مثّل استخدام ميليشيا الحوثي للطائرات الإيرانية المسيّرة نقلة في الحرب اليمنية، ورغم أنها لم تحدث أضرارا جسيمة وتمكنت القوات السعودية إلى الآن من تدمير العشرات من الطائرات الموجهة نحو أهم المراكز المدنية في المملكة، إلا أن محللين يرون أن هذا النوع من الأسلحة تستخدمه ميليشيا أنصارالله سياسيا أكثر منه عسكريا، إذ يمثل وسيلة ضغط وابتزاز سياسي تستبق أي عملية تسوية محتملة.
عدن – وسّع الحوثيون من دائرة استخداماتهم للطائرات المسيّرة المفخخة لتشمل أهدافا مدنية ومنشآت نفطية سعودية وسفنا تجارية في البحر الأحمر، بعد أن كان استخدام هذه الطائرات بدائية الصنع والتي يعتقد أنها امتداد لمنظومة الطائرات من هذا النوع التي طورتها إيران وعملت على توزيعها على الميليشيات المسلحة التابعة في العراق واليمن.
وفي تطور لافت أعلن التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن الجمعة الماضي عن إحباط هجوم حوثي بطائرة مسيرة كان يستهدف سفينة تجارية سعودية، وحذر التحالف من استمرار الميليشيات المدعومة من إيران في تهديد خطوط الملاحة البحرية العالمية.
وسلّط الهجوم الذي يعتقد أن إيران تقف خلفه على ناقلة النفط الإسرائيلية في بحر العرب عن طريق طائرة مسيرة، الضوء على هذا النوع من الهجمات التي طالت في وقت سابق منشآت نفطية هامة في السعودية وهددت إمدادات النفط العالمية، كما كشف العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني في مقابلة تلفزيونية عن تعرض بلاده لهجمات غير معلنة بهذا النوع من الطائرات المسيرة المفخخة التي تسعى طهران من خلالها لتغيير معادلة القوة العسكرية التقليدية في المنطقة وتحييد الدفاعات الجوية التي طورتها الدول الغربية، عبر نوع جديد من الهجمات يجمع بين التكنولوجيا البدائية والفاعلية السياسية.
ودأبت الميليشيات الحوثية على إرسال الطائرات المسيرة المفخخة باتجاه الأراضي السعودية في توقيتات ذات صلة بتفاعلات الملف اليمني والعلاقات الدولية المضطربة مع إيران. وبالرغم من إسقاط معظم الطائرات من هذا النوع التي يتم توجيهها نحو مطارات مدنية في جنوب السعودية وبعض المنشآت الحيوية الاقتصادية، إلا أن التصدي لهذه الهجمات غير المتوقعة يتسبب عادة في نوع من التوتر الأمني والسياسي.
يشير المحلل العسكري اليمني العميد محمد جواس في تصريح لـ”العرب” إلى أن إيران بدأت بالاهتمام بتقنية الطائرات المسيرة منذ مطلع الثمانينات، وهو ما مكنها من امتلاك خبرة تراكمية في هذا النوع من الأسلحة، لافتا إلى أن تزويد طهران للميليشيات الحوثية في اليمن بتقنية الطائرات المسيرة كان له تأثير كبير في سير العمليات العسكرية الميدانية لصالح الحوثيين.
وأشار جواس إلى تعدد استخدامات ومهام الطائرات المسيرة، حيث تستخدم في الأعمال القتالية التكتيكية الميدانية وفي استهداف الأهداف ذات الأبعاد الاستراتيجية سواء كانت في البر أو البحر أو كانت قريبة أو بعيدة أو كانت أهدافا ثابتة أو متحركة، وهو ما جعل هذا السلاح سلاحا استراتيجيا متكاملا قليل التكلفة وبالغ التأثير، مشيرا إلى أن ما يجعل الطائرات المسيرة أكثر تأثيرا في مواجهتها مع الجيش الوطني اليمني، هو أن معظم وحدات الجيش وحدات مشاة وليست مشاة ميكانيكية مدرعة، إضافة إلى أن الجيش الوطني لا يمتلك تغطية جوية لحمايته ترافقه في أعماله القتالية.
وأضاف “من الناحية الاستراتيجية، الطائرات المسيرة يمكن أن تستهدف أهدافا استراتيجية في البر والبحر ببنية تحتية قليلة، وبالتالي تكلفة أقل، وهو ما ينسجم مع فكرة أن الحرب واستمرارها ترتكز على ركيزتين أساسيتين وهما القدرة على تغطية نفقات الحرب ثم القدرة على تقديم التضحيات، لذلك كانت الطائرات المسيرة بالنسبة إلى الميليشيات الحوثية هي السلاح الأمثل والأهم”.
