“في ظلال القرن الأميركي: صعود وانكفاء القوة الأميركية العالمية” كتاب للمؤرخ ألفرد مكوي يغطي في فصوله نقاطا ومواضيع متعددة حول طبيعة صعود إمبراطورية الولايات المتحدة وعلاقاتها المتشعبة وكيفية انحدارها كقوة عالمية. ويعتبر الكاتب الأميركي جيم مايلز في قراءته التالية لهذا الكتاب أنه “يمكن لأي قارئ يواكب الأحداث الجارية أن يرى أن جزيرة العالم لا تبتعد عن قبضة الإمبريالية الأميركية ببطء”.
واشنطن – التنبؤ بما يحصل الآن قبل عقود أو سنوات قليلة ليس بالأمر السهل أبدا، يحتاج إلى دقة في متابعة تفاصيل اللعبة السياسية الدولية وخيوطها المعقدة خاصة في ظل النظام العالمي الذي تأسس بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وبقاء الولايات المتحدة كقوة عالمية واحدة.
وأعادت التطورات الميدانية والسياسية الأخيرة في أفغانستان والتراجع الأميركي الحاد في منطقة الشرق الأوسط والصعود المثير للقوى المنافسة لواشنطن -على غرار الصين وروسيا- النقاشات من جديد حول “القرن الأميركي” ومستقبله.
بدا المؤرخون يستبقون الأحداث سريعا بالحديث عن اقتراب انهيار القوة الوحيدة في العالم الآن، والتصريح بأن عوامل عدة تساهم بقوة في التسريع بهذا الانهيار. ومنهم من لم يتوان عن تحديد موعد لهذا الانهيار وانتهاء الولايات المتحدة كقوة دولية عظمى.
يناقش الكاتب الأميركي جيم مايلز ما كتبه البروفيسور ألفرد مكوي في كتاب صدر له عام 2017 بعنوان “ظلال القرن الأميركي: صعود وانكفاء القوة الأميركية العالمية”. بدا في نظر البعض أن المؤرخ مكوي يتنبأ بقصة النهاية لأقوى دولة في العالم.
ويرى مايلز أن قراءة كتاب “في ظلال القرن الأميركي” تشبه ركوب السفينة الدوارة في الملاهي. واعتبر أن أفضل جزء في كتاب ماكوي هو المقدمة حيث يناقش وضعه الشخصي في ما يتعلق بأسرته والبيئة التي نشأ فيها وأصدقاء العائلة الذين انتهت حياتهم بمأساة.
ويقول إن بقية الكتاب يناقش مسألة إمبراطورية الولايات المتحدة وصعودها وأبرز الأحداث التي شهدتها، ثم “استراتيجيات البقاء”، ويُنهي بـ”ديناميات تراجع واشنطن”. كما ينتهي الكتاب بـ”خمسة سيناريوهات لنهاية القرن الأميركي”، حيث يعتبر مايلز أن هذا الجزء هو الأضعف في الكتاب “ليس لأنه لا يمكن لأحد التنبؤ بدقة بالمستقبل، بل لأنه يقدم للقارئ فجأة حججا متناقضة تقريبا مع مناقشته للإمبراطورية المقدمة سابقا”.
الكتاب يتوقع بقاء النظام الدولي الليبرالي وازدهاره في حين أن حلف الناتو ودافوس وبيلدربيرغ قد تشكل رابطة فوق وطنية لتحل محل أي دولة أو إمبراطورية
وتغطي الفصول الثلاثة حول “فهم إمبراطورية الولايات المتحدة” مجموعة واسعة من المواضيع، حيث تدرس الأفكار الاستراتيجية بما هو أبعد من “جزيرة العالم” لهالفورد ماكيندر وفكرة أن من يسيطر عليها يسيطر على العالم. يقول جيم مايلز إنه “يمكن لأي قارئ يواكب الأحداث الجارية، من هذا المنطلق، أن يرى أن جزيرة العالم لا تبتعد عن قبضة الإمبريالية الأميركية ببطء”.
وناقش المؤرخ مكوي في “أميركا والأوتوقراطيون” بعض الحكومات المختلفة التي أنشأتها الولايات المتحدة ودعمتها من إيران وفيتنام إلى مصر وأفغانستان. وكتب في هذا السياق أنه “كان هناك -ولا يزال- عيبٌ بنيويٌّ أساسيّ في كل التحالفات الأميركية مع هؤلاء المستبدين”. ويرى أن “هذه التحالفات غير المتكافئة تنتج حتما ديناميكية خاصة تجعل احتمال السقوط النهائي للحكام الذين يساندهم الأميركيون أمرا شبه عادي”.
