لا تكفي التدخلات التركية والإيرانية وغيرها لإيقاف تحقيق حلم كردي تاريخي بإقامة “كيان مستقل” في أكثر المناطق اضطرابا في الشرق الأوسط، بل تحول الأمر إلى ما يشبه تنافسا كرديّا – كرديّا على الحدود السورية – العراقية لا يخلو من خلافات وانقسامات عميقة.
أربيل- قبل نحو سبع سنوات كانت رايات تنظيم الدولة الإسلامية ترفرف بالقرب من حدود إقليم كردستان العراق الذي عمل جاهدا من أجل تحقيق حلمه بتشكيل كيان مستقل وتنظيم استفتاء الانفصال عن الدولة العراقية، لكن عوامل داخلية وخارجية عديدة أفشلت كل تلك الجهود من دون التخلص عن الحلم الكردي التاريخي.
وبات اليوم هناك واقع جديد على الحدود العراقية – السورية ترسمه التغييرات الجيوسياسية في منطقة تعد الأكثر اضطرابا في الشرق الأوسط، وتشكلت معه معادلات جديدة بحكم الأمر الواقع الذي فرضه ضعف الدولتين السورية والعراقية منذ بداية العام 2011 إلى الوقت الراهن.
وأدت الحرب في سوريا وحملة الدولة الإسلامية في العراق منذ العام 2013 إلى انفتاح الحدود في الشرق الأوسط وتشكيل معادلات جديدة، بعد أن ظلت ثابتة منذ معاهدة سايكس – بيكو لعام 1916. وجعلت تلك المعاهدة الأكراد الذين يقدر عددهم بنحو 30 مليونا وأغلبهم من السنة يعيشون كأقليات في تركيا والعراق وإيران وسوريا، بالإضافة إلى من يعيش منهم في الشتات.
وسعى كل من العراق وإيران وتركيا لإجهاض تطبيق نتائج استفتاء كردستان عام 2017، ورغم ذلك نسج الأخير علاقات قوية مع تركيا وساهم في دعمها في معركتها التي أطلقتها شمال العراق لإنهاء وجود حزب العمال الكردستاني.
وكشفت طريقة تعاطي أكراد العراق المثير مع تركيا، التي لا تخفي عملها على تفتيت أي “حلم لإقامة كيان كردي مستقل”، عن وجود انقسامات عميقة بين الأكراد أنفسهم سواء في سوريا أو العراق أو تركيا بشأن طبيعة الكيان المستقبلي وتوقيت تطبيقه على أرض الواقع.
وانعكست التغييرات المحلية والإقليمية والدولية والمعارضة الشديدة التي تعرض لها الإقليم بعد استفتاء الانفصال، بالإضافة إلى أزمته الاقتصادية العميقة وخلافاته مع بغداد إلى العمل على تضييق الخناق أكثر على المنافسين في الداخل أو حتى حزب العمال الكردستاني الذي عزز نفوذه بشكل واسع شمال العراق.
وتقول دراسة جديدة نشرها مركز كارنيغي للشرق الأوسط مؤخرا إن الحضور الواسع لفصائل مسلحة كردية على طول الحدود السورية – العراقية فاقم من حالة التنافس بين تلك الفصائل، لاسيما بين الحزب الديمقراطي الكردستاني وحزب العمال.
وتوضح الدراسة المنجزة من قبل الباحثين حارث حسن وخضر خضور أن الصدام الحاصل بين الحزبين الكرديين يعود أساسا إلى وجود رؤيتين مختلفتين حول شكل الحدود.
وتهدف رؤية الحزب الديمقراطي الكردستاني، الذي يقود حكومة إقليم كردستان، إلى ترسيخ واقع الحدود لترسيم سلطة حكومة الإقليم والدولة المستقبلية، بينما تقوم رؤية حزب العمال على تغيير واقع تلك الحدود بشكل جذري.
وساهمت عملية التفكك التي عانت منها سوريا والعراق خلال السنوات الماضية في سيطرة مجموعة متنوعة من الفصائل الكردية على أجزاء واسعة من الحدود في الدولتين.
منافسة شرسة
ينذر التحول الجيوسياسي الكبير في إنشاء حدود كردية – كردية بتداعيات طويلة المدى على المنطقة التي لم تعرف الاستقرار منذ سقوط تنظيم الدولة الإسلامية، وما زالت تعد من أكثر المناطق اضطرابا على الصعيد الجيوسياسي في الشرق الأوسط.
