أثار الاتفاقُ النووي بين إيران والقوى الكبرى في منتصف شهر يوليو الماضي نقاشًا ليس حول ما تضمنه من بنود بشأن عدم الانتشار النووي فحسب، بل أيضًا حول إلى أي مدى قد تمتد الاتصالات الأمريكية-الإيرانية فيما يخص القضايا الأخرى المشتركة، واحتمالات التعاون بين البلدين بعد الاتفاق النووي في القضايا الإقليمية التي تشغلهما. وقد أجرى زكاري لاوب، الكاتب والمحرر بالموقع الإلكتروني لمجلس العلاقات الخارجية، حوارًا مع جيمس دوبينز، زميل أول بمؤسسة “راند”.
في حواره، رأى دوبينز أنه ليس مرجحًا بعدُ حدوث مثل هذه التحولات الكبيرة؛ حيث إن الحكومتَيْن في واشنطن وطهران تُعِدَّان شعبَيْهِمَا وحلفاءهما لتنفيذ الاتفاقية النووية. وأوضح أن الولايات المتحدة وإيران قد تدخلان في شراكة في أفغانستان التي تشهد بالفعل “تعاونًا ضمنيًّا” بينهما، مستدركًا بقوله: “لكن التعاون في العراق سيكون مليئًا بالتحديات؛ بل والمضيّ نحو تسوية للحرب الأهلية السورية سينطوي على قدر أكبر من هذه التحديات.
وإليكم نص الحوار:
هل حدث أي اتصال دبلوماسي بين الولايات المتحدة وإيران فيما يتجاوز الملف النووي منذ أن أبرمت القوى الكبرى وإيران الاتفاقية النووية؟
في يقيني أن كلا الجانبَيْن ينفق معظم رأس ماله السياسي على طمأنة جماهيره، المحلي منها والأجنبي كذلك. فالولايات المتحدة تعكف على مناقشة زيادة إمدادات الأسلحة وغيرها من التطمينات مع إسرائيل وعدد من الدول الخليجية. والمرء يفترض أن الإيرانيين يعكفون بالمثل على الاعتناء بعلاقاتهم مع “حزب الله” وغيره، ويُوجهون اهتمامهم أيضًا إلى جماهيرهم المحلية لطمأنتهم إلى أن الاتفاقية لا تعني حدوث تغييرات في جوانب سياساتهم الأخرى. ولن أتوقع أن أرى الكثير من قبيل توسيع الاتصالات بين الاثنين خلال هذه الفترة، وهي الفترة التي تخضع فيها الاتفاقية للتمحيص على الصعيد المحلي، خصوصًا في الولايات المتحدة، وأيضًا بدرجةٍ ما في إيران.
ومع ذلك فقد رأينا شيئًا قليلا من الحراك الدبلوماسي بشأن سوريا، وذلك فيما يخص كلا من إيران وروسيا اللتين ظلتا تصدران بعض التلميحات إلى تجديد عملية دبلوماسية تهدف إلى الحد من العنف، وفي نهاية المطاف إنهاء الحرب الأهلية.
لا أريد أن أبالغ في افتراضاتي فيما يخص هذه النقطة. فالحرب الأهلية السورية صارت شديدة التعقيد، ومتعددة الجوانب، إلى درجة أنها ستحتاج جهودًا منسقة على مدى فترة زمنية مطولة تبذلها بلدان كثيرة، من ضمنها تركيا والمملكة العربية السعودية فضلا عن روسيا وسوريا. لكن الشيء الإيجابي هو أن هناك اهتمامًا من جانب هذَيْن المؤيدَيْن لنظام الأسد بإعادة بدء نوعٍ ما من العملية الدبلوماسية.
من المشجع أيضًا أن الدول الخليجية أيّدت هذه الاتفاقية، وتنظر في الكيفية التي تستفيد بها من الوضع الجديد. فقد رأينا زيادة ضئيلة في النشاط الدبلوماسي بين إيران والمملكة العربية السعودية وبين إيران وعدد من دول المنطقة التي ربما تنظر إلى الاتفاقية كبداية جديدة للعلاقات.
اتخذت بعض الدول الخليجية، وأبرزها المملكة العربية السعودية، موقفًا أشد عدوانية في الأشهر الأخيرة. فهل من الممكن أن تؤدي الاتفاقية النووية إلى تقليل حدة التوترات الإقليمية؟
هناك دائمًا تلك الإمكانية، لكني أجد نفسي مترددًا في التنبؤ بها. لكن مع انحسار برنامج إيران النووي كمصدر للقلق، بصرف النظر عن احتمال كونه شاغلا على المدى البعيد؛ ستكون هناك إمكانية الالتفات إلى القضايا الأخرى.
هذا يعني يقينًا أن رأس المال البيروقراطي والسياسي الذي اضطرت كل من القيادة الإيرانية والأمريكية إلى استثماره في المفاوضات سيكون الآن متاحًا للقيام بأشياء أخرى. ومن المحتمل أن يتسنى توجيه بعض رأس المال هذا على الأقل إلى قضايا أخرى ربما يوجد فيها تقاطع للمصالح.