ويتحدث مكوي عن أحداث “العالم الآخر الخفي” التي تدور في الغالب حول وكالة المخابرات المركزية الأميركية وعلاقاتها المالية بالمخدرات، ويبدأ بإيجاز بعض تدخلات الوكالة ويخلص إلى أن “هذا الاعتماد المتكرر على التدخلات السرية حوّل مقدّمي الخدمات السرية من متلاعبين على هوامش سلطة الدولة إلى لاعبين رئيسيين في السياسة الدولية”.
ويقول مايلز إن مكوي يواصل مجادلته بما هو واضح، وهو أن “التجارة غير المشروعة تبقى الأساس الاقتصادي للعالم السفلي السري، مما يسمح بقدر من الاستقلال السياسي”. وحسب ملخصه، الذي يستند إلى حد كبير على وصفه لوكالة المخابرات المركزية وطالبان، فإن “فشل التدخل الأميركي الوشيك في أفغانستان (كُتب في 2017) يعدّ مؤشرا على أن واشنطن تستطيع السيطرة على العناصر السرية للسياسة العالمية، وأن سيطرتها على العالم تبقى ضعيفة على المدى الطويل”.استراتيجيات البقاء يرى مكوي في المراقبة المحور الأول لبقاء الإمبراطورية. ولصعود دولة المراقبة الأميركية تكاليف في الخارج -حيث يستوجب ذلك ضمان “ثقة أقرب حلفائها”- وفي الداخل حيث يتخلى المواطنون عن أي حق في الخصوصية، مع احتمال تقويض حقوق أخرى في المستقبل.
المؤرخ ألفرد مكوي صرّح قبل أربع سنوات بأن فشل تدخل أميركا في أفغانستان ينبئ بضُعف سيطرتها على العالم على المدى الطويل
ويفصّل في “التعذيب ونهاية الإمبراطوريات” (لماذا الجمع؟) قصة حقبة الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش وحججها التي تبرر بها التعذيب. وفي سياق التدهور لا تستطيع الولايات المتحدة “المطالبة في الوقت نفسه بالقيادة الأخلاقية للمجتمع الدولي والامتياز السيادي للتعذيب كما تشاء في تحدٍّ للقانون الدولي”.
ويناقش مكوي في حديثه عن “أسلحة البنتاغون العجيبة” مسألة تطور الفضاء السيبراني وذكاء الكمبيوتر، ويكون ذلك غالبا في إطار الحرب على الإرهاب، وهو عذر عالمي للأدوات عالية التقنية وباهظة الثمن. وبينما يشير إلى أن اعتماد الولايات المتحدة على الأجهزة عالية التقنية سيؤدي إلى عمليات ذات “نتائج غير مؤكدة” لم يذكر مكوي سوى الصين وروسيا ضمن “تهديد الصراع المسلح الفعلي”، ولم يذكر (وربما يكون هذا انتقادا متأخرا للمعرفة المتوفرة في العام 2017) قدرات روسيا الإلكترونية الدفاعية ولا القدرات الصينية الإلكترونية.
ويقول مايلز إن مكوي، بعد تخطي إعادة نظره في “جزيرة العالم” ووكالة المخابرات المركزية، يسرد خمسة سيناريوهات لنهاية القرن الأميركي، حيث تعاني أفكاره من لمسة “الاستثنائية” التي تحجب عنه رؤية تناقض بعض الحجج إذا أخذ في الاعتبار ما قدمه في فصول سابقة من الكتاب.
ويجادل مكوي أثناء وصفه للسيناريو الأول -المعنون بـ”النظام العالمي المتطور”- بأن لكل إمبراطورية حديثة مصدرا من الجاذبية العالمية لرعاياها الأجانب. وفي هذا تناقض صارخ نظرا إلى كل ما سبقه في الكتاب، حسب مايلز. ثم يضيف في نفس هذا الجزء أن “إسبانيا عرضت المسيحية”، أي اعتناق المسيحية أو الموت (انظر المرسوم البابوي لسنة 1542). ويقول مايلز “حتى إن اعتنقت المسيحية، فسوف تظلّ دون الرجل الأبيض المتفوق”.
وحدد مكوي أن بريطانيا عرضت “الأسواق الحرة واللعب النزيه”، ويقول مايلز “بالتأكيد، فقط اسأل الملايين من الهنود القتلى (شرقا وغربا) وتريليونات الدولارات من حيث قيمة جميع الموارد التي جمعتها من مستعمراتها العديدة”. وتساءل مايلز “هل كانت حروب البوير لعبة نزيهة أيضا؟”. كما قال الكاتب الأميركي إنه لم ير في كتاب مكوي “مناقشة الوضع الفلسطيني – الإسرائيلي أبدا، وهذا إغفال لحجة تناقض اللعب النزيه. إن هذه الحجج غير منطقية لو لم تكن من شخص يدعم الإمبراطوريات”.
