القومية العربية الراديكالية والإسلام السياسي.. صراع دائم

القومية العربية الراديكالية والإسلام السياسي.. صراع دائم

هل ساهم فشل “القومية العربية الراديكالية في مد التيارات الإسلامية بالشعبية والرواج”، أسئلة كثيرة تبحث عن إجابات في ظل حالة الصراع الدائمة بين القوميين والإسلاميين في العالم العربي، والتي استمرت منذ عقود ومازالت تتفاقم يوما بعد آخر.

يركز الباحث الجزائري الأستاذ بمعهد الدراسات السياسية في جامعة ليون د.هواري عدي في كتابه “القومية العربية الراديكالية والإسلام السياسي” على أيديولوجيتين تشكلان، في الآن نفسه، توأما وخصمين: القومية العربية الراديكالية، والتيارات الإسلامية، وكلاهما بدأ بثورات شعبية بقصد تغيير الأوضاع القائمة.

ويبيّن مدى رسوخ هاتين الأيديولوجيتين في تاريخ وثقافة المجتمعات العربية المتطلعة إلى الحداثة، بكلّ ما تحمله تلك المجتمعات من إحباط وتطلعات متناقضة.

ويلفت الباحث الجزائري وأستاذ علم الاجتماع إلى أن “العالم العربي مثقل بماض ديني غني؛ لذا لا بدّ له من مواجهة مسألة العلمنة الشائكة، التي كانت القومية قد فكّرت في تطويقها من خلال تنمية اقتصادية تُوجهها دولة مختزلة إلى مجرد هيكل إداري. أما موقف التيار الإسلامي فتمثل في محاولة أسلمة العلمنة”، مؤكدا أنَّ فصل الدين عن الدولة بدعة، غير أنه لم يقدّم أيّ خطة للحكم. شعبيته مردّها الضعف والفشل التدريجيان للقومية الراديكالية منذ أواخر ستينات القرن الماضي.

ويقول هواري في كتابه الذي ترجمه الجزائري د.خميسي بوغرارة والصادر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود إن “القومية العربية الراديكالية حقّقت بعض الانتصارات منذ أن هيمنت على مصر والعراق والجزائر وسوريا واليمن وليبيا في خمسينات وستينات القرن الماضي، لكن مصداقيتها تصدعت بفعل الهزيمة العسكرية التي ألحقتها بها إسرائيل في يونيو 1967”.

ويضيف أنه “منذ ذلك الحين بدأ التيار الإسلامي يتحدى القومية الراديكالية، ويُنافسها بشكل مباشر، مدعيا أنه وريثها وخصمها في الوقت نفسه. إن سقوط نظام حسني مبارك في مصر سنة 2011، وانهيار نظام معمر القذافي في ليبيا في السنة نفسها، والدمار الجاري في سوريا حاليا، كلّها أحداث تشكل تجليات لمدى تآكل شرعية الأنظمة التي كانت تَعِدُ بالعصرنة الاقتصادية والتحرر الاجتماعي”.

ويوضح أنه “لفهم سبب تحول القومية الراديكالية من الانتصار إلى الفشل في غضون عشريات معدودة، لا بدّ من دراسة بداياتها، وبشكل عام الرجوع إلى الأصول التاريخية للدول العربية التي تبنّت النظام الملكي والجمهوري بحسب ظروفها التاريخية الخاصة. لقد أدى انهيار الإمبراطورية العثمانية إلى تشكيل نواة نزعة قومية، أدّت بدورها إلى نشأة أنظمة ملكية محافظة تحت العناية السامية للقوى الأوروبية مقابل مساندة هذه الأخيرة للسياسات المناهضة للعثمانيين”.

ويؤكد أنه “لم تكن النخب الحضرية السورية واللبنانية، في بداية الأمر، مناوئة للملَكية نظاما سياسيّا في ‘الدولة العربية’، التي كانت تلك النخب تصبو إلى بنائها؛ حيث ساندت ‘الثورة العربية’ التي قادها الشريف حسين أملا في أن تتمخّض عن دولة واحدة موحدة تشمل أرض الهلال الخصيب”.

