يخلق التعافي غير المتكافئ للاقتصاد العالمي تحديات جديدة، بما في ذلك الموانئ المزدحمة في الولايات المتحدة، وسلاسل التوريد الهشة، وبطء تسليم الطلبيات للمستهلكين وتجار التجزئة، وتعد لوس أنجلوس أكبر ميناء في الولايات المتحدة، وتمثل -إلى جانب لونغ بيتش في الجنوب- حوالي 30% من التجارة القادمة من الولايات المتحدة وإليها.
وفي تقرير نشرته مجلة “ناشونال إنترست” (national interest) الأميركية، قال الكاتب سكوت ماكدونالد إنه على الرغم من أن الوضع في موانئ الساحل الغربي يتحسن ببطء فإنه يثير مخاوف بشأن احتمالية زيادة الأسعار، ويشير إلى الطبيعة الهشة لسلاسل التوريد العالمية، وبسبب التوترات القائمة بين الولايات المتحدة والصين أصبحت سلاسل التوريد العالمية تشكل قضية حاسمة، ليس فقط للنمو الاقتصادي الأميركي، ولكن للنمو الاقتصادي العالمي.
وعلى الصعيد الاقتصادي، كانت الصين أول من انتعش تلتها الولايات المتحدة، فيما تأخرت أوروبا واليابان عنهما، ويرتبط ذلك بعاملين، فمن جهة استأنفت المصانع الآسيوية إنتاجها، ومن جهة أخرى قرر المستهلك الأميركي -الذي كان عالقا في المنزل أثناء الوباء- شراء الكثير من السلع الاستهلاكية، وأدت الزيادة في عدد السفن القادمة من آسيا إلى وضع موانئ الساحل الغربي المتضررة بالفعل من جائحة كورونا تحت الضغط بداية من نوفمبر/تشرين الثاني حتى يونيو/حزيران الماضيين.
وازداد وضع الميناء تعقيدا بسبب نقص البضائع المتجهة إلى آسيا بسبب التأخر في النشاط الاقتصادي الأميركي، وقد ظهر التأثير غير المباشر في ارتفاع أسعار مختلف المنتجات وترك الشركات تتدافع للحصول على المنتجات المستوردة، بما في ذلك أشباه الموصلات، وعلى الرغم من أن ازدحام الموانئ خف في الوقت الراهن فإن هناك تغييرات كبيرة متوقعة في نموذج الإنتاج في الوقت المناسب وسلاسل التوريد العالمية التي يعتمد عليها.
الازدحام في الموانئ الأميركية بلغ ذروته في فبراير/شباط عندما تركت 40 سفينة في انتظار التفريغ (وكالة الأنباء الأوروبية)
سلاسل التوريد
في أواخر القرن الـ20 تبنت الشركات في الاقتصادات المتقدمة نموذج الإنتاج “في الوقت المناسب” الذي عالج التحدي المتمثل بتكديس المواد في المستودعات في حال تزايد طلب العملاء فجأة، ويتمثل الجانب السلبي للتخزين في أن الشركات غالبا ما تحتفظ بمخزونات كبيرة، مما يتطلب مساحة كبيرة وأيادي عاملة إضافية. في المقابل، ألغى نموذج الإنتاج في الوقت المناسب الحاجة إلى قوائم الجرد الكبيرة والموظفين اللازمين لصيانتها.
والذي ساعد نموذج الإنتاج في الوقت المناسب على العمل هو تطوير سلاسل التوريد العالمية التي تلبي الحاجة إلى مصادر سريعة وموثوقة للمنتجات، حيث تم تطوير نظام لمصادر المنتجات المرنة والآمنة عبر الشبكة العالمية لشركة عبر وطنية لتحقيق أقصى قدر من الأرباح وتقليل الهدر.
وفي الوقت ذاته، سمحت سلاسل التوريد العالمية للشركات الأميركية بإنشاء مرافق إنتاج في البلدان التي كانت تكلفة العمالة فيها أرخص، كما أدى ظهور التجارة الإلكترونية والرقمنة إلى زيادة جاذبية سلسلة التوريد التي تعمل بسرعة.
عمل النموذج بشكل جيد خلال العقد الأول من القرن الـ21، لكنه بدأ يفقد جاذبيته عندما زادت تكاليف العمالة في آسيا وأميركا اللاتينية، وأثار الركود العظيم 2008-2009 العديد من التساؤلات حول قيمة العولمة، كما وضع فيروس كورونا نموذج الإنتاج في الوقت المناسب وسلاسل التوريد العالمية تحت ضغط كبير.
وعلى الرغم من أن إدارة بايدن تدعم سياسة اقتصادية خضراء فإن الشحن -الذي يمثل العنصر الأساسي في سلسلة التوريد العالمية- يعتبر إحدى أكثر الصناعات تلويثا في العالم، ووفقا لصحيفة “فايننشال تايمز” (Financial Times)، يتم نقل 90% من التجارة بحرا، فيما يتطلب جعل الشحن صديقا للبيئة تكاليف كبيرة، مما يثير تساؤلات حول التأثير على رسوم الشحن وكيفية تعامل تجار التجزئة مع هذه التكاليف.
