يتوقع المعنيون بالسياسة الأوروبية أن تؤثر النجاحات الانتخابية العامة أو الحزبية، التي حققها اليسار الراديكالي، أو اليسار الأوروبي الجديد، كما يصفه البعض، بصورة ملموسة على المنازلات الفكرية والسياسية التي تشهدها القارة، فحتى عودة حزب سيريزا اليساري إلى الحكم بعد الانتخابات اليونانية، وصعود كوربين وفريقه إلى زعامة حزب العمال البريطاني، وتنامي قوة حزب بوديموس في إسبانيا، فضلاً عن نجاحات متفرقة هنا وهناك لليسار الجديد الصاعد، بدت أحزاب اليسار الأوروبي التقليدي، وكأنها تنأى عن بعض الموضوعات الحساسة، فقضايا السياسة الخارجية كانت موضع اهتمام محدود ومقنن في برامج الأحزاب اليسارية.
تبدو هذه الظاهرة واضحة في «المانيفستو» الانتخابي الصادر عن «حزب الاشتراكيين الأوروبيين»، ويضم هذا الحزب سائر الأحزاب الاشتراكية العاملة في دول الاتحاد الأوروبي، هذا فضلاً عن أحزاب ديمقراطية حليفة للاشتراكيين الأوروبيين، ما يضفي على «المانفيستو» الصادر خلال ربيع العام الفائت أهميته كوثيقة تعبر عن آراء أحزاب يسار الوسط الأوروبية، فالملاحظ أن «المانفيستو» يعدد لعشر قضايا تستأثر باهتمام اليسار الأوروبي، وبين هذه القضايا تتطرق تسع منها، بشيء من التفصيل، إلى مواقف ومقترحات ومشاريع اليسار على صعيد الحوكمة الاقتصادية والاجتماعية في الاتحاد الأوروبي، ما عدا ذلك، فإن «المانيفستو» يخصص بنداً واحداً فقط لقضية العلاقات البينية لدول الاتحاد وعلاقاته الخارجية.
ويأتي هذا البند – وهذا مؤشر إضافي إلى محدودية اهتمام الاشتراكيين الأوروبيين بالعلاقات الدولية والقارية، كآخر بند من البنود العشرة.
فضلاً عن ذلك فإن موقف الاشتراكيين الأوروبيين يبدو وكأنه مستنسخ من كتابات أحزاب يمين الوسط الأوروبية، فالهدف الرئيسي ل«المانيفستو» هو «تعزيز النفوذ الأوروبي في العالم»، وحتى يتحقق هذا الهدف، فمن الضروري أن تصبح أوروبا «قوة عالمية»؛ لماذا؟، لأن هذه القوة سوف تسمح لأوروبا أن تدعم «السلام والديمقراطية والرفاهية عبر العالم»، تأكيداً لهذه النوايا، يتعهد «المانفيستو»، بمحاربة التفاوت الكبير في الثروة والقوة بين الدول، والفقر المنتشر في دول كثيرة في العالم.
على الرغم من أهمية هذه التعهدات، فإنها تفتقر إلى الإيضاحات الأولية حول مغزى قوة أوروبا العالمية ودورها الدولي، فأوروبا ليست طارئاً جديداً على السياسة الدولية، وليست تجمعاً لعدد محدود من الدول الصغيرة، ومن هنا فإنه من المهم أن يشرح الاشتراكيون الأوروبيون للعالم كيف يعتزمون استخدام قوة أوروبا، إذا وصلوا إلى الحكم؟ وما الضمانات ضد ظهور (غي موليه) أوروبي اشتراكي جديد في المستقبل عندما تمتلك أوروبا القوة التي يتطلع الاشتراكيون الأوروبيون إلى امتلاكها؟
سعى اليسار الأوروبي إلى تقديم إجابات عن هذه الأسئلة، وعلى أسئلة عديدة مشابهة تتصل بالعلاقات الدولية، بحيث انقسم أصحاب هذه المساعي إلى ثلاثة تيارات رئيسية، كما يقول ريتشارد دانفي، في كتابه «في تفنيد الرأسمالية: أحزاب اليسار والتكتل الإقليمي الأوروبي».
