اختارت الولايات المتّحدة الأميركية الزمان والمكان المناسبين لتوجيه تحذير شديد اللهجة للميليشيات الولائية في العراق وسوريا ومن يقف خلفها ويوفّر لها الغطاء ويستخدمها في تنفيذ أجندته وخوض صراعاته بالوكالة، وذلك من خلال قصفها موقعا لإحدى الميليشيات أسفر عن خسائر بشرية ومادية وصفت بالمعتبرة. وجاء القصف على منطقة حدودية بين سوريا والعراق حيث توظّف إيران الميليشيات الشيعية في عملية ربط أراضي الدولتين وفتح طريق يصل طهران بضفة البحر المتوسّط في سوريا ولبنان، وهو خطّ أحمر بالنسبة للولايات المتحدّة وحليفتها إسرائيل.
وجاءت الضربات في مرحلة حساسة إذ تتهم واشنطن فصائل عراقية مرتبطة بإيران بشن هجمات على منشآت عراقية تأوي عناصر أميركيين في وقت تتواصل فيه الجهود الدولية لإعادة تفعيل الاتفاق النووي مع طهران. من جانبها، لوّحت ما تسمى بالمليشيات الولائية الشيعية، يوم الإثنين الفائت، بـ”الثأر” من القوات الأمريكية الموجودة في العراق، حيث هدد الأمين العام لكتائب “سيد الشهداء” أبو آلاء الولائي، بأن “تنسيقية المقاومة أخذت على عاتقها الرد على الانتهاكات الأمريكية”، وأن “عملية الرد ستكون قاسية”، وتوعدت كتائب “حزب الله”، الولايات المتحدة بالانتقام، معلنة أن “قرار الثأر تم اتخاذه”.
وأعلن المتحدث باسم البنتاغون جون كيربي في بيان أنه “بتوجيه من الرئيس (الأمريكي جو بايدن)، شنت القوات العسكرية الأمريكية غارات جوية دفاعية دقيقة ضد منشآت تستخدمها ميليشيات مدعومة من إيران في منطقة الحدود العراقية السورية”، مشيراً إلى أن بايدن أعطى توجيهاته “بمزيد من العمل العسكري لتعطيل وردع” الهجمات المستمرة التي تشنها جماعات مدعومة من إيران وتستهدف المصالح الأمريكية في العراق.
وقال وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن خلال زيارة إلى روما بعد ظهر يوم الإثنين الفائت “تبعث خطوة الدفاع عن النفس هذه للقيام بما يلزم لمنع أي هجمات أخرى برسالة مهمة وقوية” إلى الفصائل المستهدفة. وندد رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي الإثنين بالضربات التي اعتبرها “انتهاكاً سافراً لسيادة العراق”. وقال في بيان ما نصه: “يجدد العراق رفضه أن يكون ساحة لتصفية الحسابات ويتمسك بحقه في السيادة على أراضيه ومنع استخدامها كساحة لردود الفعل والاعتداءات”، داعياً إلى “التهدئة وتجنب التصعيد بكل أشكاله”. وقال المتحدث باسم الخارجية الإيراني سعيد خطيب زاده إن “ما تقوم به الولايات المتحدة يزعزع أمن المنطقة”، معتبراً أن “أحد ضحايا زعزعة الاستقرار في المنطقة ستكون الولايات المتحدة نفسها”.
وتتمتع المليشيات الولائية، بنفوذ عسكري في المنطقة الحدودية بين سوريا والعراق وتنتشر على الضفة الغربية لنهر الفرات في محافظة دير الزور الحدودية. وغالباً ما تتعرّض شاحنات تقل أسلحة وذخائر أو مستودعات في المنطقة لضربات تُنسب لإسرائيل. والسؤال الذي يطرح في هذا السياق: ما هي دوافع الضربات الأمريكية على المليشيات الولائية من المنظور الأمريكي؟
تعتقد واشنطن أن المزيد من الضربات على مواقع المليشيات الولائية تكفي لردعها عن تهديد المصالح الأمريكية في العراق، وإضعاف تلك المليشيات لدعم جهود رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي في استعادة قرار مؤسسات الدولة وفرض القانون. وفي وقت تسعى فيه بعض مراكز القرار الأمريكي إلى تعزيز قدرات القوات الأمنية العراقية لإضعاف المليشيات الولائية، وبالتالي إضعاف النفوذ الإيراني، ثمة اتجاه أمريكي آخر يفضل التملص من التزامات اتفاقية الإطار الاستراتيجي الموقعة عام 2008 بين واشنطن وبغداد، وإلغاء ترخيص استخدام القوة العسكرية الذي سمح للرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش (الابن) بغزو العراق “لإقامة نموذج ديمقراطي بديل عن نظام صدام حسين”.
أثبتت الضربة الأخيرة، أن استراتيجيات إدارة بايدن لا تختلف كثيرا عن استراتيجيات سلفه دونالد ترامب في التعامل مع التهديدات التي تتعرض لها أرواح ومصالح الأمريكيين في العراق وسوريا. ويُعتقد أن الضربات الجوية الأخيرة جاءت ردا على تعرض مركز الدعم الدبلوماسي الأمريكي الذي من مهامه تأمين الدعم العسكري والأمني واللوجستي للدبلوماسيين الأميركيين بالعراق لهجوم بطائرة مسيرة في 9 يونيو المنصرم، ألحق أضرارا بمبان ملحقة بالمركز وإصابات بين منتسبيه. و
في سعيها للموازنة بين الحفاظ على أرواح الأمريكيين في العراق وردع تهديدات المجموعات المسلحة، ولتجنب التصعيد مع تلك المليشيات، استهدفتها إدارة بايدن في سوريا أو على الحدود العراقية السورية بعيدا عن مراكز تواجدها في بغداد أو في محافظات أخرى تشكل منطلقا للهجمات على القواعد والمصالح الأمريكية أو أرتال الدعم اللوجستي. تعطي الضربات الأمريكية على الحدود العراقية وفي الداخل السوري المزيد من اليقين برغبة الولايات المتحدة في الاتجاه نحو تخفيف حدة التوترات التي يمتنع الطرفان عن التصعيد والذهاب إلى مواجهات مفتوحة، حيث يدرك كلاهما أنه ليس من مصلحتهما الذهاب أبعد من هذه الهجمات المحكومة بسقف محدد.
ولا تنوي الولايات المتحدة الدخول في مواجهات مفتوحة مع المجموعات المسلحة الحليفة لإيران، أو توسيع نشاطاتها العسكرية في العراق أبعد من مهمتها بمساعدة القوات الأمنية العراقية في الحرب على تنظيم “داعش” الإرهابي. لذلك ستقتصر ردود الفعل الأمريكية على توجيه ضربات جوية “محدودة جدا” تستهدف المليشيات الولائية بعد هجمات تتسبب بفقدان أرواح جنود أو متعاقدين أمريكيين في العراق. خلاصة القول، إن استهداف الجيش الأميركي للميليشيات الولائية العاملة لحساب إيران في سوريا والعراق يحمل رسالة بأن الولايات المتّحدة في عهد الرئيس جو بايدن لم تتخلّ عن حزمها تجاه تلك المليشيات ولم تتراجع عن هدفها المرسوم منذ سنوات والمتمثّل في منع طهران من استخدام تلك الفصائل في ربط الأراضي السورية والعراقية وإنشاء ممر عبرها للأسلحة والمقاتلين يمتد إلى ضفة البحر المتوسّط.
وحدة الدراسات العراقية