مشكلة أميركا أنها إمبراطورية من دون مزاج إمبراطوري. هي دائمة التأرجح بين “الخندقة” وبين الخروج لإعادة تشكيل العالم. لديها كل شيء باستثناء الصبر. لا قوة يمكن أن تهزمها عسكرياً. هي تهزم نفسها، لا على أرض المعارك بل في شوارع واشنطن. ومن الصعب على إدارة الرئيس جو بايدن “تجميل” هزيمتها في أفغانستان بالقول إنها حققت الهدف الذي ذهبت إلى الحرب عام 2001 من أجله: ضرب تنظيم “القاعدة” الذي قام بالتفجيرات الإرهابية في نيويورك، وإسقاط نظام “طالبان” لضمان ألا تتحوّل أفغانستان مرة أخرى إلى قاعدة للإرهاب. وليس صحيحاً إدعاء الإدارة أن أميركا لم تكُن لها أهداف أبعد تحت عنوان “بناء الأمم”. فما فعلته خلال عشرين عاماً هو محاولات لبناء الأمم وإحداث تغيير اجتماعي. وهي فشلت لأنها، كما يقول الجنرال كارل إيكنبري صاحب تجربة في أفغانستان، حاولت “تحقيق أهداف ثورية بوسائل كولونيالية”. مفهوم أنه كان لا بد من الانسحاب في النهاية، بحسب الخطاب التبريري للرئيس بايدن وأركان الإدارة. غير أن أميركا لم تنسحب تاركة وراءها حكومة شرعية قادرة على إدارة البلاد ومواجهة المخاطر، بل انسحبت أمام حركة “طالبان” العائدة إلى السلطة وبالاتفاق معها. حتى شكل الانسحاب الذي فاجأ الحلفاء الشركاء في “ناتو”، فإنه بدا فضيحة مدوّية في مطار كابول.
أميركا في مشكلة مع حلفائها
ومن الطبيعي أن يبدأ الجدل في أميركا والعالم حول ما بعد الانسحاب والمضاعفات الجيوسياسية والجيواستراتيجية في آسيا والعالم. أميركا في مشكلة مع حلفائها الذين جاءهم برهان إضافي على نقص الصدقية لدى القوة العظمى “العائدة إلى القيادة” بحسب بايدن، والمستعدة عملياً لترك الحلفاء على جوانب الطريق في منتصف الأزمات متى دقت ساعة مصلحتها السياسية. وخصوم أميركا الشامتون بها الآن والساعون إلى الحوار مع “طالبان” يواجهون في النهاية فصلاً جديداً من”اللعبة الكبيرة”.
وهي اللعبة التي كان فصلها الأول في القرن التاسع عشر بين بريطانيا وروسيا القيصرية. وجاء فصلها الثاني بعد الغزو السوفياتي لأفغانستان عام 1979، بحيث عملت أميركا وباكستان ودول عربية على التصدي للسوفيات بواسطة “المتطرفين” من أفغان وغير أفغان، بينهم عرب أنشأوا “القاعدة” وأجبرت موسكو على الانسحاب بعد “فيتنام سوفياتية”. الغزو الأميركي عام 2001 كان الفصل الثالث الذي رأت فيه روسيا والصين فرصة لابتزاز واشنطن من جهة والتحريض عليها من جهة أخرى، ودفعها نحو “فيتنام أفغانية”. والفصل الرابع يبدأ الآن: صراع على النفوذ بين روسيا والصين وباكستان والهند وإيران، لن تكون أميركا غائبة عنه. وصراع محلي على السلطة إذا ألغت “طالبان” كل القوى واستأثرت بالحكم كما فعلت بين 1996-2001، واحتمالات حرب أهلية يخوضها أمراء الطاجيك والأوزبك والهزارة وبعض قبائل البشتون ضد “طالبان” البشتونية.
اقرأ المزيد
لمن ستمنح “طالبان” ثروة أفغانستان من المعادن النادرة؟
كيف ترى روسيا فوضى أفغانستان؟
صندوق النقد يعلّق المساعدات إلى أفغانستان بسبب ضبابية الموقف
من هم قادة “طالبان” الذين سيحكمون أفغانستان؟
“طريق الأفيون” الأفغاني
روسيا قلقة على أمن حليفاتها الجمهوريات السوفياتية السابقة، وهي طاجيكستان وأوزبكستان وقرغيزستان وسواها. باكستان تحالف الصين كبديل من التحالف مع أميركا، وتواجه خصمها الهندي الذي صار حليف واشنطن. إيران خائفة على الهزارة الشيعة ومن تطرف “طالبان” وما سمّاه الرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد “إقامة خوراسان كبرى”. والكل في الجوار كما في تركيا وأوروبا خائف من موجة لاجئين بالملايين هرباً من حكم “طالبان”. فضلاً عن المخاوف التقليدية من “طريق الأفيون” الأفغاني بموازاة “طريق الحرير” الصيني.
والسؤال في النهاية هو: هل تغيرت “طالبان” وتعلمت من تجربة عشرين عاماً خارج السلطة وباتت تميل إلى شيء من “الاعتدال”؟ من المبكر الحكم على ما يقوله المسؤولون في “طالبان” اليوم. فلا مصلحة لهم حالياً في تنفير النساء والموظفين والأعراق والقبائل. ولا أحد يجهل أن إعلان “نهاية الحرب” في البلد ليس “نهاية التاريخ”. فالاختبارات والخيارات قريبة. والعنوان العام معبّر جداً: العودة إلى إقامة “إمارة إسلامية”، لكن التحدي الأكبر في موضوع الصدقية سيكون أمام أميركا في اليابان وكوريا الجنوبية وألمانيا وكل أوروبا والشرق الأوسط. وروبرت غيتس، وزير الدفاع ومدير “سي آي أي” سابقاً أعاد التذكير بقوله يوم انتخاب بايدن: “من المستحيل ألا تحب جو بايدن، لكنه كان مخطئاً تقريباً في كل قضية سياسية وأمنية خلال أربعة عقود”.
فارس خوري
اندبندت عربي