دمشق – أثار الوضع الأمني المتفجر في درعا، التي تعد مهد الاحتجاجات السورية عام 2011، التساؤلات حول مستقبل التسوية الروسية الاستثنائية التي تمت في المدينة قبل نحو ثلاث سنوات.
وتشهد المحافظة السورية منذ فترة تصعيدا عسكريا بين قوات النظام والمجموعات المسلحة المعارضة يرافقه حصار يفاقم تردي الأوضاع الإنسانية، حيث تثار تساؤلات عن التغير الذي حصل في المدينة ودفع إلى عودة التوترات من جديد؟ كما يثار سؤال: ما الذي ينتظرها في حال فشلت المفاوضات الأخيرة؟
وشكلت محافظة درعا الحدودية مع الأردن وإسرائيل شرارة الثورة عام 2011 والتي ما لبثت أن عمّت معظم الأراضي السورية ووُوجهت بالقمع. ومع تطوّر الاحتجاجات إلى نزاع دام سيطرت فصائل معارضة على المحافظة.
وفي عام 2018 بعد أن سيطرت قوات النظام على معاقل بارزة للمعارضة، مثل حلب (شمال) والغوطة الشرقية (قرب دمشق)، حاولت التقدم نحو درعا.
لكن على خلاف باقي معاقل المعارضة، التي شهدت عمليات عسكرية وحصارات محكمة انتهت باتفاقات أجلي بموجبها المقاتلون المعارضون إلى شمال البلاد، حصلت تسوية في درعا رعتها موسكو وقد وضعت حدا للعمليات العسكرية، لكن نصّت على أن يسلّم المقاتلون المعارضون سلاحهم الثقيل مع إمكانية الاحتفاظ بأسلحة خفيفة والبقاء في قراهم ومدنهم. ولم تنتشر قوات النظام في كل أنحاء المحافظة.
ويتواجد المعارضون بشكل أساسي في الريفين الغربي والجنوبي. وتنقسم مدينة درعا بين “درعا البلد” في الجنوب، ويتواجد فيها المقاتلون، و”درعا المحطة” حيث تنتشر قوات النظام.
التركيز على درعا يستهدف تعزيز النفوذ الإيراني أكثر في الجنوب، والوجود الروسي في تلك المناطق يضبط هذا النفوذ
ولعبت خصوصية درعا السياسية -كونها محاذية للأردن الذي يسعى لتجنيب أراضيه تداعيات النزاع، وللجولان المحتل من إسرائيل التي تخشى انتشارا لمجموعات إيرانية تقاتل إلى جانب قوات النظام قرب مواقعها- دوراً في إتمام التسوية بضمانة روسيا.
وخلال ثلاث سنوات -وعلى الرغم من اتفاق التسوية- طغت الفوضى الأمنية على المشهد في درعا (تفجيرات وعمليات إطلاق نار ضد قوات النظام واغتيالات طالت موالين أو معارضين سابقين أو حتى مدنيين يعملون لدى مؤسسات حكومية) في حين انتشر السلاح في كل مكان.
وخرجت في المحافظة تظاهرات عدة ضد النظام، آخرها احتجاجات في درعا البلد ضد الانتخابات الرئاسية في مايو الماضي. ورفع المحتجون وقتها شعارات شبيهة بتلك التي هتفوا بها قبل عشر سنوات، مطالبة بإسقاط النظام. ورفضت لجنة درعا البلد وضع صناديق اقتراع في أحيائها.
ومنذ 2018 تشهد المحافظة بين الحين والآخر مواجهات بين قوات النظام والمقاتلين المعارضين.
وفي نهاية يوليو الماضي اندلعت في مناطق متفرقة من المحافظة، من بينها مدينة درعا، مواجهات تعدّ الأعنف منذ ثلاث سنوات، وفق المرصد السوري لحقوق الإنسان الذي وثق مقتل 32 شخصاً، من بينهم 12 مدنياً و11 مقاتلاً محلياً و9 عناصر من قوات النظام.
