د. معمر فيصل خولي
كانت هجمات 11أيلول/ سبتمبر 2001م تحول كبير في العلاقات الدولية، عززت مكانة الولايات المتحدة الأمريكية كقطب أعظم في النظام الدولي والعالمي، وأحدثت تغييراتٍ عميقة في بنية النظام الإقليمي للبيئة الممتدة بين أفغانستان وشرق المتوسط، وبعد هزيمة الولايات المتحدة الأمريكية المُرة في فيتنام، وبعد عقدان من الهجمات، ها هي تتجرع مرارة هزيمة أشد وأقسى في أفغانستان. فقد شكلت سيطرة حركة طالبان على العاصمة الأفغانية كابول في 15 أغسطس/ آب 2021م، على ما يبدو، بداية مرحلةٍ جديدة، مرحلة تراجع المكانة الأمريكية التي سيكون لها تأثيراتها الإقليمية والعالمية.
فالاحتلال الأمريكي لأفغانستان الذي تحول من القضاء على نظام الإمارة الإسلامية التي أشرفت عليها حركة طالبان إلى محاولة إعادة هندسة بنية المجتمع والدولة الأفغانيين من الصفر لم يستطع أن يستأصل الحركة المتفرعة عن المدرسة الديوباندية في الإسلام السني الحنفي لجنوب آسيا، والتي تجمع بين حمل راية تحكيم الشريعة وبين الدفاع عن نظام الأعراف لإثنية الباشتون، الإثنية الكبرى في أفغانستان والثانية من حيث العدد في باكستان.
الحدث الأفغاني كوني بامتياز. فبعد عشرين عاما من الاحتلال ومقاومته ومن أسلوب الولايات المتحدة الأمريكية في «زرع الديمقراطية» و«إعادة تشكيل الأمم» تبدو الحصيلة مرة، وحتى لو تقاذف الحزبان الجمهوري والديمقراطي المسؤولية، فأقل ما يقال إن اتفاق السلام المشروط بين الولايات المتحدة الامريكية وطالبان وقع في عهد دونالد ترامب والانسحاب التام وتسليم كابول لطالبان حصل في عهد جو بايدن.
ورغم كل الاتهامات والتصريحات المتبادلة حول كيفية سيطرة حركة طالبان على أفغانستان بهذه السرعة، تبقى هناك حقيقة يجب وضعها في الحسبان: لقد أمضت حركة طالبان سنوات في الاستعداد لانسحاب الولايات المتحدة الأمريكية في نهاية المطاف. ورغم التعزيزات العسكرية العديدة والضربات الجوية التي لا هوادة فيها ومقتل الآلاف على جميع الأطراف، لم يتمكن أحد من وقف هذه الحركة. وعاماً تلو آخر، حقق مقاتلو طالبان مكاسب، وذلك بنجاحهم من خلال الإكراه والاستحواذ على إخضاع قطاعات كبيرة من السكان تحت مظلة حكمهم وأقاموا دولة ظل. واستغلت حركة طالبان الغضب إزاء انتهاكات القوات الأجنبية وفساد الحكومة الأفغانية لكسب التأييد في قرية بعد أخرى.
ومن المعتقد أن أحد الاختبارات الحقيقية أمام طالبان الآن ما إذا كان بإمكانهم أن يحكموا – وأن يحكموا بالتعاون مع – أولئك الذين يختلفون معهم جذرياً. ويقدم التاريخ الحديث درساً قيماً يؤكد أن التسويات السياسية الإقصائية لا تصمد على أرض الواقع. والواضح أن أفغانستان دولة كبيرة للغاية ومتنوعة، وسبق أن زرعت السياسة الإقصائية الصراع مراراً وتكراراً. وقد حدث ذلك عام 2001، عندما جرى استبعاد طالبان من اتفاقية بون، التي أعادت تشكيل الدولة الأفغانية بعد الغزو الأميركي، مثلما سبق وحدث في التسعينات، عندما رفضت طالبان استيعاب خصومها.
وعليه، فإن أفضل ما يمكن أن نأمله أن تكون حكومة طالبان الجديدة أكثر براغماتية عن السابقة، وأن تدرك أن المساعدة والاعتراف الدوليين ضروريان لبقائها. ويبدو إنها تسير على هذا النحو، فقد أكدت حركة “طالبان”، اليوم الخميس، رغبتها في بناء علاقات دبلوماسية وتجارية جيدة مع جميع دول العالم، توازياً مع استمرار الحركة في نشر انطباع على انفتاحها أو على الأقل محاولة الانفتاح، عبر تأكيدها السماح للمرأة بالمشاركة في إدارة الدولة. وقال المتحدث باسم الحركة ذبيح الله مجاهد، عبر حسابه على تويتر: “نريد علاقات دبلوماسية وتجارية أفضل مع جميع الدول”.
