بعد أكثر من أربع سنوات على الصراع العنيف في سوريا، جاء التدخل العسكري الروسي المباشر، في لحظة تاريخية من عمر هذا الصراع تميزت بانشغال القوى العالمية المؤثرة بمشاغل متعددة بعضها على صلة وثيقة بموجة اللجوء الكثيفة إلى أوروبا، وبعضها ليس بعيدا كانشغال الحكومة التركية بالقتال مع حزب العمال الكردستاني وبالانتخابات المبكرة ذات الحساسية الخاصة، وبعضها يرتبط بالصراع في اليمن.
لم يُخف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين دعمه لبقاء بشار الأسد رئيسا لسوريا، كما لم يتوقف الروس عن دعم نظام الأسد سياسيا وعسكريا. فمنذ بدء الانتفاضة السورية تتبنى الحكومة الروسية نظرية النظام. وتمارس كل ما من شأنه أن يدعمه عالميا على المستوى الدبلوماسي بما في ذلك استخدام حق النقض تكرارا لمنع قرارات تدينه في مجلس الأمن الدولي. في هذا الإطار جاء التفسير الروسي لبيان جنيف المتعلق بإنهاء الصراع في سوريا، حيث اعتبر أن مرحلة الانتقالية لانتقال السلطة لا تفرض رحيل الأسد، بل تتطلب استمراره على رأسها وأن الشعب السوري هو من يقرر مصيره بناء على عملية انتخابية.
وبناء على هذا التفسير اشتغلت الحكومة الروسية على اختراق قوى المعارضة السورية من خلال دعوتها إلى لقاءات ومحادثات في موسكو على جولتين مع ممثلين عن النظام، لم تفض إلى شيء ملموس.في المقابل، لم تمارس الدول الغربية ما من شأنه دعم مواقفها المعلنة حيال بيان جنيف1، وكل ما قدمته لا يتجاوز تصريحات مبهمة تقول إن لا دور لبشار الأسد في مستقبل سوريا.
أما بخصوص تنظيم الدولة الإسلامية فلم تكف سنة كاملة مرت على تشكيل التحالف الدولي للحرب على داعش والآلاف من الغارات الجوية التي يشنها هذا التحالف في سوريا والعراق، للحدّ من سيطرة هذا التنظيم وتوسعه. وجاءت موجة اللجوء الكبيرة التي اجتاحت البلدان الأوروبية، رغم المخاطر وتكرار مشاهد الغرق الجماعي وكثرة الضحايا، لتشكل أزمة حقيقية لتلك الدول، ما أربك سياساتها حيال الصراع في سوريا.
وفي ظل هذه الأجواء جاء التدخل العسكري الروسي واحتمالات توسعه ليضيف إلى المشهدين السوري والدولي واقعا جديدا تعددت بشأنه التأويلات وكثرت التحليلات، ولكن المراقب يستطيع القول إن معاناة الشعب السوري، ستشهد فصلا مأساويا جديدا قد يستمر لسنوات قادمة.
لقد ترافق التدخل العسكري الروسي في سوريا مع حملة دبلوماسية روسية واسعة تحت عنوان دعم بقاء نظام بشار الأسد وتأمين الدعم اللازم لقواته كشرط ضروري لمحاربة الإرهاب الذي يقوده داعش. هذا التدخل وتلك الحملة أثمرا نتائج فورية في السياسات المعلنة لكثير من الدول وعلى رأسها الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وتركيا. وقد أجمعت هذه الدول على القبول ببقاء بشار الأسد في السلطة خلال المرحلة الانتقالية التي دعى إليها بيان جنيف1، أي تبني التفسير الروسي لهذا البيان.
وبعيدا عن الأسباب التي دفعت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى زج جزء من قواته في سوريا وبغض النظر عن حجم هذا التدخل واحتمالات توسعه، فإن هذا التدخل سمح بإظهار بعض الحقائق وبتعرية جملة مواقف من الثورة السورية ومن قضية الشعب السوري التي تفاقمت إلى حدودها القصوى وطنيا وإنسانيا.
فمن ناحية، يؤكد اضطرار روسيا إلى التدخل عسكريا إلى جانب النظام أن كل الدعم الذي قدّمته إيران وحزب الله والميليشيات، التي استجلبت لدعمه لم يعد كافيا لحمايته من السقوط، وأنه بات عاجزا عن الاحتفاظ حتى بالمناطق التي يسيطر عليها. أما الترحيب الإيراني وترحيب حزب الله بهذا التدخل، فيبقى ملتبسا يحمل في طياته معنيين متناقضين، الأول ناتج عن تراجع قدرتهما على حماية النظام، والثاني يضمر ارتباكا حيال إمكانية تنازع المصالح بين الروس والإيرانيين في سوريا.
من ناحية أخرى يمكن للمراقب أن يتساءل عن مصير مجموعة “أصدقاء الشعب السوري”، المصطلح الذي غاب عن المشهد دون أن ينعاه أحد. هؤلاء “الأصدقاء” الذين راهنت عليهم قوى المعارضة ردحا من الزمن وأوهمت الشعب السوري أنهم سيساعدونه في تحقيق أهداف ثورته بدءا بإسقاط النظام الذي ما انفك يمارس السحق بحقه، وصولا إلى تشريد قرابة نصف هذا الشعب، ليعلنوا قبولهم اليوم ببقاء الأسد رئيسا لسوريا خلال مرحلة انتقالية غير واضحة المعالم.
أما المعارضة السورية التي أسقط في يدها، والتي وعدت نفسها على مدى أكثر من أربع سنوات بتدخل غربي أو بدعم لفصائل المعارضة كاف لإسقاط النظام، أو بدور تركي واسع أو حتى بعاصفة حزم عربية في سوريا، فقد تبعثرت مواقفها المرتبكة لدرجة باتت تنتظر من رعاتها الخارجيين أن يساعدوها في اتخاذ موقف.
ممّا لا شك فيه أن التدخل الروسي سيطيل أمد الصراع في سوريا ولكن حدود هذا التدخل لن تكون أوسع من حدود ترسيم المصالح الروسية. وبهذا المعنى فإنه لن يتوسع لدرجة أن يتيح للنظام استعادة السيطرة على المناطق التي خسرها بما في ذلك التي وقعت في قبضة داعش. لكنه قد يرسخ حالة استاتيكو معينة يراد لها أن تفرض في نهاية المطاف تسوية تتيح لروسيا المكاسب التي تتوخاها في المنطقة.
عيد نصار
صحيفة العرب اللندنية