واستمرت المواجهات يومين، وتقدّمت قوات النظام في مزارع محيطة بأحياء درعا الجنوبية، قبل أن تتراجع حدة المواجهات مع بدء مفاوضات برعاية روسية تهدف للتوصل إلى اتفاق لإجلاء عشرات المقاتلين من درعا البلد.
ويقول الناشط المعارض عمر الحريري من مكتب “توثيق الشهداء في درعا” إنه بالرغم من تراجع العمل العسكري “تقوم قوات النظام بتحركات بشكل شبه يومي، وخصوصاً خلال الليل، بهدف استنزاف المقاتلين الذين لا يملكون سوى السلاح الخفيف”.
ولم تلجأ قوات النظام حتى الآن إلى السلاح الجوي.
يُرجّح سكان وناشطون أن يكون أحد أسباب التصعيد العسكري سعي النظام “للانتقام” من درعا التي لا يزال سكانها يخرجون في تظاهرات ضده.
ويقول الحريري “يوجد في درعا البلد مطلوبون كثر من النظام (…) فضلاً عن أن الاغتيالات لم تهدأ ضد أتباعه”، مشيراً إلى أن أحد شروط النظام “هو خروج أصحاب أسماء معينة من المحافظة وإرسالهم إلى الشمال”.
ويقرّ المدير التنفيذي للمركز السوري للعدالة والمساءلة محمد العبدالله بأنه “لطالما كانت لدى الإيرانيين رغبة في تعزيز نفوذهم أكثر في الجنوب لقربه من إسرائيل، وهم الذين يدفعون قوات النظام والفرقة الرابعة اليوم بشكل خاص”.
ويتواجد الإيرانيون بشكل واسع في جنوب سوريا، إلا أن تواجد روسيا في درعا يضبط نفوذهم.
وتسعى روسيا إلى نشر الفيلق الخامس في درعا البلد، وهو فصيل في الجيش السوري تدعمه روسيا ويضم مقاتلين معارضين سابقين من درعا أساساً.
وتستخدم روسيا، وفق العبدالله، سياسة “نحن أو النظام” للضغط على سكان درعا البلد الذين يرفضون أن يسلّم المقاتلون أسلحتهم الخفيفة.
ويوضح العبدالله أن ما يحصل في درعا هو “مثَال على التنافس بين الإيرانيين والروس على مناطق النفوذ في سوريا”. ويبدو أن أهل درعا مضطرون إلى اتخاذ قرار صعب.
ويقول الحريري “نحن أمام خيارين: انتشار الفيلق الخامس ولجم روسيا لقوات النظام، أو أن يقوم النظام فجأة باقتحام واسع”.
فرّ من درعا البلد نحو 24 ألف شخص من أصل 55 ألفاً يقطنونها، ولجأت غالبيتهم إلى مناطق أخرى في المدينة نفسها أو محيطها، وفق مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية.
وخلال الأسابيع الماضية أحكمت قوات النظام تدريجياً الخناق على درعا البلد. ولم يعد بإمكان السكان، وفق الأمم المتحدة، سوى عبور طريق واحد مشياً على الأقدام، وهو ما يعرضهم “لإجراءات تفتيش أمنية صارمة”.
ويشرح أبوالطيب، أحد سكان درعا البلد وناشط إعلامي، “أحياناً لا يُسمح سوى للنساء والأطفال بعبور الطريق، وأحياناً يغلقونه تماماً”.
ويشير إلى انقطاع مادة الطحين تماماً من درعا البلد، و”قطع النظام المياه عن الخزان الرئيسي” وسط انقطاع للتيار الكهربائي. ويقول “ندبر أمورنا بإمكانات بسيطة”.
وفي جنيف أعرب المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا غير بيدرسن الخميس الماضي عن قلقه المتزايد بشأن التطورات في جنوب سوريا.
وقال إن “ارتفاع وتيرة الأعمال العدائية” تسبب في فرار آلاف المدنيين، مشيرا إلى أن السكان يعانون “من نقصٍ حاد في الوقود وغاز الطهي والمياه والخبز. وهناك نقص في المساعدات الطبية اللازمة لمعالجة الجرحى”، ووصف الوضع بـ”الخطير”.
العرب