حول إمكانية أن يسهم هذا السلاح النوعي في رسم مستقبل الحرب في اليمن، أوضح الباحث العسكري اليمني وضاح العوبلي أن الطائرات المسيرة تمثل سلاحا متطورا ونوعيا، مشيرا إلى أن هذه الطائرات تؤدي دورا فعالا في العمليات العسكرية، هجومية كانت أو دفاعية، بما تقوم به من مهام متعددة “استطلاعية، استخباراتية ونارية”، كما أنها تمنح الطرف الذي يستخدمها الأفضلية القتالية والعملياتية والميدانية، وتسهم كذلك بشكل مميز ونوعي في بناء وتأسيس قاعدة بيانات استخباراتية موثقة بالصور والفيديوهات الحية لصالح الميليشيات الحوثية، وتُعزز غرف عمليات العدو الحوثي ببنك أهداف يتم تحديثه بشكل يومي بناء على المعلومات الموثقة عبر هذه الطائرات عن مراكز القيادة والسيطرة وغرف العمليات التابعة للشرعية، وكذلك المخازن والتجمعات والتحركات وخطوط الإمداد، ومواقع تمركز بعض العربات، ومرابض المدفعية، وهذه كلها معلومات استخباراتية ثمينة عسكريا وعملياتيا تمنح القادة العسكريين للميليشيات الحوثية معلومات مهمة ونوعية تساعدهم في تقدير الموقف، وتسهم في تمكينهم من اتخاذ القرار، بالنظر إلى كون هذه المعلومات كافية لتقديم صورة شاملة عن جبهات الشرعية والمقاومة، لصالح الحوثي.
ولفت العوبلي في تصريح لـ”العرب” إلى أنه من خلال تطور العمليات التي تنفذها هذه الطائرات المتناهية الصغر، يمكن رفع تصنيفها من “سلاح تكتيكي” إلى “شبه استراتيجي” خاصة في الجانب الاستخباراتي والاستطلاعي، ومقاربة ذلك بالنسبة إلى الجانب القتالي أو الناري، حيث تم استخدامها ضد أهداف ومنشآت استراتيجية ومنها منشأة بقيق النفطية السعودية، وكذلك دخول هذه الطائرات ضمن تشكيلات المناورة والمشاغلة لمنظومات التعقب والاعتراض الراداري والدفاعي، عن أداء مهامها الاعتراضية ضد الصواريخ الباليستية التي يطلقها الحوثيون بالتزامن.
وأضاف “كل ما أوضحناه يجعلنا كمراقبين وخبراء عسكريين أمام حقيقة لا يمكن تجاهلها، وهي أن هذا السلاح بلا شك قادر على رسم مستقبل الحرب في اليمن، خصوصا إذا ما استمر تعاطي التحالف والشرعية أمامه بنفس الأسلوب الجاري منذ ثلاث سنوات من عمر دخول هذا السلاح ضمن تسليح العدو الحوثي”.
وعن إمكانية اتساع نطاق استخدام الطائرات المسيرة في الحرب اليمنية بعد استهداف السفينة التجارية السعودية، قال العوبلي “بلا شك، فالحاجة أمّ الاختراع، وباعتبار الميليشيات غير ملتزمة بأي قوانين أو لوائح دولية أو أخلاقية، بالإمكان أن نتوقع استخدامها لهذه التقنيات والأدوات في أي عمليات يرون إمكانية تنفيذها عبرها، فنحن أمام جماعة استخدمت وطورت كل الإمكانيات المتوفرة لصالحها في ميدان المعركة، دون الالتزام بأي معايير، فهل كنا نتوقع يوما أن نرى رشاشا ثقيلا من عيار 12.7 ملم مثبتا على قاعدة يتم تركيبها على دراجة نارية؟ هذا ما رأيناه من الحوثيين ليتمكنوا بذلك من المناورة والتهرب من ضربات طيران التحالف العربي، على عكس الأطقم التي كانت تُركب عليها هذه الرشاشات، ما يجعلها هدفا مكشوفا لطيران التحالف. والحقيقة التي يجب أن ندركها، هي أن الحوثيين يسعون بكل ما بوسعهم لتطوير قدراتهم، وهم مستمرون تصاعديا في هذا المسار، ويتضح ذلك من خلال دراستنا للعمليات العسكرية للعدو الحوثي خلال العقد الأخير، والمؤسف أن يأتي هذا في ظل تجاهل القيادة السياسية والعسكرية للشرعية ولامبالاتها”.
