تطور الإرهاب التونسي

تطور الإرهاب التونسي

F19A64A2-27F8-4B03-9A6E-D18B95C7F317_cx0_cy6_cw0_mw1024_mh1024_s

تنخرط تونس حالياً في معركة غير تقليدية ضد الجماعات الجهادية العاملة في مناطق البلاد الحدودية والمرتفعات والمدن. وتسعى هذه التنظيمات إلى عرقلة انتقال تونس إلى الديمقراطية عن طريق استهداف المؤسسات الأمنية للبلاد، والاقتصاد والسياسيين والمدنيين من خلال بث سموم حقدها على هذه المؤسسات.

ومع ذلك، تعود أصول “الحركة الجهادية” في تونس إلى فترة ما قبل “الربيع العربي” وإلى عهد الرئيس زين العابدين بن علي (1987-2011) الذي حكم البلاد بقبضة حديدية. فقد فرض رقابة على أفكار الناس ومعتقداتهم، ولم يدخر جهداً في محاصرة الاستعراض العلني للتدين الإسلامي. فنظامه قد راقب المساجد، وتجسَّس على الاجتماعات الدينية، ومنع اللحى الطويلة والحجاب وأغلق الكتاتيب. وقد فرضت هذه السياسات العلمانية على مواطني تونس، وقمعت التيارات الإسلامية المعتدلة. وعلى وجه الخصوص، سجن نظام بن علي عدد من قيادات “حركة النهضة” وأتباعها أو قام بنفيها. وأدت سياسات بن علي التي تمثلت بعدم إجراء حوار كامل مع الإسلاميين إلى تشجيع بعض المواطنين على رؤية المعارضة السلمية كغير مجدية ضد النظام. وقد اختار العديد منهم المقاومة السرية وتبنّوا العنف كآلية لتغيير النظام وإقامة شرع الله.

ونتيجة لذلك، أدى تفجير انتحاري في معبد “الغريبة” اليهودي في عام 2005 إلى مصرع 19 سائحاً ألمانياً؛ وادعى تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» مسؤوليته عن الهجوم. وفي عام 2006، كشفت عناصر الاستخبارات مؤامرة قامت بها “مجموعة سليمان” التابعة لـ “كتيبة عقبة بن نافع” لاستهداف مؤسسات حكومية تونسية. وبعد اكتشاف المؤامرة قتلت قوات الأمن بعض أعضاء “المجموعة” في اشتباكات وقعت معهم وسجنت آخرين. ودفعت هذه الحادثة إلى قيام أجهزة الدولة بعملية أمنية واسعة النطاق في جميع أنحاء البلاد لاعتقال العناصر السلفية.

وبعد ثورة 2011، استغلت الجماعات السلفية الجهادية العفو الممنوح لأعضائها المسجونين لإعادة ترتيب صفوفها ودخول الحياة العامة. وفي بعض الأحيان قدمت هذه الجماعات نفسها كفئات للتوعية الدينية، وفي حالات أخرى أعلنت عن جانبها العنيف. وفي تونس ما بعد الثورة، ظهرت ثلاث جماعات جهادية بارزة هي: “أنصار الشريعة”، و”كتيبة عقبة بن نافع”، وتنظيم «الدولة الإسلامية».

وكان تنظيم “أنصار الشريعة” الجماعة الأولى التي ظهرت إلى العلن في 27 نيسان/أبريل 2011. وبرز سيف الله بن حسين (المكنّى بأبي عياض التونسي) كزعيم للجماعة. وتلقى أبو عياض تعليمه الديني عن أبي قتادة الفلسطيني أحد أعلام تنظيم “القاعدة” في لندن واعتُقل من قبل نظام بن علي كواحد من العديد من المقاتلين التونسيين العائدين من أفغانستان، التي أسس فيها جماعة من المقاتلين التونسيين.