ومن الواضح أن تركيز الحركة منصبٌّ في هذه المرحلة على تجنّب تكرار ما حصل معها خلال فترة حكمها الأولى بين عامي 1996-2001 عندما أدّى خطابها وسياساتها المتشدّدة إلى عزلها وعدم الاعتراف بها. وتتبنّى “طالبان” منذ سيطرتها على كابول خطابًا سياسيًا معتدلا تأمل أن تنجح من خلاله في إقناع المجتمع الدولي بقبولها، وربما حتى تقديم مساعدات اقتصادية لتحقيق الاستقرار في بلادٍ دمرتها الحرب. ولم يكن اعتراف باكستان بحكم طالبان مفاجئًا بالطبع، ولكن الصين التي تحارب ما تسميه “التطرّف الإسلامي”، وفتحت معسكرات اعتقال للإيغور من مواطنيها، تتجّه هي الأخرى، على ما يبدو، إلى الاعتراف بطالبان؛ فهي ترى أمرًا واحدًا وهو التراجع الأميركي. وهذا هو أيضًا حال روسيا التي لا تخفي سعادتها، ولكنها تفضّل الانتظار ومتابعة سياسات طالبان؛ إذ لديها نفوذها في الجمهوريات الآسيوية. أما الولايات المتحدة، وحلفاؤها في الاتحاد الأوروبي و”الناتو”، فما زال في إمكانهم عزل الحركة، ومنع حصول قبول واسع لها على الساحة الدولية. وربما هذا ما دعا “طالبان” إلى تبنّي خطاب “معتدل” حتى الآن، يشمل احترام التعدّدية السياسية والحريات الأساسية للأفغان، وهذا ما سيكون محلّ اختبار ومراقبة خلال الفترة المقبلة لتبيان كيفية التعامل الدولي مع الواقع الجديد في أفغانستان. أمام هذا الواقعية السياسية لحركة طالبان سيتعين على الدول الغربية إيجاد طريقة للتعامل معها في قضايا مكافحة الإرهاب وحقوق الإنسان والقضايا الإنسانية.
أما إيرانيًا فقد تمتعت إيران بالاستقرار الأمني الذي جاء مع الاحتلال الأميركي لأفغانستان، لكن الآن لديها طالبان على حدودها. من المرجح أن تشتبك قوات الأمن الإيرانية مع طالبان والحكومات الأفغانية وأمراء الحرب على قدم المساواة لضمان ممارسة بعض النفوذ على كل منها والاحتمال أن تقوم بنقل جزء من وكلائها الأفغان في سوريا إلى غرب أفغانستان لحماية مصالحها.
أما عن مخاوف إيران من تلك السيطرة، فقد صرّح بها عضو لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في مجلس النواب الإيراني جليل رحيمي جهان آبادي أن لدى إيران سلسلة من المخاوف تتعلق بكيفية حكم طالبان لأفغانستان، إن هذه المخاوف تتجلى في عدة نقاط: أولها أن أفغانستان تصنف مركزا لإنتاج المخدرات في العالم، وأن إحدى طرق مرور المخدرات منها لأوروبا تمر عبر إيران، فضلا عن المخاوف بشأن الأضرار الأمنية والاجتماعية، وبالتالي فإن طهران تنتظر سلوك طالبان على الأرض. لكن ما تجنب رحيمي قوله مخاوف إيران من قيام أي تحالف إقليمي ” سني” يجمع تركيا وأفغانستان وباكستان مما يشكل ” كماشة” ضد التحركات الإيرانية الخارجية.
لذلك من المتوقع أن تقوم ميليشيا “لواء فاطميون”، العاملة بالوكالة عن إيران – والتي تضم آلاف المقاتلين الأفغان المتمرسين الذين ساعدوا في دعم نظام الأسد السوري منذ عام 2012 – دوراً فاعلاً في مواجهة استيلاء “طالبان” المحتمل على الحكم، على الأقل في المناطق الشيعية. ولكن في 12 آب/أغسطس، نفت الميليشيا شائعات عن نشر أيٍّ من قواتها في أفغانستان أو سيتم نشرها مستقبلاً؛ كما أشاد البيان بالانسحاب الأمريكي وسخر من الديمقراطيين الليبراليين الأفغان.
ومع ذلك، لا يجدر تصديق هذا الإنكار. فقد يكون لأعضاء “فاطميون” قيمة هائلة في جمع المعلومات الاستخباراتية لـ «فيلق القدس» الإيراني إذا ما قررت طهران إرسالهم إلى أفغانستان، لذلك يبدو من المعقول للغاية أن يعمل بعضهم هناك وسط الفوضى الحالية. ومع ذلك، فمن الجدير بالذكر أن مثل هذه الأنشطة ستظل تشكل ضبطاً كبيراً للنفس مقارنةً بالمعارضة الرئيسية التي نظمتها إيران في العراق قبل عدة سنوات لمواجهة تنظيم «الدولة الإسلامية» – وهي جماعة جهادية سنية تشترك في العديد من أوجه التشابه الأيديولوجي مع “طالبان”. وقد يكون عدم نشر “فاطميون” على نطاق واسع أيضاً وسيلة إيران للحفاظ على اللواء باعتباره قوة عسكرية وسياسية تستطيع استخدامها لاحقاً في الخطط المستقبلية لأفغانستان.
جماع القول، أن الحالة الأفغانية مقلقة لدى الدول المجاورة وحاضرة لدى الدول الكبرى المعنية بنزاعات وتنافسات هذا الجزء الآسيوي الصعب، لذلك سيبقى النقاش دائرًا في مراكز البحث أو في مراكز القرار حول مدى صحة واقعية حركة طالبان، وإلى أين يمكن أن تفضي هذه الواقعية. إن عدم عزل أفغانستان ونبذها من قبل الجماعة الدولية، يتوقف إلى حد كبير على ما إذا كانت طالبان قادرة بالفعل على استخلاص العبر من دروس الماضي.
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية