتلقّ المحافظة من هذا المبلغ سوى 197 مليون دولار في العامين الماضيين. وفي النصف الأول من عام 2015، لم تحصل إلا على 12 مليون دولار لدعم المشاريع في المحافظة التي تضمّ 1.5 مليون نسمة وحوالى 600 ألف نازح [أو مهجّر/مشرّد].
بيد، لم تهرع «حكومة إقليم كردستان» للمساعدة: فهذه الأخيرة لم تدفع “الدولارات البترولية” لكركوك مقابل أيّ من نفط المحافظة الذي قامت بتصديره، سواء بموافقة كركوك أو بدونها. كما تعثّرت إمدادات الوقود والكهرباء من قبل بغداد و«حكومة إقليم كردستان» إلى محافظة كركوك، التي غالباً ما يتمّ التغاضي عنها عند قيام التوترات بين الحكومة الاتحادية و«حكومة إقليم كردستان».
قد يمثّل موضوع استقلال «إقليم كردستان» المثير للجدل صراعاً خامساً وأخيراً ستلعب فيه كركوك دوراً جوهرياً. وفي خضم أزمة المنطقة الكردية بسبب الصلاحيات الرئاسية، تختلف الأحزاب الكردية الرئيسية حول الدور الذي قد تلعبه كركوك في التصويت والاستفتاءات في المستقبل. والأسئلة التي تطرح نفسها هنا هي: هل يجب أن يصوّت الأكراد من محافظة كركوك في الانتخابات الرئاسية الخاصة بـ «حكومة إقليم كردستان»، الأمر الذي يمكن أن يعود بالفائدة على «الاتحاد الوطني الكردستاني»؟ متى ينبغي أن تُسأل كركوك عما إذا كانت تريد الانضمام إلى «حكومة إقليم كردستان» – الأمر الذي يرجِّح مرةً أخرى كفة «الاتحاد الوطني الكردستاني» بمعزل عن «الحزب الديمقراطي الكردستاني»؟ أم أن نتيجة الاستفتاء الضيقة النطاق القاضية بالانضمام إلى «حكومة إقليم كردستان» ستؤدي إلى تأجيج التوترات العرقية في كركوك لعقود مقبلة؟
إن الاتجاه الرئيسي الذي يتّضح هنا هو أنّ الجهات خارج كركوك تستخدم المحافظة لمصالحها الخاصة، إلّا أنّ أهالي كركوك هم أكثر من يشعر بوقع النتائج المدمّرة. فعلى سبيل المثال، تسبّب غياب الأموال بتعليق أكثر من 5700 فرصة عمل جديدة مستحدثة من قبل مكتب المحافظ وتشتد الحاجة إليها بسبب عدم توفّر الرواتب.
ويتمّ حرمان برنامج يعمل على خلق فرص عمل محلية، ويُعدّ من النجاحات المميّزة للمحافظة، إلى حدّ يكاد يقضي عليه لأنّ بغداد تحتجز زيادات مالية صغيرة تبلغ حوالى المليونيْ دولار شهرياً دون سبب واضح. ولا تصل هذه الأموال حتى عندما يأمر رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي شخصياً بإرسالها.
والحقيقة هي أنه باستطاعة أيّ من الطرفَيْن – بغداد أو «حكومة إقليم كردستان» – تأمين امتنان كركوك وولائها في الوقت الحاضر لو كانا مستعدان لاتخاذ قرار والالتزام بما لا يزيد عن 100 مليون دولار كتمويل مؤقت. وبينما تشير الدلائل إلى أنّ كلّاً من بغداد و«حكومة إقليم كردستان» منهوكة سياسياً واقتصادياً، تبقى إحدى أكثر محافظات العراق استراتيجية لقمةً سائغة، ولا تستطيع أيّ منهما تعبئة قادتها أو مواردها للتواصل مع كركوك ومساعدتها.
مايكل نايتس
معهد واشنطن