واستنتج القائمون على الدراسة التي اعتمدت بشكل واسع على زيارات ومقابلات ميدانية على مدار عام كامل في المنطقة، أن مستقبل تلك الحدود يعتمد بدرجة كبيرة على نتيجة الصراع الجيوسياسي الدائر.
ويرى هؤلاء أن تلك النتيجة تعتمد أساسا على نجاح حزب العمال الكردستاني في تعزيز دوره أو تعرضه للعزل والتهميش عندما ترسخ حكومة إقليم كردستان والإدارة الذاتية سلطتها في هذه المنطقة.
وتشكل علاقة حزب الاتحاد الديمقراطي وحزب العمال الكردستاني، المدرج على قائمة المنظمات المصنفة إرهابية في تركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، عقبة أمام محاولات الإدارة الذاتية لتطبيع وجودها وكسب الاعتراف الدولي.
كما أدت هذه العلاقة بين حزب الاتحاد الديمقراطي والحزب الديمقراطي الكردستاني إلى تأجيج التنافس بينهما على زمام السلطة وإدارتها أو تقاسمها في شمال شرق سوريا.
ويسيطر حزب الاتحاد الديمقراطي، الذي يرتبط عدد كبير من أعضائه بحزب العمال الكردستاني، على المنطقة الحدودية مع العراق منذ منتصف العام 2012، لاسيما معبر سيمالكا من الجهة الشمالية وفرض سيطرته على أكثر من مكان في تلك المناطق.
وتمتعت الإدارات الكردية بدرجة من الحكم الذاتي والاعتراف الدولي لم يكن من الممكن تصورهما قبل أقل من عقد من الزمن، ويعتبر بعض المراقبين أن الروابط المتنامية بين كردستان العراق ومنطقة روج آفا في سوريا تحمل بذور تحول جيوسياسي كبير إذا سمح للاندماج الاجتماعي والاقتصادي والسياسي بالازدهار.
ويرى مركز كارنيغي للأبحاث الاستراتيجية أن “فرص قيام وحدة كردية قابلها ارتفاع وتيرة التنافس الكردي – الكردي، حيث ازدادت المنافسة بين الحزب الديمقراطي الكردستاني وحزب العمال على خلفية محاولات من الطرفين ترمي إلى رسم معالم المشهد السياسي الهش في شمال شرق سوريا، وتعديات حزب العمال المتزايدة على أراضي إقليم كردستان والمناطق التي كان الحزب الديمقراطي يعتبرها تقليديا خاضعة إلى نفوذه مثل سنجار”.
معادلات جديدة تشكلت بحكم الأمر الواقع الذي فرضه ضعف الدولتين السورية والعراقية منذ بداية العام 2011 إلى الوقت الراهن
وتسعى حكومة إقليم كردستان والإدارة الذاتية لتحويل نفوذهما على الأرض إلى واقع مستدام، وذلك من خلال إضفاء طابع رسمي عليه ونيل اعتراف على الصعيدين المحلي والدولي. لكن في المقابل يسعى حزب العمال الكردستاني والمجموعات المرتبطة به لإعادة هندسة المنطقة على نطاق واسع وبطريقة تتجاوز مفهوم الحدود لصالح إحلال تضامن عابر للحدود الوطنية بين الأكراد.
وفي ظل حالة الاستقطاب القائم بين الأكراد تربط بين قوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية علاقة أكثر دقة وتعقيدا وتعتبر مواقف الطرفين نابعة من حاجتين متعارضتين، فمن جهة عليهما تثبيت وتطبيع سلطتهما المستقلة، ومن جهة أخرى عليهما الحفاظ على الروح القتالية والتحالف مع حزب العمال الكردستاني لمواجهة التهديدات المتواصلة خصوصا الصادرة عن تركيا والفصائل السورية المتحالفة معها، فضلا عن تنظيم الدولة الإسلامية والنظام السوري.
ويقول المركز الأميركي إن “مستقبل هذه الحدود يعتمد بشكل كبير على خيارات الفصائل الكردية السورية، وما إذا ستقودها إمّا نحو توجه دولتي أعظم، أو توجه عسكري أكبر”.
اقتصاد كردي عابر للحدود
يوضح الباحثان حارث حسن وخضر خضور في دراستهما الواسعة أن ديناميكيات التنافس بين القوى الكردية تشير إلى أن الوحدة الإثنية لا تكفي للتوافق على إدارة هذه الحدود. وقالا إنه يمكن أن تحفز المصالح الاقتصادية الهشة بين الجانبين على التعاون في مجال تنظيم الشؤون الحدودية، إلا أن المشاكل الجوهرية ذات الجذور التاريخية لا تزال تسبب التوترات.