التيار الأول الذي برز مع قيام السوق الأوروبية المشتركة بحيث اعتبر المنتمون إليه أن السوق الأوروبية المشتركة، ومن بعدها الاتحاد الأوروبي، هي مجرد أداة للهيمنة الأمريكية أو الألمانية، وكوسيلة للاستغلال الرأسمالي، إما التيار الثاني، فبرز بعد سنوات من تأسيس السوق ليس بقصد نقض رأي التيار الأول فيها، ولكن للوصول إلى استنتاجات عملية مخالفة للاستنتاجات التي توصل إليها ذلك التيار.
ففي حين اعتبر التيار الأول أنه من الواجب محاربة المشروع الأوروبي، ارتأى التيار الثاني أن هذا الموقف لم يعد مجدياً، بعد أن تكرست السوق وحققت نجاحات ملموسة، استطراداً دعا هذا التيار إلى تغيير الاتحاد لنقله من أداة للاستغلال الرأسمالي إلى وسيلة من أجل إقامة مجتمع المساواة.
خلافاً للتيار الثاني الذي ظهر وكأنه يطرح مطالب تعجيزية على القيمين على المشروع الأوروبي، فإن التيار الثالث، كان أقل تشكيكاً بذلك المشروع، وأكثر اقتناعاً بإمكانية إصلاح مؤسساته، واندفع المنتمون إلى هذا التيار في حماسهم للمشروع الأوروبي إلى درجة أن بعضهم بدا وكأنه يضع هذا المشروع في مقدمة أولوياته بحيث لم يعد يختلف كثيراً عن «الفيدراليين الأوروبيين» الذين يعملون من أجل إقامة دولة اتحادية أوروبية على نسق الولايات المتحدة.
إلى جانب هذه التيارات الثلاثة، من المستطاع إضافة تيار آخر تمثل بأولئك الذين كانوا ضد السوق، ولكنهم عملوا على تعطيل فاعليتها من الداخل، ولعل توني بلير هو أبرز ممثلي هذا التيار، وعبر بلير والبليريون عن معارضتهم المضمرة للاتحاد من خلال موقفين: الأول، هو الحماس الذي أبداه بلير من أجل توسيع الاتحاد، ولقد بدا هذا الموقف وكأنه من قبيل التعاطف مع المشروع الأوروبي، ولكنه كان في الحقيقة بقصد إضعافه، إذ إن توسيع التكتل الإقليمي يتم على حساب تعميقه، إذا تم الانضمام بالجملة، وفي وقت قصير، وهذا ما حدث تماماً بعد انضمام دول أوروبا الشرقية إلى الاتحاد.
ولعل ما يسلط المزيد من الأنظار على أن بلير كان يسعى إلى النيل من تماسك الاتحاد، وليس تعزيز قوته، هو أنه من المؤيدين بقوة لانضمام تركيا إلى الاتحاد، ليس حباً بتركيا ولا بالاتحاد، ولكن من أجل إضعاف الاتحاد الأوروبي.
الموقف الثاني الذي يبين الموقف الحقيقي لبلير وللبليريين تجاه الاتحاد هو موقفهم تجاه موضوع «التبعية» subsidiarity التي تقول إنه من المفروض أن تمتنع الإدارات المركزية عن تنفيذ المشاريع التي يمكن للإدارات المحلية القيام بها، فالبليريون هم الذين سعوا إلى تطبيق هذا المفهوم داخل الاتحاد الأوروبي، وذلك بقصد إضعاف وجود سلطات الاتحاد بين مواطنيه وإلى جانبهم في تنفيذ المشاريع.
إن غموض موقف أحزاب اليمين الوسط تجاه القضايا الدولية والإقليمية والنظرة إلى دول الجوار المتوسطي ليس غريباً، إذ إن هذه الأحزاب نفذت سياسات تعارضت مع مصالح الشعوب غير الأوروبية، لكن المفروض أن تضطلع أحزاب اليسار بتصحيح هذا الخطأ، حتى ولو كانت خارج الحكم، ومارست النقد من المنابر البرلمانية.