ويرى مايلز أن المؤرخ ألفرد مكوي يكرر مرتين في كتابه أن الولايات المتحدة تساهم في “الديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة القانون” في تناقض تام مع جميع الأدلة التي يقدمها هو نفسه في الجزء الرئيسي من الكتاب.
كما تشمل الأخطاء الأخرى التصريح بأن روسيا “دولة نفطية متهالكة اقتصاديا وذات جيش كبير”، حيث تبقى روسيا محمية اقتصاديا لأنها تخلصت من اعتمادها على الدولار الأميركي. ومن المفارقات أن ذلك حدث بفضل العقوبات. وقد طورت فائضا زراعيا ودعمت قدرات أخرى غير بترولية، حسب مايلز.
ويتوقع مكوي بقاء “النظام الدولي الليبرالي” وازدهاره في حين أن حلف الناتو ودافوس وبيلدربيرغ “قد تشكل رابطة فوق وطنية لتحل محل أي دولة أو إمبراطورية”. أليست هذه فكرة قاتمة؟ عالم يسيطر عليه الأثرياء وقوة الشركات؟ ومع ذلك، كيف يفسر ذلك فقدان وضع الدولار الاحتياطي العالمي، والدمار المالي الذي تشهده الولايات المتحدة بسبب ذلك؟ وماذا عن الكوارث المناخية القادمة؟ على الرغم من كل هذا يتصور “استمرار دور الوسيط في النزاعات الدولية وحراسة المكاسب المشتركة عالميا بقطع النظر عما يُفرّق بين البشر”، هذه “العوامل المفرّقة” وبُؤر حرب المدن المتخيَّلة وأسباب انحطاط الولايات المتحدة تعود في معظمها إلى تدخل الولايات المتحدة في الصراعات وحراسة المكاسب المشتركة عالميا!
يرى جيم مايلز أن “هناك سيناريو من التدهور الاقتصادي، بالنظر إلى (…) التقدم الصيني الرقمي، وفقر النظام التعليمي الأميركي، والتضخم، والاعتراف بأن كلا من الصين وروسيا تعملان على إنهاء هيمنة الدولار”.
ويقول مايلز إن “هذا ما يجعل الولايات المتحدة تسيطر سيطرة عسكرية فقط لفترة من الوقت”. وبالإضافة إلى تراجع قيمة الدولار فإنه لن تكون كل تلك الأدوات عالية التقنية قابلة للحياة من الناحية المالية، ولن يتبقى سوى “اقتصاد نفطي هش وجيش كبير”. ويتساءل “هل يبدو هذا مألوفا؟”.
ويوضح الكاتب الأميركي أن مكوي يقدم سيناريو عسكريا بطريقة ما دون تحديد أي خسائر لأي من الجانبين (أميركا والصين)، مع الانهيار الكامل للولايات المتحدة بسبب الحرب الإلكترونية والحرب الحركية المضادة للأقمار الصناعية. وهذا مستحيل، لأن المئات سيموتون عندما تسقط الطائرات من السماء على الأقل. وكحد أقصى ستتجه الولايات المتحدة نحو الخيارات النووية (أي خيار شمشون إذا فشل كل شيء آخر) وستدمّر العالم وتدمّر نفسها أيضا.
ويعرض مكوي في كتابه سيناريو كارثة مناخية، وهو السيناريو الذي يعيشه العالم اليوم. والأهم من ذلك أنه يقدم كل أفكاره في شكل سيناريوهات منفصلة. لكنها جميعا متكاملة بدرجة عالية؛ إذ أن قضايا الجيش والاقتصاد والمناخ متشابكة ولا يمكن فصلها. ويشمل مستقبل التدهور الأميركي التراجع في العالم أيضا. “باختصار، لقد أخطأت الولايات المتحدة كثيرا وليس لديها مجال واسع للمناورة بالمساعدة من أجل إنقاذ جزء من البشرية. ولا أتوقع منها رغبة أو قدرة على ذلك؛ إذ أن الأمر متروك لبقية العالم”.
كما يقول ماكوي إن الولايات المتحدة “جلبت مؤسسات دولية قابلة للحياة، وتكاملا اقتصاديا عالميا، وسيادة القانون، وتقدم حقوق الإنسان، وانتشار الديمقراطية، وفترة سلام نسبي، وتراجع المرض والفقر في العالم”.
ويؤكد مايلز أنه “يمكن أن يردّ على هذا البيان الأخير بصفحات وصفحات من الدحض. لكنه سيذكر مثالا واحدا فقط: إن تراجع معدل الفقر في العالم يعود أساسا إلى نجاح جهود الصين في القضاء على الفقر لنحو 600 مليون صيني”.
ويقول “يوجد دحض لحجج مكوي العامة في فصول كتابه ‘في ظلال القرن الأميركي’ نفسه، بالإضافة إلى العديد من الأعمال الأخرى التي تصف إخفاقات الإمبراطورية الأميركية”.
العرب