يرى رئيس مركز فنار لبحوث السياسات عزت مصطفى، أن استخدام الحوثيين للطائرات المسيرة هو استخدام سياسي أكثر منه عسكريا، مشيرا إلى أن هذا السلاح “لا يحقق أغراضا عسكرية مهمة بقدر ما يوفر للميليشيا من ضغط سياسي باستخدامها الإرهاب بالمسيرات المفخخة التي قد لا تتجاوز قدرتها التدميرية السيارات المفخخة التي دأبت على استخدامها في فترات سابقة التنظيمات الإرهابية كالقاعدة وداعش”.
ويضيف في تصريح لـ”العرب”، أن “بدائية المسيرات الحوثية لم تمكنها من التأثير عسكريا بقدر ما أصبحت وسيلة للاستخدام ضد الأهداف المدنية خاصة تلك الموجهة ضد السعودية أو كما رأينا مؤخرا استهداف الحوثيين للملاحة البحرية بهذه المسيرات وهذا يتزامن مع زيادة نشاط إيران في استخدام المسيرات المتفجرة ضد السفن وكان آخرها استهدافها السفينة ‘ميرسل ستريت’ في مياه بحر العرب”.
ويعتبر مصطفى أن استخدام المسيرات الحوثية لم يغير في المشهد العسكري والعملياتي على الجغرافيا اليمنية، إذ اقتصرت أهدافها على المدنيين أو العروض العسكرية ومساجد المعسكرات ما يعني أنها استخدمت خارج المواجهات مستفيدة من ثغرات استخباراتية.
وعن سبب زيادة وتيرة الاستخدامات الجماعة الحوثية للطائرات المسيرة في الآونة الأخيرة، يرى أنه “يأتي بغرض محاولة فرض تسوية سياسية تتسق مع بقاء سيطرتها على المناطق التي لا تزال تسيطر عليها وهذا هو الذي يمكن أن يؤثر على مستقبل اليمن من خلال استخدام الميليشيا الحوثية لهذا السلاح كابتزاز سياسي وليس كسلاح حسم عسكري وهذا ما يعني احتمال تزايد الهجوم الحوثي بالمسيرات خاصة تجاه السعودية والسفن في البحر؛ رغم قدرة الدفاعات الجوية للتحالف التصدي لها دائما؛ لكن دخول المسيرات في استهداف الملاحة البحرية يشير أيضا إلى أن ضربات التحالف التي سبق واستهدفت معامل تفخيخ الزوارق في سواحل الحديدة أبطلت فعالية سلاح الزوارق المفخخة الحوثية”.
ويؤكد رئيس مركز فنار لبحوث السياسات أن الجدوى العسكرية للمسيرات الحوثية منعدمة، لافتا إلى أنها ربما تحدث تأثيرا باتجاه الأهداف المدنية والملاحة التجارية، لذلك فإن “تصنيف المسيرات الحوثية كسلاح يتطابق مع استخدام السيارات المفخخة من قبل الجماعات الإرهابية”، بينما يكمن الحل لإيقاف هذا السلاح الإرهابي وفقا لمصطفى في “إعادة تصنيف الولايات المتحدة ودول أخرى مؤثرة للحوثيين كجماعة إرهابية يمكن أن يسهم في الحد من استخدامهم للمسيرات ضد الأهداف غير العسكرية بغرض الابتزاز السياسي”.
من جانبه، يعتبر رئيس مركز دار المعارف للبحوث سعيد بكران، أن الطيران المسير بات اليوم أداة الحروب الأكثر خطورة وتأثيرا، مشيرا إلى أن “العقد قبل الماضي كانت أدوات الحرب من الجماعات الجهادية خلاله تتنوع بين استخدام المتفجرات والانتحاريين، وكان الانتحاريون المفخخون هم الأداة الأكثر خطورة وقسوة”.
ويؤكد بكران أنه بسبب “تنامي المشاعر الدولية الرافضة للإرهاب وفكرة الانتحار المفخخ كوسيلة صراع وظهور شعور إنساني عالمي بإدانة وتجريم هذا النوع من الوسائل وربما لسبب تعرض الجماعات الإسلامية الجهادية لنكسات وتضاؤل حضورها، تحولت الجماعات الجهادية وبدعم إلى استخدام المسيرات المفخخة”.
ويتابع “الحوثيون ليسوا أول من امتلك المسيرات، قبلهم كان تنظيم داعش في العراق وسوريا وهذا يعطي مؤشرا على ترابط هذه الأطراف بالقوى الإقليمية التي باتت تتبنى بشكل مباشر تصنيع واستخدام المسيرات، واليوم نحن نشهد عصر استبدال الانتحاري المفخخ بالمسيرة المفخخة، وهذا بلا شك تطور أشد خطورة لأنه يستثمر التكنولوجيا والتقنيات الحديثة ويمنحها إلى جماعات إرهابية شديدة الخطورة وأفعالها لا يضبطها قانون من أي نوع”.
العرب