حقّقت روسيا اختراقات في صراعها مع القوى الغربية حول أوكرانيا، وها هي بصدد تحقيق اختراقات مماثلة في سورية، بعد بداية قصفها الجوي مواقع داعش فيها. كان المشهد في سورية واضحاً بعض الشيء: روسيا تدعم النظام، لكنها غير مستعدة للتدخل المباشر لإنقاذه. وبالتالي، عملت على مساعدته في وجه معارضيه في الداخل، وعلى حمايته من أي تدخل خارجي (غربي). أما الدول الغربية الكبرى فتدعم القوى المناوئة لنظام الأسد، وتساعدها مالياً وعسكرياً، حتى تربح المعركة وتتخلص منه، لكنها غير مستعدة، هي الأخرى، للتدخل مباشرة في الصراع لإسقاط نظام الأسد، بالنظر إلى ما آلت إليه الأمور في العراق وليبيا، بعد التدخل العسكري الغربي فيهما، فضلاً عن ثقل سورية وموقعها الجغرافي (لاسيما حدودها مع إسرائيل). هكذا تحولت الثورة في سورية إلى حرب مسلحة، حَوَّلت بدورها البلاد إلى ساحةٍ لعبث الصغار من الدول الإقليمية والكبار من القوى الدولية. وتشهد سورية حالياً صراعاً بالنيابة بين روسيا والغرب، تقوم به الأطراف السورية المتناحرة.
هكذا كان المشهد المعقد يبدو بسيطاً للفهم، إلا أن دخول التنظيمات الجهادية على الخط، مثل جبهة النصرة (المنضوية تحت لواء القاعدة)، وخصوصاً داعش، أفسد المشهد وزاده تعقيداً وغيَّر من المعادلة السائدة: الصراع بين الخير والشر (كل طرف يقول إنه يجسد هو وحلفاؤه الخير، فيما يجسد الطرف الآخر وحلفاؤه الشر. هذا فحوى خطاب الغرب وروسيا). لكن، بقدر ما عكر داعش أجواء الصراع، وعقّد الأمور للأطراف السورية والدولية المتصارعة، بقدر ما منح للأخيرة فرصة التدخل من دون أي إشكالية وأي إدانة. فمن يتجرأ أخلاقياً، أو سياسياً، على إدانة التدخل ضد الإرهاب والجماعات الإرهابية؟ ومن يفعل سيُتهم بتمجيد الإرهاب، وقد يُلاحق قضائياً. فإذا كان هناك دين عالمي، اليوم، لا تُضاهى قداسته، فهو دين مكافحة الإرهاب (مع العلم أن مضامين الإرهاب محل خلاف).
هكذا بدأت القوى الغربية في التدخل في العراق، وجزئياً في سورية ضد داعش، مؤكدة أنها لا تريد تدعيم النظام
الأسد، وإنما محاربة الإرهاب، لكنها عملياً تعمل على إسقاطه، إذ تتدخل ضده بطريقة غير مباشرة، وبكل شرعية، حسب “شرائع” مكافحة الإرهاب. فمن المعلوم أن داعش تقاتل الفصائل السورية المعارضة (لاسيما الجيش الحر أو ما تبقى منه) والتنظيمات الجهادية الأخرى التي ترفض الانضواء تحت رايتها أكثر مما تقاتل الجيش النظامي، وإن كان التنظيم قد أحرز تقدماً جغرافياً، في الأشهر والأسابيع الأخيرة، على حساب القوات النظامية، لاسيما في تدمر وما جاورها. ومن ثم فضرب داعش يعيد رسم خريطة المعارك في سورية، بشكل يسمح للقوى المعارضة للنظام بالقتال على جبهة واحدة بدل جبهتين. إذن، ضرب داعش لا يخدم النظام، وإنما يضر به. بيد أنه إذا كان نظام الأسد لا يستفيد بالضرورة عسكرياً من قصف داعش، فإنه يستفيد منه رمزياً، لأنه يقول هو الآخر بمكافحة الإرهاب. وبما أن الضربات الجوية لن تأتي أكلها من دون تدخل بري، فهو يراهن على شرخٍ في الإجماع السياسي في الدول الغربية، خصوصاً أن الأصوات تتعالى، في الأخيرة، منادية بضرورة التعامل مع النظام، للتخلص من داعش.