ويتابع “غير أنَّ الأطماع الاستعمارية البريطانية والفرنسية بدّدت هذا الحلم، واغتالته السلالات الجديدة التي حكمت العراق والأردن؛ فقد تأسست هذه المملكات، بالإضافة إلى المملكة العربية السعودية، خلال عشرينات وثلاثينات القرن الماضي، وشُكّلت لمساندة الأوروبيين في صراعهم ضد الإمبراطورية العثمانية. ولأسباب تتعلق بطبيعتها المحافظة، وتحالفها مع القوى الاستعمارية، التي وفرت لها الحماية، كانت هذه المملكات بمنزلة خيبة أمل في نظر القوميين، الذين اقترضوا مبادئهم ومناهجهم من الأيديولوجيات الليبرالية الأوروبية”.

ويرى هواري أنَّ هذا المنشأ التاريخي له أهمية بالغة إذا أردنا فهم التطورات اللاحقة في العالم العربي، الذي تجاوب بأشكال مختلفة مع القوى الأوروبية الكاسحة في القرنين التاسع عشر والعشرين؛ فبينما اكتفت الأنظمة الملَكية بضمان وجود دول عربية مستقلّة ظاهريا، راح القوميون يعبرون عن رغبتهم في إصلاح المجتمع واللحاق بركب الغرب، حتى أنهم تبنّوا قيما ليبرالية قبل أن يعزفوا عنها لاحقا في تحديهم لأوروبا.

ويقول إن “للقومية العربية تاريخها الخاص؛ إذ تعود منابعها الأولى إلى ردّة الفعل تجاه حملة بونابرت على مصر سنة 1798، التي شكّلت صدمة للعديد من أفراد النخبة، الذين اضطروا إلى الاعتراف بمدى تقدّم أوروبا في المجالات العسكرية والاقتصادية والعلمية. فبدأت الأفكار الليبرالية تتسلل إلى العالم العربي بشكل تدريجي، وأحيانا متناقض، إلى أن تضافرت في النصف الثاني من القرن الماضي مع رفض عام للإمبراطورية العثمانية، وتحوّلت بعد ذلك إلى مناهضة علنية للقوى الأوروبية بعد معاهدة سايكس – بيكو سنة 1916”.

ويرى أن “مقاومة الهيمنة الاستعمارية أدت إلى تأسيس جمهوريات مناهضة للغرب سياسيا، ومن عجيب المفارقات أنَّ هذه الجمهوريات كانت، من حيث الأيديولوجيا، أقرب إلى الغرب من الأنظمة الملكية المحافظة، التي كانت أقرب إلى النمط الملكي المطلق الذي ساد في أوروبا قبيل الثورات”.

ويؤكد أنه “من وجهة النظر السابقة، فإن النخب الجمهورية معظمها من العسكر، الوريث البعيد للتوجه الليبرالي الذي ظهر في أواخر القرن التاسع عشر، وأصبحت راديكالية جرّاء استعارة لغتها الأيديولوجية من الحركة المثالية الألمانية، وخطابها الاشتراكي العربي من الماركسية الثورية. وكان كلٌّ من جمال عبدالناصر، وهواري بومدين، وحافظ الأسد، أقرب إلى النموذج البروسي أو السوفييتي منهم إلى نموذج الخلافة”.

ويشير إلى تبني العالم العربي نظامين في تأسيس الدولة نتيجة احتكاكه بالغرب: أحدهما استند إلى التقاليد ممثَّلة في النظام الملكي، الذي تناغمت مصالحه السياسية مع مصالح القوى الغربية؛ أمّا النظام الثاني، فكان مصرّا على طبيعته الجمهورية، وعلى رغبته في وضع حدّ للهيمنة الأجنبية في المنطقة.