وقدم تنظيم “أنصار الشريعة” نفسه للتونسيين في البداية على أنه منظمة دعوية ذات أهداف خيرية. وعملت الجماعة على تعزيز هذه الصورة من خلال الأنشطة الوعظية، ونشر مؤلفات شيوخ السلفية، وتوفير الخدمات الطبية والمواد الغذائية للمحتاجين. ومن خلال استغلالها لأجواء الثورة، تمكنت الجماعة من تنصيب أئمة متعاطفين معها وتنظيم دروس دينية في المساجد في مختلف محافظات تونس. وبرزت بعض اللجان السلفية التابعة للتنظيم في بعض الأحياء والمدن الكبرى. وعملت هذه اللجان على حماية سكان مناطقها من الفوضى التي أعقبت الثورة وسعت إلى طلب العدالة لأولئك الذين تعرضوا لمعاملة سيئة، وبالتالي استقطبت عدد مهم من الأتباع.

وفي ظل تزايد شعبيتها، عمدت الجماعة إلى تنفيذ هجمات عنيفة ضد الليبراليين في تونس من خلال مهاجمة دور السينما بدعوى عرضها أعمالاً فنية تتعارض مع الإسلام.

بيد، استمر تنظيم “أنصار الشريعة” في الاستفادة من سياسة الملاينة التي اعتمدتها “حركة النهضة” عندما حاولت هذه الأخيرة إقناع الجماعة بالانتظام ضمن المشهد السياسي غير العنيف. غير أن تنظيم “أنصار الشريعة” رفض تأسيس حزب قانوني، وبدلاً من ذلك وزع مطبوعات تحذّر التونسيين من المشاركة في الانتخابات التشريعية عام 2011. وقد وصفت جماعة “أنصار الشريعة” التصويت بأنه انتهاكاً للحاكمية الإلهية، واعتبرت الديمقراطية شكلاً من أشكال الشرك والوثنية، ووجهت تحذيراً للإسلاميين المشاركين في الانتخابات بأنهم ىسيندمون على أفعالهم يوم القيامة.

وخلال هذه الفترة نفسها، نشطت جماعة “أنصار الشريعة” في المطالبة بإطلاق سراح التونسيين الذين حاربوا مع تنظيم “القاعدة في العراق” خلال الفترة 2005-2007، بتنظيمها اعتصامات سلمية أمام السفارة العراقية في تونس، ومشيدة في الوقت نفسه بالعمليات التي يقوم بها تنظيم “القاعدة” في العراق، وأفغانستان، والصومال، ومالي.
وفي أيلول/سبتمبر 2012، بدأ مسار التصادم بين جماعة “أنصار الشريعة” وحكومة الترويكا الأولى برئاسة حمادي الجبالي في أعقاب الهجوم الإرهابي على السفارة الأمريكية في تونس، والذي أدّى إلى اعتقال ومقتل عدد من المتظاهرين المحسوبين على الجماعة.

ورداً على ذلك، حاول التنظيم بسط نفوذه على عدد من المساجد، وتشجيع التونسيين على السفر إلى سوريا والتحذير من شرور الديمقراطية. وسعت الجماعة أيضاً إلى توطيد علاقاتها مع تنظيمات جهادية إقليمية، بما فيها تنظيم “أنصار الشريعة في ليبيا.”

وفي النهاية، قامت “حركة النهضة” – التي تزعمت حكومة ترويكا ثانية – بإدراج تنظيم “أنصار الشريعة في تونس” كمنظمة إرهابية في آب/أغسطس 2013، وذلك بعد اغتيال السياسيين المعارضين اليساريين شكري بلعيد ومحمد البراهمي في شباط/فبراير وتموز/يوليو 2013 على التوالي. ورداً على ذلك، داهمت قوات الأمن أيضاً عدداً من معاقل “أنصار الشريعة” وشنت حملات اعتقال واسعة في صفوف التنظيم.

وقد أدى ذلك إلى اضطرار الجماعة إلى نقل عملياتها إلى العمل السري، وانخفاض حضورها الإعلامي. وقد حل محلها تنظيم أصغر حجماً لملء هذه الفجوة، ألا وهو “كتيبة عقبة بن نافع”.

و”كتيبة عقبة بن نافع” هي الفرع التونسي لـ تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»؛ وهي كتيبة مسلحة تعود بداية ظهورها إلى عام 2000 ويقدر عدد أفرادها بـ 80 عنصراً تلقوا تدريباتهم على استخدام الأسلحة وعمليات الاختطاف ضد مراكز الشرطة والمكاتب الحكومية. وتعمل الجماعة في المحافظات التونسية الواقعة بالقرب من الحدود التونسية مع الجزائر وفي المناطق الجبلية في المقام الأول.

ومن الناحية التنظيمية يشرف على الجماعة الأمير محمد العربي بن مسعود المكنّى بـ “أبي يحيى الجزائري” وتولى قيادتها عسكرياً خالد الشايب المكنّى بـ “لقمان أبي صخر” والذي يعرف بـ “سفير العلاقات” في الكتيبة نظراً إلى اتصالاته الواسعة مع قيادات سلفية متشددة جزائرية وليبية، إلى جانب علاقاته الوثيقة مع عبد الملك دروكدال (أبو مصعب عبد الودود) أمير «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي». وتنسب إلى الكتيبة جل العمليات المسلحة ضد الحكومة التونسية منذ كانون الأول/ديسمبر 2012، بما فيها عمليات ذبح جنود الحكومة بجبل الشعانبي، ومهاجمة مراكز “الحرس الوطني”، والثكنات العسكرية. وتبنت الجماعة أيضاً المسؤولية عن الهجوم الذي وقع على “المتحف الوطني” بباردو في 18 مارس/ آذار 2015 ، وأسفر عن مقتل 22 سائحاً.

وعلى الرغم من أن أهمية “كتيبة عقبة بن نافع” قد برزت بعد سقوط “أنصار الشريعة في تونس”، فمن الممكن جداً أن تكون الكتيبة في الواقع الجناح المسلح لـ “أنصار الشريعة”. وقد تزايدت وتيرة هجمات الجماعة المسلحة بشكل ملحوظ بعد الهجوم الذي شنه تنظيم “أنصار الشريعة” على السفارة الأمريكية، وعقب الإعلان عن تصنيف الجماعة كمنظمة إرهابية. بالإضافة إلى ذلك، أعلنت الكتيبة عبر المنبر الإعلامي الإلكتروني الخاص بها “إفريقية للإعلام” وعبر حساب “فجر القيروان” على الفيسبوك وتويتر أن بعض “شهدائها” هم أعضاء سابقون في تنظيم “أنصار الشريعة في تونس”.

وقد تسببت القوات الأمنية والعسكرية التونسية في وقوع خسائر فادحة في صفوف قيادة الجماعة من خلال تنفيذ مداهمات وعمليات استباقية ناجحة، من بينها مصرع كمال القضقاضي المتهم بالمشاركة في اغتيال [المعارض اليساري] شكري بلعيد. بالإضافة إلى ذلك، ألغت الحكومة بعض القيادة العليا للجماعة، من بينها القائد العسكري لقمان أبي صخر والمنسق اللوجيستي مراد الغرسلي. وأدت هذه الجهود إلى دفع الكتيبة إلى الجبال وقطع خطوط إمداداتها وتقييد حركتها. وتشير عدة تقارير إلى أن الجماعة شهدت حالة من الانقسام، حيث بقيت جماعة واحدة موالية لـ تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، بينما اختارت جماعة أخرى الانضمام إلى تنظيم «الدولة الإسلامية».

وفي أواخر عام 2014، أبلغ تنظيم «الدولة الإسلامية» العالم بنيته توجيه عملياته نحو تونس، وبرغبته في إقامة “ولاية إفريقية” تشمل تونس، وشمال غرب ليبيا، وشمال شرق الجزائر. وفي كانون الأول/ديسمبر 2014، وجه تنظيم «الدولة الإسلامية» رسالة مباشرة إلى الشعب التونسي جاء فيها أن أبي بكر الحكيم المكنّى بأبي المقاتل قد أعلن “نعم يا طواغيت، نحن من اغتلنا شكري بلعيد ومحمد البراهمي”. وفي مقطع الفيديو نفسه، حث تنظيم «الدولة الإسلامية»على الثأر للمعتقلين والمعتقلات من أبناء التيار السلفي، في حين حرّض على القيام بأعمال عنف ضد النظام الحاكم، ومبايعة أبي بكر البغدادي. ودعا مقطع الفيديو الشعب التونسي إلى “إعلاء راية التوحيد، وتمزيق رايات شارل ديغول ونابليون”.
وعلى الرغم من أنه لم يتردد صدى رسالة تنظيم «الدولة الإسلامية» مع الغالبية العظمى من التونسيين، إلا أن الرسالة وجدت تجاوباً معها من جانب من تبقى من “أنصار الشريعة” خارج السجن ومن شق من المنتمين إلى “كتيبة عقبة بن نافع”. وقد بدا تنظيم «داعش» أكثر إغراء للمستقطبين الجدد في التيار الجهادي التونسي بسبب تَهَيُّؤ تنظيم «الدولة الإسلامية»، وحضوره الإعلامي المكثف، وامتداده الجغرافي، وخطابه المتطرف، وعملياته الدموية الشرسة، وما يحظى به من مال وعتاد. وإلى جانب بعض الأفراد، ظهرت في هذا السياق جماعتان جديدتان أعلنتا الولاء لتنظيم «الدولة الإسلامية» هما جماعة “جند الخلافة بتونس” وجماعة “طلائع جند الخلافة”. وادعت الجماعة الأخيرة أيضاً مسؤوليتها عن تنفيذ الهجوم الدامي على “المتحف الوطني بباردو”. ولا يزال تنظيم «الدولة الإسلامية» نشطاً في تونس وأعلن مسؤوليته عن الهجوم الأكثر دموية في تونس، الذي وقع في منتجع سياحي في سوسة في حزيران/يونيو هذا العام.

ومن الضروري الإشارة إلى أن التمييز بين هذه الجماعات “الجهادية” من المنظور البحثي، لا يعني بالضرورة أنها منفصلة أو في صراع مع بعضها البعض على الأرض. فمن المرجح أن بعض هذه الجماعات هي سليلة إيديولوجية لجماعات أخرى، وأنها تتكامل في مستوى توزيع الأدوار والاضطلاع بالمهام القتالية. على سبيل المثال، من الواضح أن عدداً كبيراً من أعضاء “أنصار الشريعة” من الجماعة الرئيسية لـ “كتيبة عقبة بن نافع” وكذلك عدد من أتباع “الكتيبة” يشكلون الآن العمود الفقري لتنظيم «الدولة الإسلامية» في تونس. وفي كثير من الأحيان، إن ظهور جماعة وتراجع أخرى يتمّ لاعتبارات تكتيكية واستراتيجية أو لتحقيق غايات إعلامية، كما يبدو واضحاً عندما استلزم الكبح الصارم لـ “أنصار الشريعة” ظهور “كتيبة عقبة بن نافع” وتفعيل نشاطها المسلح بقوة في عام 2012. وبالمثل، إن الحاجة إلى صرف النظر عن “كتيبة عقبة بن نافع” اقتضى صعود تنظيم «الدولة الإسلامية» في عام 2015؛ وقد تجلى ذلك من واقع أن مرتكب الهجوم في سوسة في حزيران/يونيو يبدو أنه وقع تحت تأثير متطرفي “أجناد الخلافة” في البداية، وهو فرع تابع لـ جماعة “أنصار الشريعة” التي تدور في فلك تنظيم «الدولة الإسلامية». وفي الواقع، أن كل هذه الجماعات لديها جاذبية أيديولوجية مشتركة تقوم على مجموعة من المبادئ وهي: الجهاد في سبيل الله لتحكيم شرع الله في الأرض، وإقامة الخلافة الإسلامية في جميع أنحاء العالم، والاعتقاد بأن الديمقراطية ورونق السلطة المتعلق بها هي شكل من أشكال الردة، ومعاداة جميع الأنظمة العلمانية والغرب وجميع أشكال الإسلام السياسي.

أنور الجمعاوي

منتدى فكرة