واستفاد الأكراد على جانبي الحدود العراقية – السورية من الواقع الذي جد في تلك المنطقة بعد اندلاع النزاع السوري في العام 2011، حيث كانت العلاقة بين إقليم كردستان وأكراد سوريا علاقة سياسية في الغالب.
ويشير مركز كارنيغي إلى أن الوضع الآن اختلف بعد أن اتسمت تلك الروابط بين الإقليم والمناطق ذات الأغلبية الكردية في سوريا بجانب اقتصادي، حيث حولت المعابر الحدودية التي أقيمت في العام 2016 المنطقة إلى مركز اقتصادي ناشط.
وما يثير اهتمام الباحثين في هذه المنطقة الحدودية أنها لا تقع بين دولتين مستقلتين، بل بين كيانين سياسيين بقيادة كردية، حيث يسعى كل من الحزب الديمقراطي الكردستاني والإدارة الذاتية لكسب نفوذ سياسي عبر المعابر الحدودية الجديدة.
ويرى المركز الأميركي للأبحاث الاستراتيجية أن السيطرة الكردية على هذه المعابر تعكس الطابع الهجين والضبابي الذي باتت تتسم به على نحو متزايد الخطوط الفاصلة بين الحيز الرسمي وغير الرسمي في المنطقة نتيجة ضعف أجهزة الدولة المركزية والتشابك القائم بين الكيانات السياسية والجهات شبه العسكرية والبيروقراطيات.
وتطورت في تلك الممرات الحدودية مسارات التهريب بعد اندلاع النزاع السوري، كما باتت ممرات لنقل الأفراد والبضائع بصورة غير مشروعة، لاسيما بين العامين 2011 و2013.
وتقول دراسة مركز كارنيغي إنه في السنوات الأخيرة بات تهريب النفط وخصوصا الخام السوري إلى إقليم كردستان والوقود المكرر إلى شمال شرق سوريا يشكل مدعاة للقلق في المنطقة.
واتهمت هيئة النزاهة العراقية في فبراير العام الماضي أربعة مسؤولين في معبر ربيعة – اليعربية بمن فيهم مدير المعبر بتسهيل عملية تهريب 1500 خزان نفط. ويقول تحقيق نشره موقع اسمه “تقرير النفط العراقي”، إن إقليم كردستان بات “سوقا رئيسا للنفط الخام السوري ومزودا للوقود المكرر”.
ترى دراسة مركز كارنيغي عن أكثر المناطق الحدودية اضطرابا في منطقة الشرق الأوسط أن التطورات المستقبلية في سنجار وشمال شرق سوريا ستؤثر في بعضهما البعض وسترسم معالم ديناميكيات الحدود العراقية – السورية.
وتشير الدراسة إلى أن هذا السيناريو يمكن أن يحدث في حال تمكنت الحكومة العراقية من إحكام سيطرتها على أقضيتها الحدودية، واستطاع الحزب الديمقراطي الكردستاني استعادة بعض نفوذه السابق.
عملية التفكك التي عانت منها سوريا والعراق خلال السنوات الماضية ساهمت في سيطرة مجموعة متنوعة من الفصائل الكردية على أجزاء واسعة من الحدود في الدولتين
لكنها توضح أنه في حال فشلت الحكومة العراقية والحزب الديمقراطي في إعادة بسط سيطرتهما على هذا الجزء من الحدود سيسمح ذلك لحزب العمال الكردستاني بانتهاز الفرصة للحفاظ على نفوذه، حيث يرجح ذلك في حال تصاعدت وتيرة المواجهة مع تركيا وتحولت إلى لعبة غالب ومغلوب، ما سيقرب قوات سوريا الديمقراطية من حزب العمال الكردستاني.
ويرى الباحثان أن “عملية إعادة تشكيل المشهد في تلك المنطقة ستتأثر بالأدوار والتنافسات والتسويات بين الجهات الفاعلة الدولية والإقليمية الرئيسة في كل من العراق وسوريا، ولاسيما تركيا وإيران والولايات المتحدة وروسيا”، ويشيران إلى أن تحقيق التغيير الجيوسياسي واسع النطاق سيستغرق وقتا طويلا وسيتطلب معادلات معقدة.
العرب