ويعتبر أن الشرخ بين هذين المشروعين المتنافسين أبقى على توترات كبيرة في ستينات وسبعينات القرن الماضي، حيث “أسفر عن صراع مرّ بين مصر والمملكة العربية السعودية حول اليمن؛ وبين الجزائر والمغرب حول الصحراء، وبين العراق والكويت”، ولم تهدأ الأوضاع إلا بعد أن ضعفت مختلف الأنظمة الجمهورية، التي كفت عن إدانة الأنظمة الملكية بعد نكسة 1967 التي ألحقتها بها إسرائيل؛ بل إن المملكات طُلِبَ منها مدّها بالمساعدة المالية لإعادة بناء الجيشين المصري والسوري، وذلك عندما عقد قادة دول المنطقة قمة في الخرطوم سنة 1968، وبمجرد أن تخلى قادة العسكر الثوريون عن مشروع الوطن العربي الكبير زاد إحساس المملكات بالأمن، وهو الإحساس الذي تعزّز أكثر عندما مالت مصر أيضا تجاه المعسكر الغربي بعد وفاة جمال عبدالناصر.

ويقول إن “رفض أنور السادات، خليفة جمال عبدالناصر، خطاب العروبة وفتح الاقتصاد المصري أمام رؤوس الأموال الخاصة المتدفّقة من المملكة العربية السعودية ودول الخليج ومن الغرب كان بمنزلة إعلان فشل القومية العربية الراديكالية. ومنذ بداية السبعينات فصاعدا عارض التيار الإسلامي، هذا الوضع. وإذا كانت شعبية التيار الإسلامي قد تعززت في كلٍّ من مصر والجزائر منذ وفاة جمال عبدالناصر وهواري بومدين، فإن ذلك راجع إلى أنهم قد اتهموا خُلفاءهما بإغناء أقلية من خلال توقيع اتفاقيات مع صندوق النقد الدولي، وأضافوا إدانة مصر بسبب توقيعها معاهدة السلام مع إسرائيل، التي كلفت الرئيس أنور السادات حياته”.

ويشدد هواري على أن نشأة القومية العربية الراديكالية ردّةَ فعل على الهيمنة الأوروبية، وتمكّنت من استمالة شرائح عديدة من المجتمع إلى هدفها المتمثّل في بناء أمم مستقلّة عصرية تتمتع بالاحترام الدولي، وقطعت وعودا جازمة بأنها ستنهي الهوة الاقتصادية والعلمية والعسكرية القائمة بين المجتمعات العربية والغرب لتحسين الظروف الاجتماعية “الشغل، الإسكان، التعليم، الصحة، وغيرها”، التي تعيشها الفئات الأكثر فقرا في المجتمع. ولكنْ إضافة إلى عدم تحقّق هذا الحلم، أصبحت القومية العربية الراديكالية عائقا في طريق السلم المدني والتماسك الوطني، كما يبدو ذلك جليا في الوضع المأساوي في سوريا؛ حيث تمثل الأوضاع الاجتماعية والسياسية، في مصر والجزائر وسوريا، هذه الأنظمة التي ألهمت آمالا عريضة من قبل.

ويؤكد أن القومية العربية الراديكالية فشلت لسببين: السبب الأول هو أن الجيش عسكر الأهداف السياسية للقومية، فعندما تولى الضباط الحكم حالوا دون نشأة المجتمع المدني المعبّر عن الحداثة السياسية والشرط الضروري لتحقيق سيادة القانون. وهذا التعطّش العسكري للسلطة رجع بالبلدان العربية إلى ثقافة سياسية إقطاعية، كتلك التي سادت عند المماليك أو الإنكشاريين في التقاليد العثمانية؛ فأساس الدولة العصرية يتمثّل في الاقتصاد والقانون وليس في الجيش.