وتستطيع هذه الأحزاب أن تقوم بدور إيجابي في المرحلة الجديدة عبر إعطاء السياسة الخارجية المزيد من الاهتمام وإرسائها على أسس سليمة في تقارب دول الاتحاد والدول الأخرى، خاصة المجاورة للقارة الأوروبية، والتي ترتبط معها بتاريخ مشترك.
تبدو هذه الظاهرة واضحة في «المانيفستو» الانتخابي الصادر عن «حزب الاشتراكيين الأوروبيين»، ويضم هذا الحزب سائر الأحزاب الاشتراكية العاملة في دول الاتحاد الأوروبي، هذا فضلاً عن أحزاب ديمقراطية حليفة للاشتراكيين الأوروبيين، ما يضفي على «المانفيستو» الصادر خلال ربيع العام الفائت أهميته كوثيقة تعبر عن آراء أحزاب يسار الوسط الأوروبية، فالملاحظ أن «المانفيستو» يعدد لعشر قضايا تستأثر باهتمام اليسار الأوروبي، وبين هذه القضايا تتطرق تسع منها، بشيء من التفصيل، إلى مواقف ومقترحات ومشاريع اليسار على صعيد الحوكمة الاقتصادية والاجتماعية في الاتحاد الأوروبي، ما عدا ذلك، فإن «المانيفستو» يخصص بنداً واحداً فقط لقضية العلاقات البينية لدول الاتحاد وعلاقاته الخارجية.
ويأتي هذا البند – وهذا مؤشر إضافي إلى محدودية اهتمام الاشتراكيين الأوروبيين بالعلاقات الدولية والقارية، كآخر بند من البنود العشرة.
فضلاً عن ذلك فإن موقف الاشتراكيين الأوروبيين يبدو وكأنه مستنسخ من كتابات أحزاب يمين الوسط الأوروبية، فالهدف الرئيسي ل«المانيفستو» هو «تعزيز النفوذ الأوروبي في العالم»، وحتى يتحقق هذا الهدف، فمن الضروري أن تصبح أوروبا «قوة عالمية»؛ لماذا؟، لأن هذه القوة سوف تسمح لأوروبا أن تدعم «السلام والديمقراطية والرفاهية عبر العالم»، تأكيداً لهذه النوايا، يتعهد «المانفيستو»، بمحاربة التفاوت الكبير في الثروة والقوة بين الدول، والفقر المنتشر في دول كثيرة في العالم.
على الرغم من أهمية هذه التعهدات، فإنها تفتقر إلى الإيضاحات الأولية حول مغزى قوة أوروبا العالمية ودورها الدولي، فأوروبا ليست طارئاً جديداً على السياسة الدولية، وليست تجمعاً لعدد محدود من الدول الصغيرة، ومن هنا فإنه من المهم أن يشرح الاشتراكيون الأوروبيون للعالم كيف يعتزمون استخدام قوة أوروبا، إذا وصلوا إلى الحكم؟ وما الضمانات ضد ظهور (غي موليه) أوروبي اشتراكي جديد في المستقبل عندما تمتلك أوروبا القوة التي يتطلع الاشتراكيون الأوروبيون إلى امتلاكها؟
سعى اليسار الأوروبي إلى تقديم إجابات عن هذه الأسئلة، وعلى أسئلة عديدة مشابهة تتصل بالعلاقات الدولية، بحيث انقسم أصحاب هذه المساعي إلى ثلاثة تيارات رئيسية، كما يقول ريتشارد دانفي، في كتابه «في تفنيد الرأسمالية: أحزاب اليسار والتكتل الإقليمي الأوروبي».
التيار الأول الذي برز مع قيام السوق الأوروبية المشتركة بحيث اعتبر المنتمون إليه أن السوق الأوروبية المشتركة، ومن بعدها الاتحاد الأوروبي، هي مجرد أداة للهيمنة الأمريكية أو الألمانية، وكوسيلة للاستغلال الرأسمالي، إما التيار الثاني، فبرز بعد سنوات من تأسيس السوق ليس بقصد نقض رأي التيار الأول فيها، ولكن للوصول إلى استنتاجات عملية مخالفة للاستنتاجات التي توصل إليها ذلك التيار.