وهناك عامل مهم آخر مرتبط بمعضلة سلاسل التوريد العالمية يتمثل في انجراف الولايات المتحدة والصين نحو حرب باردة جديدة تميزت بدرجة من الانفصال الاقتصادي، وعلى غرار الإدارة السابقة يبدو أن إدارة بايدن تركز على الصين بنفس القدر، واصفة إياها بأنها نموذج بديل لدولة مستبدة ورأسمالية مصممة على إعادة تشكيل النظام الدولي الليبرالي.
وفي الواقع، وُصف الاجتماع الأول بين كبار المسؤولين في ألاسكا بأنه “فاتر”، حيث أشار إلى أنه لن تكون هناك إعادة ضبط فورية في العلاقات، وهذا لا يبشر بالخير لديناميكيات سلسلة التوريد.
الشركات الصينية نشطة في امتلاك محطات في الموانئ الرئيسية في الولايات المتحدة (وكالة الأنباء الأوروبية)
السيطرة على الموانئ
ترتبط القضية الجيوسياسية أيضا بمن يسيطر على الموانئ الأميركية، إذ تتحكم الشركات الأجنبية في عدد كبير من الموانئ الأميركية، وتمتلك الصين -من خلال شركاتها المختلفة- ما لا يقل عن ثلثي موانئ الحاويات في العالم أو أنها مدعومة من قبل الاستثمارات الصينية، وتشمل هذه الاستثمارات محطات في موانئ الحاويات الأميركية الرئيسية في لوس أنجلوس وسياتل.
وفي عام 2006 سعت شركة مملوكة لحكومة الإمارات العربية المتحدة إلى شراء 6 موانئ أميركية، والتي أصبحت بمثابة مشكلة سياسية كبيرة، ولفترة وجيزة كان هناك تركيز على من يملك أجزاء من الموانئ الأميركية، قبل أن يتلاشى هذا الاهتمام في عصر التجارة المزدحم، مع ذلك أصبحت الشركات الصينية نشطة منذ ذلك الحين في امتلاك محطات في الموانئ الرئيسية في الولايات المتحدة بالإضافة إلى السيطرة على طرفي قناة بنما، وفي حال استمر الانجراف نحو حرب باردة جديدة فقد تصبح ملكية الصين للموانئ مصدر قلق أعمق للأمن القومي.
بلغ الازدحام في الموانئ الأميركية ذروته في فبراير/شباط الماضي عندما تركت 40 سفينة في انتظار التفريغ في لوس أنجلوس ولونغ بيتش. في المقابل، انخفض هذا العدد الآن إلى 16، وهو وضع أكثر قابلية للإدارة، وتأمل سلطات ميناء الساحل الغربي التعامل مع مشكلة الشحن المتراكمة بحلول أغسطس/آب المقبل عندما يشرع تجار التجزئة في شراء سلعهم استعدادا لموسم عيد الميلاد.
وذكر الكاتب أن سلسلتي “كاستكو” (Costco) و”دولار تري” (Dollar Tree) حذرتا في الأيام الأخيرة من أن ازدحام الموانئ يرفع تكاليف الشحن ويطيل المدة المستغرقة لجلب البضائع إلى الولايات المتحدة، ورفعت العديد من الشركات بالفعل طلباتها لموسم العطلات، لتجنب أزمة إمدادات محتملة في وقت لاحق من العام، وكلما طالت المشكلة زادت فرصة فرض الشركات تكاليف نقل أعلى على العملاء.
ووعد البنك المركزي الأميركي بالحفاظ على أسعار فائدة منخفضة، لكنه بلا شك على دراية بالضغط الذي قد يأتي من الشحن، ويتمثل أحد العوامل الأخيرة التي تؤثر على الموانئ وسلاسل التوريد في احتمال وقوع حدث غير متوقع، مثل حادث إغلاق قناة السويس في مارس/آذار 2021.
وبالنظر إلى المستقبل فإن من المحتمل أن يكون عام 2021 عاما مليئا بالتحديات بالنسبة لسلاسل التوريد وتجار التجزئة الذين يعتمدون عليها، وقد يستمر الضغط على سلاسل التوريد خلال الصيف وحتى رأس السنة الصينية في فبراير/شباط 2022، وعلى الرغم من وجود تحسن في عملية سير السفن على الساحل الغربي فإن المخاطر لا تزال قائمة.
وفي الواقع، يجب إعادة التفكير بجدية في نموذج الإنتاج في الوقت المناسب وسلاسل التوريد العالمية ونقاط ضعفها في ظل تزايد القلق بشأن تأثيرها على الاقتصاد الأميركي، ويمكن أن تصبح قضية الملكية الأجنبية للبنية التحتية الرئيسية للولايات المتحدة عاملا أكثر أهمية، في وقت يعيد الأميركيون تقييم علاقتهم مع الصين.
المصدر : ناشونال إنترست