لقد أتيت على ذكر سوريا، حيث تُعتبر إيران من كبار الداعمين لنظام الرئيس بشار الأسد. لم يتم توجيه الدعوة إلى إيران للمشاركة في مبادرة سابقة للأمم المتحدة بهدف إيجاد تسوية سياسية للحرب الأهلية في عام 2014. فهل ترى أن إبرام الاتفاقية النووية يفتح الطريق أمام تضمين إيران في عملية متعددة الأطراف معنية بسوريا؟
هناك عاملان أدَّيا إلى عدم توجيه الدعوة لإيران، ولا تتصدى الاتفاقية إلا لعامل واحد منهما. فقد اعترضت المعارضة السورية على مشاركة إيران، وهددت بعدم المجيء إذا وُجِّهت الدعوة إلى الإيرانيين. والاتفاقية لا تحل هذه المشكلة. أما المشكلة الأخرى فكانت تتمثل في النفور من جانب إدارة أوباما من البدء في التعامل مع إيران كشريك تفاوضي أقرب إلى الطبيعي، فيما كان مصير الاتفاقية النووية غير مضمون. أما الآن فمن المنطقي أن ترى الولايات المتحدة ميزة في العمل على تحقيق مشاركة إيران وسوف تسعى إلى إقناع الآخرين بذلك.
هل من الممكن أن يُفضي تحسُّن العلاقات الأمريكية-الإيرانية إلى تعاون بين البلدَيْن في العراق الذي تجمعهما فيه بعض المصالح المشتركة؟
موضع تقاطع المصالح هو في المقام الأول القلق مما يُسمى “الدولة الإسلامية”، كما أن هناك أيضًا مصلحة لكلا الطرفَيْن في الإبقاء على وحدة العراق. لا أظن أن إيران تود أن ترى العراق يتفكك، أو أن ترى دولة كردستانية مستقلة تنهض.
الجهد المبذول لاستعادة الأجزاء التي وقعت تحت سيطرة “الدولة الإسلامية” من العراق يمثل بلا شك مصلحة مشتركة. لكن درجة التعاون تتعقد انطلاقًا من حقيقة أن الطرف الفاعل الرئيسي على الجانب الإيراني هو الحرس الثوري، خصوصًا فيلق القدس، والطرف الفاعل الرئيسي على الجانب الأمريكي هو القيادة المركزية العسكرية الأمريكية، وسيمضي على الأرجح بعض الوقت قبل أن تجلس القيادة المركزية وقوة القدس معًا وتخططان لتحركهما الاستراتيجي التالي.
في هذه اللحظة نجد القوات الأمريكية والإيرانية منخرطتَيْن في حالة من تفادي التصادم (حتى لا ينتهي بنا الحال إلى قصفهم ولا ينتهي بهم الحال إلى قصفنا) لا في حالة من التنسيق. ويبدو إلى حد كبير أن هذا يتم من خلال العراقيين، وذلك على نحو يشبه المحادثات غير المباشرة، فالأمريكيون يجلسون في غرفة والإيرانيون في غرفة أخرى، والعراقيون يترددون بينهما في حركة مكوكية جيئة وذهابًا. ويمكن أن يتصور المرء موقفًا يكون فيه المسئولون العسكريون الأمريكيون والإيرانيون والعراقيون جالسين جميعًا في غرفة واحدة.
أما فيما يخص الحكم العراقي، وأعني إلى أي درجة يستند إلى احترام حقوق الأقليات وإلى درجة ما من استيعاب المصالح السنية، فقد كان الإيرانيون أقل تعاونًا. فهم منحازون إلى العناصر الأشد تطرفًا بين الطائفة الشيعية، ومن ثمَّ فإن قيام دولة متعددة الإثنيات ومتسامحة وشاملة للجميع هو -على الأرجح- مجال لا تتفق فيه وجهات نظر الولايات المتحدة وإيران. وسيكون إجراء مناقشات بين الجانبَيْن مفيدًا في هذا الشأن.
وماذا عن أفغانستان؟
هذا هو الموضع الذي تتفق فيه مصالحنا تمامًا والذي شهد تعاونًا ضمنيًّا. هناك الكثير من النقاش بين الولايات المتحدة وإيران في الاجتماعات متعددة الأطراف، لكن لم يحدث اتصال ثنائي منذ بضع سنين. لقد اتبعت إيران بوجه عام سياسات حميدة تتسق مع سياساتنا. وما إن تدخل هذه الاتفاقية النووية حيز النفاذ، فمن الممكن بسهولة أن يصير هذا النوع من التعاون أكثر صراحة.
لقد أيّدت كل من إيران والولايات المتحدة قيام حكومة وحدة وطنية، وضغطتا على حملتَيْ الرئيس الأفغاني أشرف غني ورئيس الهيئة التنفيذية عبد الله عبد الله لكي تتقاربا. وقد كان الإيرانيون مؤيدين تقليديين للتحالف الشمالي الذي يستمد منه عبد الله قاعدته السياسية.