أما روسيا فتتكلم، هي الأخرى، اللغة الدينية نفسها، فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب. لذا، تعيد ترتيب أوراقها في سورية عبر بوابة مكافحة الإرهاب وداعش تحديداً، متبنية الخطاب الغربي نفسه: علينا ضرب إرهاب داعش في سورية، قبل أن يصل إلى بلداننا. فقررت التدخل الجوي، هي الأخرى، ضد هذا التنظيم. ومباشرةً، بعد أول ضرباتها الجوية في سورية، تحرك الغرب مشككاً في هوية أهداف ضرباتها. وتتفق القوى الغربية والحلف الأطلسي على أن القصف الروسي استهدف مناطق لا يوجد فيها تنظيم داعش. مجرد هذا التشكيك، بغض النظر.
عن
صحته أو عدمها، دلالة على حدة الصراع الدائر في سورية بين روسيا والغرب. وهذا يعني أن القوى الغربية تعرف بالتحديد مواقع داعش في سورية. وفي هذه الحالة، لماذا لم تقصفها وتتخلص منها، خصوصاً أن طائراتها العسكرية تقصف التنظيم منذ أشهر، مدعمة، منذ حوالي أسبوعين، بطائرات فرنسية؟ يقود التشكيك في القصف الروسي، عملياً، إلى التشكيك في القصف الغربي: إذا كانت القوى الغربية حددت مواقع التنظيم، لماذا لم تدمرها، خصوصاً أن هذا كان سيعفيها من القصف الروسي وتداعياته؟ أم أن التشكيك مجرد مناورة سياسية، للتأكيد على أن التدخل الجوي الروسي جاء لدعم النظام، لا لمقاتلة داعش (حتى وإن قاتلت روسيا التنظيم)… هكذا توظف داعش، بغض النظر عن خطورتها، أيضاً لخدمة مآرب سياسية واضحة: دعم القوى المعارضة بالنسبة للقوى الغربية، ودعم النظام بالنسبة لروسيا من دون التدخل المباشر في الحرب، أو بالأحرى التدخل، متفرقات بالضرورة، تحت مسميات/ ذرائع أخرى، مكافحة الإرهاب تحديداً.
يعد التشكيك الغربي في أهداف الضربات الجوية الروسية دلالة، أيضاً، على اعتراف ضمني بأن القصف الغربي مواقع داعش في سورية يصب ضد نظام الأسد. وعليه، هي مقتنعة أن القصف الروسي، مهما كانت أهدافه، سيصب لصالح النظام بشكل أو بآخر (مثلاً قصف مواقع داعش المحاذية لمناطق تحت سيطرة الجيش السوري، أو قصف وحدات التنظيم التي تتقدم على حسابه).
قد يكون أيضاً مرد هذا التشكيك تفاجؤ القوى الغربية بدخول روسيا خط قتال داعش جواً. أمر يعقد حساباتها ليس فقط من حيث التموقع حيال نظام الأسد، وإنما لمخاطره العسكرية، أي الاشتباك عن خطأ بين المقاتلات الروسية والغربية في المجال الجوي السوري. لذا، سارعت الولايات المتحدة إلى الاتصال بروسيا، للبحث في الأمر، وعقد اجتماعات بين المسؤولين العسكريين للبلدين، لتجنب حدث من هذا النوع. وهنا، تسجل روسيا نقطة إضافية على حساب منافسيها. فبمجرد البدء في ضرباتها الجوية في سورية، تقرّبت القوى الغربية منها، بعد أن عملت على تهميشها واستبعادها، لتعمل على التنسيق معها. هكذا أعاد القصف الروسي، بغض النظر عن أهدافه وفعاليته، تموقع روسيا، وبقوة، في لعبة الصراع الدولي على سورية. والشعب السوري هو الخاسر الأكبر، خصوصاً أن الأطراف الدولية المتصارعة ستسعى إلى التحييد المتبادل، ما يعني إطالة أمد الحرب، وتحول ضرب داعش من هدف إلى وسيلة لإدارة الصراع.