على امتداد الأشهر القليلة الماضية، كان المسرح الدولي زاخراً بالأحداث المتسارعة والمتشابكة بشكل جعل الملفات الدولية تبدو أكثر ازدحاماً، والحاجة إلى حلحلتها أكثر إلحاحاً.
في خضمّ جزء كبير من هذه القضايا، برزت تركيا لاعبَ أساسٍ ومؤثراً لا يمكن تجاهله أو التقليل من أهمية دوره.
فبعد الازدهار النوعي الذي كان نتيجة حتمية لعشرِ سنواتٍ من سياسة “صفر مشاكل” التي اعتمدها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، رأينا تحوّلاً في التعاملات الدولية حيث لم تعد أنقرة تتنظر “الأوامر” من حلفائها وعلى رأسهم واشنطن، كما لم تعد تتحيّن الفرص لنيل رضا الاتحاد الأوروبيّ أملاً في ضمّها إليه يوماً ما.
هذا التحوّلُ رافقه خروج تركيا عن الدبلوماسية المفرطة ودخولها مرحلة فرض وجودها والاشتراك في صنع القرارات الدولية انطلاقاً من أهميتها الجيوسياسية كـ”صِلةِ وصلٍ بين الشرق والغرب”.
وبناءً على ذلك أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الخميس في 17 حزيران/يونيو 2021، أن قوة الاتحاد الأوروبي تتوقف على عضوية تركيا الكاملة فيه، وأن الاتحاد لن يحقق هدفه نحو التحوّل لمركز جذب دون هذه العضوية.
وأعرب أردوغان في كلمةٍ له في إطار مشاركته في قمة “عملية التعاون جنوب شرقي أوروبا” في ولاية أنطاليا جنوبي تركيا، عن توقّعه أن “يتخلص الاتحاد الأوروبي في أسرع وقت من العمى الاستراتيجي الذي يعاني منه، ويحقق تقدّماً في عملية انضمام تركيا إليه في إطار أجندةٍ إيجابية.. رغم كل الإجحاف بحق تركيا”.
على الجانب المقابل، عكست التصريحاتُ الرسمية لشخصياتٍ أوروبية وازنة كيف أدرك الأوروبيون بشكلٍ عام أنه لا يمكن النظر إلى تركيا على أنها مأمورٌ أقلّ شأناً من “أسياده”، بل شريكٌ لا يمكن إدارةُ الظهر له أو إغفالُ دوره المحوريّ والجوهريّ في أمن القارة الأوروبية.
وفي هذا الإطار جاء تصريح المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، التي قالت إن “الاتحاد الأوروبيّ وتركيا يعتمدان على بعضهما البعض لصياغة بعض القضايا بشكل مشترك”، والتي من أبرزها تلك المتعلقة بمستقبل سوريا وليبيا، فضلاً عن مشكلة الهجرة، حيث إنه “لا غنى عن تركيا في هذا الصدد”، رغم وجود خلافات في الرأي بين الجانبين.
وخلال مؤتمرٍ صحافيّ الجمعة في 18 حزيران/يونيو 2021، كشفت ميركل عن عزمها التنسيق مع ماكرون بشأن القضايا التي ستُناقش في قمة قادة الاتحاد الأوروبي المُزمع عقدها في 24 و25 حزيران/يونيو الجاري، ومن ضمنها “العلاقات مع روسيا وتركيا بشأن قضايا السياسة الخارجية”.
هذا الأمر، أكده ماكرون الذي كان التقى إردوغان على هامش قمة الـ”ناتو” في 14 حزيران/يونيو 2021 حيث أعلن وقتها اتفاقهما على الحفاظ على وقف إطلاق النار في ليبيا، وإجراء انتخابات في 24 كانون الأول/ديسمبر المقبل، والعمل بشأن مغادرة المرتزقة والمقاتلين الأجانب الأراضي الليبية في أسرع وقت ممكن”.
يمكن القول إن هذه التصريحات تندرج ضمن مؤشراتٍ إيجابية على الانفراجة في العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي. وفي السياق نفسه كان وزير الخارجية البولندي زبيغنيو راو، قد أكد في مقابلة مع صحيفة Rzeczpospolita البولندية في 14 حزيران/يونيو 2021، أن حلف شمال الأطلسي الـ”ناتو” وأوروبا بحاجة إلى تركيا، التي هي “حليفٌ ضروري للدفاع عن العالم الحر”.
الأمن المرتبط بتركيا كان تحدث عنه أيضاً وزير الخارجية المجريّ بيتر زيجارتو، في 8 شباط/فبراير 2021، حيث قال إن “أمن أوروبا يمرُّ عبر تركيا”، وهو تصريحٌ يشكل خير دليلٍ على الانعطافة المفصلية في النظرة المعلنة إلى تركيا “الجديدة”.
هذا الأمن الذي أشار إليه صراحةً زيجارتو، ما هو إلى نقطة قوة تعرف تركيا جيداً كيف تطوّعها وتبني عليها. فلا يغيب عن فطنةِ أنقرة أنها الجندي المتأهّب في الصفوف الأمامية وسيفٌ يمكن أن يكون ذا حدّين بالنسبة للقارة العجوز. ذلك أنها الدولة الأكثر أهليةً للوقوف سدّاً منيعاً في وجه سيل المتطرّفين المسلّحين من جهة، والمهاجرين غير الشرعيين من جهةٍ أخرى، المتسللين عبر تركيا نحو دول الاتحاد الأوروبي والعالم، ما جعلها تملك مفاتيح الحل أو العرقلة في هذا المجال. يأتي ذلك فيما كشف تقريرٌ للأمم المتحدة أن تركيا تتصدّر قائمة الدول المستضيفة للاجئين الذين بلغ عدد المسجلين منهم 3.7 مليون شخص.
مناوئو تركيا يتهمون قيادتها بالمتاجرة بقضية اللاجئين والمتطرفين، بغية الضغط باتجاه الحصول على مكتسباتٍ مادية على أقل تقدير من الدول التي ترفض القيام بواجبها في فتح أبوابها لضحايا الصراعات في سوريا وليبيا وغيرهما.. وفق ما يحتّم عليها القانون الدولي لحقوق الإنسان.
لكن الواقع السياسي والدبلوماسي يقول إن العلاقات الدولية قائمة على المصالح المتبادلة والقضايا المشتركة، التي تتطلب بعض التنازلات في سبيل حلّ النزاعات من جهة، وتقاسمٍ عادل للنفوذ والموارد من جهةٍ أخرى.
وعليه، فإن مساومة تركيا في هذه القضايا يمكن أن يُقصى من إطار الابتزاز والمتاجرة، ويوضع في خانة المفاوضات المبنية على النّدّية، بلد مقابل بلد، وليس قوى عظمى مقابل بلد تابع.
هذه النتيجة أحرزتها تركيا بعد سنواتٍ من محاربة الاتحاد الأوروبي لها ووقوفه على كلّ كبيرةٍ وصغيرة لمنعها من الحصول على العضوية الكاملة فيه.
وها هم أعضاؤه اليوم يُفعّلون اللغة الإيجابية في التعامل والمحادثات معها، معترفين علناً وضمناً بدورها الحاسم رغم العديد من الخلافات والاختلافات في وجهات النظر، وعدم “انبطاح تركيا” طمعاً في نيل الرضا الدوليّ.
ياقوت دندشي
وكالة أنباء تركيا