ففي حين اعتبر التيار الأول أنه من الواجب محاربة المشروع الأوروبي، ارتأى التيار الثاني أن هذا الموقف لم يعد مجدياً، بعد أن تكرست السوق وحققت نجاحات ملموسة، استطراداً دعا هذا التيار إلى تغيير الاتحاد لنقله من أداة للاستغلال الرأسمالي إلى وسيلة من أجل إقامة مجتمع المساواة.
خلافاً للتيار الثاني الذي ظهر وكأنه يطرح مطالب تعجيزية على القيمين على المشروع الأوروبي، فإن التيار الثالث، كان أقل تشكيكاً بذلك المشروع، وأكثر اقتناعاً بإمكانية إصلاح مؤسساته، واندفع المنتمون إلى هذا التيار في حماسهم للمشروع الأوروبي إلى درجة أن بعضهم بدا وكأنه يضع هذا المشروع في مقدمة أولوياته بحيث لم يعد يختلف كثيراً عن «الفيدراليين الأوروبيين» الذين يعملون من أجل إقامة دولة اتحادية أوروبية على نسق الولايات المتحدة.
إلى جانب هذه التيارات الثلاثة، من المستطاع إضافة تيار آخر تمثل بأولئك الذين كانوا ضد السوق، ولكنهم عملوا على تعطيل فاعليتها من الداخل، ولعل توني بلير هو أبرز ممثلي هذا التيار، وعبر بلير والبليريون عن معارضتهم المضمرة للاتحاد من خلال موقفين: الأول، هو الحماس الذي أبداه بلير من أجل توسيع الاتحاد، ولقد بدا هذا الموقف وكأنه من قبيل التعاطف مع المشروع الأوروبي، ولكنه كان في الحقيقة بقصد إضعافه، إذ إن توسيع التكتل الإقليمي يتم على حساب تعميقه، إذا تم الانضمام بالجملة، وفي وقت قصير، وهذا ما حدث تماماً بعد انضمام دول أوروبا الشرقية إلى الاتحاد.
ولعل ما يسلط المزيد من الأنظار على أن بلير كان يسعى إلى النيل من تماسك الاتحاد، وليس تعزيز قوته، هو أنه من المؤيدين بقوة لانضمام تركيا إلى الاتحاد، ليس حباً بتركيا ولا بالاتحاد، ولكن من أجل إضعاف الاتحاد الأوروبي.
الموقف الثاني الذي يبين الموقف الحقيقي لبلير وللبليريين تجاه الاتحاد هو موقفهم تجاه موضوع «التبعية» subsidiarity التي تقول إنه من المفروض أن تمتنع الإدارات المركزية عن تنفيذ المشاريع التي يمكن للإدارات المحلية القيام بها، فالبليريون هم الذين سعوا إلى تطبيق هذا المفهوم داخل الاتحاد الأوروبي، وذلك بقصد إضعاف وجود سلطات الاتحاد بين مواطنيه وإلى جانبهم في تنفيذ المشاريع.
إن غموض موقف أحزاب اليمين الوسط تجاه القضايا الدولية والإقليمية والنظرة إلى دول الجوار المتوسطي ليس غريباً، إذ إن هذه الأحزاب نفذت سياسات تعارضت مع مصالح الشعوب غير الأوروبية، لكن المفروض أن تضطلع أحزاب اليسار بتصحيح هذا الخطأ، حتى ولو كانت خارج الحكم، ومارست النقد من المنابر البرلمانية.
وتستطيع هذه الأحزاب أن تقوم بدور إيجابي في المرحلة الجديدة عبر إعطاء السياسة الخارجية المزيد من الاهتمام وإرسائها على أسس سليمة في تقارب دول الاتحاد والدول الأخرى، خاصة المجاورة للقارة الأوروبية، والتي ترتبط معها بتاريخ مشترك.
رغيد الصلح
صحيفة الخليج