أما السبب الثاني حسب هواري فهو فشل القومية العربية؛ حيث لم تدرك هذه الأخيرة الخصوصية الفكرية لتقدم أوروبا، التي تحولت، خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، عن ميتافيزيقا القرون الوسطى، التي مازالت سائدة في الثقافة العربية وقاداتها؛ فمنذ العشرينات حتى الأربعينات لم يُعر القادة والمفكّرون العرب، مثل: ساطع الحصري وميشيل عفلق وشكيب أرسلان ومصالي الحاج، التقدّمَ الفكريَّ، الذي حقّقه الغرب في ما يتعلّق بالحريات الفردية، الاهتمامَ الكبير، بل استحوذ على اهتمامهم المستقبلُ السياسي للمجموعة التي ستتحرّر من الهيمنة الأجنبية.

ويقول إن “الدولة العربية بُنيت على تجاهل الحقوق المدنية والحريات الفردية؛ إذ لا يتقبّل الجيش فكرة أن قوة الدولة، أوّلا وقبل كلّ شيء، قوة فكرية، وهو الذي يعتقد أن مستقبل الأمم تحققه الأسلحة. والحقّ أنه لم يُنظر إلى الغرب بوصفه تجربة خاصة في دورة التاريخ البشري؛ بل فضاء ظهرت فيه العلوم بمحض المصادفة، لتعطي الأوروبيين أفضلية على غيرهم. إن البلورة الاختزالية لفرق جذري بين نحن وهم تبيّن أنّ القومية العربية الراديكالية تعمل خارج الوعي التاريخي مثل الإسلاموية تماما، فهما تتقاسمان التصوّر الثقافي نفسه”.

ويضيف أن “فشل القومية العربية الراديكالية هو الذي أمدّ الإسلاموية بالشعبية والرواج، فإذا عسكرت القوميةُ الراديكالية السياسةَ، فإن الإسلاميين سيّسوا الدين لنزع الشرعية عن خصومهم. وإذ يفعلون ذلك، فهم يرتكبون الخطأ نفسه، وهو تجاهل الأسس السياسية والثقافية للحضارة الغربية، التي أصبحت في اعتقادهم أحادية البعد: الهيمنة الإمبريالية. ولكن إرادة السلطة والهيمنة ليست حكرا على الغرب؛ بل هي خاصية من خصائص الطبيعة البشرية”.

ويخلص هواري أن “شيطنة الغرب تحجب مساهمة هذا الأخير في الحضارة العالمية، ولاسيما في المجال السياسي. إن المجتمع المدني والعدالة الاجتماعية وحرية الفكر والحقوق المدنية، كلّها مساهمات أوروبية تثري الإنسانية. وعلى الرغم من أنّ الغرب كان مسرحا للحربين العالميتين القاتلتين، واستعمل السلاح للهيمنة على مستعمراته واستغلالها، فإن ذلك ليس مبررا للنظر إلى الغرب وكأنّه أحادي البعد. إن الغربيين، شأنهم شأن غيرهم، خيّرون وشريرون في الآن نفسه، والشرّ الجذري لا هو أوروبي ولا هو عربي، بل هو سمة من سمات الطبيعة البشرية”.

ويدعو الباحث الجزائري إلى ضرورة “فهم الفوضوية واختلال النظام العالمي من خلال عدسة الطبيعة العدائية للبشر، ولذلك فإن النظام القانوني ضروري لإقامة مجتمع سلمي على المستوى الوطني، أو الدولي. ويتمثل هدف القرن الحادي والعشرين في إقامة نظام قانوني عالمي على أساس المواطنة العالمية؛ فالفرد له هويتان: واحدة مرتبطة بأصوله الثقافية، والأخرى بقيمته بوصفه إنسانا له حقوق طبيعية وعالمية. إن القراءة القروسطية للإسلام، التي يدافع عنها العلماء والإسلاميون، تقف ضد انتماء المسلمين إلى المواطنة الكونية بحقوقهم الطبيعية والعالمية”.

العرب