سيثير قلق إيران، مثلها مثل الولايات المتحدة، أي تغلغل دولة إسلامية في أفغانستان، وستكون مستعدة لتبادل المعلومات حول ذلك النوع من التهديد إذا برز إلى الوجود. وعلى الرغم من أن التعاون بين الولايات المتحدة وإيران في أفغانستان هو الأسهل في تصوره، فإنه أيضًا ليس بالأهم لأنه يحدث بالفعل بشكل ضمني.
أفادت صحيفة “وول ستريت جورنال” في شهر يونيو بأن إيران سلّحت “طالبان” للتصدي للفصائل المسلحة التي تنتمي إلى “الدولة الإسلامية” والتصدي للنفوذ الأمريكي. فما تعليقكم على ذلك؟
قدمت إيران تقليديًّا مساعدات كبيرة للحكومة الأفغانية. فإيران من أهم مانحي المعونات. كما أن إيران تتحوط أيضًا لرهاناتها؛ حيث تحتفظ ببعض الاتصالات مع “طالبان”، وقد وفرت لها بعض المساعدة المحدودة. إن باكستان -وهي حليفنا- مصدر دعم لـ”طالبان” أهم كثيرًا من إيران، لكن إيران ليست مبرّأة تمامًا من ذلك النوع من التحوط و”اللعب على الحبلَيْن”. فليس من المستحيل أن تُعيد إيران النظر في مصالحها وتتعامل مع “طالبان” إذا رأت حكومة كابول تتعثر، لكنها كانت خصمًا قويًّا لـ”طالبان” طوال التسعينيات، وإذا نظرنا إلى الموضوع من جوانبه كافة، سنجد أن إيران كانت أكثر تعاونًا نوعًا ما منذ عام 2001.
هل ستقيّد النقاشاتُ الدبلوماسية حول الاتفاقية النووية في كلٍّ من إيران والولايات المتحدة الدبلوماسيةَ المستقبلية بين البلدَيْن؟
تتخذ إدارة أوباما موقفًا يقضي بعدم تقليص دعمها لحلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، وبأن هذه الاتفاقية ينصب تركيزها حصريًّا على القضاء على التهديد النووي، وكل ما عدا ذلك سيظل كما هو من حيث السياسات الأمريكية. والإيرانيون يقولون الشيء نفسه.
في هذه المرحلة لا نجد أيًّا من الجانبَيْن لديه استعداد لإثارة جدل جديد، بينما ما زال الجدل المرتبط بالاتفاقية النووية لم يحلّ بعد. وستظل هناك موانع كبيرة في كلتا العاصمتَيْن بشأن التطبيع الصريح أكثر مما ينبغي للعلاقات الثنائية.
سيمضي كلا الجانبَيْن في طريقه في حذر شديد لاستطلاع ماهية الإمكانيات الجديدة التي يمكن أن تتفتح نتيجة هذه الاتفاقية. وسيفعلان هذا نوعًا ما بسبب الخوف من الجدل المحلي، ونوعًا ما لأنهما ستسعيان إلى جس نبض إحداهما الأخرى لمعرفة ماهية الإمكانيات المتاحة.
برأيكم هل يدفع النقاش الدائر في الكونجرس الأمريكي الإيرانيين إلى التردد بشأن ما إذا كان بإمكان الولايات المتحدة أن توفي بالتزاماتها الدبلوماسية؟
إن تقييمهم يشبه على الأرجح تقييم معظم المراقبين، ومفاده أن مصير الاتفاقية في الكونجرس الأمريكي ليس مضمونًا، لكن العقبات التي يجب على المناوئين تخطيها لكي يطلبوا فعلا من الرئيس عدم تنفيذ الاتفاقية كبيرة بمعنى الكلمة.
ولا أظن أن النقاش الأمريكي سيفاجئ أي أحد في طهران. فهم على دراية بالطبيعة المستقطبة لعمليتنا السياسية، وخصوصًا الكراهية الشديدة الموجودة في مجتمعنا تجاه إيران، مثلما توجد في الحقيقة كراهية مماثلة في المجتمع الإيراني تجاه الولايات المتحدة، وذلك استنادًا إلى مظالم تاريخية تعود إلى نصف قرن من الزمان.
ما الخطوات التي ستترقبها لتقييم التغييرات الحادثة في المشهد الدبلوماسي؟
ما أرجّحه أن تمضي واشنطن وطهران في طريقيهما بحذر، حتى بمجرد أن يبدأ تنفيذ الاتفاقية. وإذا كان لي أن أبحث عن مؤشرات تؤشر إلى أن هذه الاتفاقية تهدئ المواجهات في المنطقة، فسأُعنى بما يجري بين إيران والمملكة العربية السعودية وبعض الدول الخليجية الأخرى، أكثر مما أُعنَى بما يجري بين واشنطن وطهران، لكي أرى ما إذا كانت هناك زيادة في الدبلوماسية أو زيادة في تبادل الزيارات، أو بدلا من ذلك زيادة في المواجهة، وهذا احتمال أيضًا على خلفية اليمن على سبيل المثال.
ترجمة وإعداد: طارق عليان
المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية