التقسيم الطائفي يؤسس لدويلات صغيرة في لبنان

التقسيم الطائفي يؤسس لدويلات صغيرة في لبنان

فتح الانفجار الدامي في عكار وما نتج عنه من اتهامات طائفية ومناطقية باب النقاش واسعا بشأن طبيعة النظام السياسي الحالي اللبناني ومدى فشله في معالجة الأزمات المختلفة التي تعيشها البلاد، بالإضافة إلى ما يترتب على هذا السلوك من مخاطر تعزز الانقسام وتؤدي إلى تأسيس دويلات صغيرة في لبنان.

بيروت – ينذر الوضع اللبناني المتردي بدخول البلاد في حالة انهيار تام على خلفية الانسداد السياسي الحاصل في ملف تشكيل الحكومة وتفاقم الخلافات القائمة على أساس طائفي بين المكونات الرئيسية، بعد الانفجار الدامي الأخير في عكار.

ولا يتوانى الخبراء والمحللون المتابعون للشأن اللبناني في تحذير الطبقة السياسية من التمادي في التعطيل ووضع العراقيل أمام إيجاد حلول لإخراج لبنان من أزمته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والتي تتضاعف في كل مرة مع حصول تطورات أمنية وميدانية.

منير ربيع: استثمار سياسي في الأزمات بهدف شد العصب الطائفي

ويرى هؤلاء أن مواصلة حالة الاستقطاب الطائفي وتزايد خطاب الكراهية من شأنهما إعادة الوضع اللبناني إلى ما عاشته البلاد في مرحلة الحرب الأهلية المدمرة.

وطفت على السطح نقاشات واسعة حول التقسيم الطائفي للبلد في أعقاب الاتهامات التي أطلقها الرئيس ميشال عون وصهره رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، بعد انفجار عكار الذي راح ضحيته 28 لبنانيا.

وأعاد الانفجار وما نتج عنه من تحريض طائفي باب النقاش مجددا حول حاجة لبنان إلى نبذ تلك الطائفية المتغلغلة في نسيج المجتمع، والبحث عن صيغ أخرى غير المحاصصة الحالية بين الفرقاء السياسيين.

وتعد منطقة عكار الأكثر فقرا في لبنان، وطالما اشتكى أهلها من إهمال مؤسسات الدولة كافة وغياب الخدمات عنها. وفاقم الانهيار الاقتصادي الوضع المعيشي سوءا في المنطقة، التي شهدت الثلاثاء الماضي انقطاعا في الاتصالات والإنترنت والكهرباء لعدم توفر مادة المازوت.

وما يعزز من احتمال تلاشي الدولة هو تراجع دور مؤسساتها في المناطق الواقعة خارج العاصمة بيروت، مقابل تنامي دور الأحزاب وأتباعها في تلك المناطق، وهو ما مهد الطريق أمام بروز كيانات صغيرة موازية.

ومن أبرز تلك الأمثلة على هذا الواقع يتمثل في الانعدام شبه الكلي للكهرباء التي تنتجها الدولة في المعامل المركزية لحساب مولدات الكهرباء الخاصة الموزعة في الأحياء والمناطق اللبنانية.

ويُعرف في لبنان أن تلك المولدات تخضع إما لبلديات تابعة لأحزاب سياسية أو يملكها رجال أعمال معظمهم محسوب على الأحزاب السياسية. كما ينطبق هذا الوضع على مسألة تخزين المحروقات، فبدلا من أن تخزن في منشآت تابعة للدولة أصبحت تخزن بطرق غير شرعية في المناطق والبلدات، حيث النفوذ الحزبي يطغى على مؤسسات الدولة.

ويعيش لبنان على وقع انهيار اقتصادي مستمر منذ عامين. ويشهد البلد منذ أشهر أزمة محروقات متفاقمة تنعكس بشكل كبير على مختلف القطاعات من مستشفيات وأفران واتصالات ومواد غذائية.

يقول المحلل السياسي اللبناني منير ربيع إن الواقع الحالي هو “نتيجة أزمات متعددة تضرب لبنان اقتصاديا واجتماعيا وتنذر بانهيار ما تبقى من الدولة ومؤسساتها”، معتبرا أن “بعض القوى السياسية تستثمر في تلك الأزمات بهدف شد العصب الطائفي والمذهبي واستثماره لغايات سياسية أو انتخابية”.

ويعطي مثالا على هذا السلوك ما حصل في أعقاب انفجار عكار وهي منطقة ذات غالبية إسلامية سنية، حيث قال عون إن منطقة الشمال تحوي جماعات متشددة لخلق الفوضى الأمنية، بالإضافة إلى تصريحات صهره جبران باسيل الذي قال إن “عكار أصبحت وكأنها خارج الدولة بسبب قطع الطرقات ومصادرة صهاريج المحروقات”، داعيا إلى إعلانها “منطقة عسكرية”.

ورد رئيس تيار المستقبل سعد الحريري بأن “التهم الموجهة إلى منطقة عكار والشمال باطلة”، وقال إن “عكار ليست قندهار وليست خارج الدولة”.

ويرفض ربيع هذه المقاربة التي تزيد من حدة الانقسام الطائفي، ويقول إن القوى السياسية في لبنان تسعى إلى شد العصب والاستثمار السياسي والمذهبي بالأحداث الجارية في البلاد.

ويؤكد أن هذا السلوك في السياسة ينطوي على مخاطر عديدة، من بينها تعزيز منسوب الانقسام الطائفي والمناطقي الذي يؤسس لدويلات صغيرة، لافتا إلى أن “هناك قوى سياسية لا تهتم إلا بالمناطق المسيحية، في مقابل قوى سياسية أخرى لا تهتم إلا بالمناطق الإسلامية، ما يعزز الانقسام وتدمير الدولة”.

الفساد ومقترح الفيدرالية
تعاني مؤسسات الدولة من الفساد حسب ما تظهره بيانات مؤسسات محلية ودولية. وتطالب الدول المانحة بإجراء إصلاحات جذرية في النظام الاقتصادي للبلاد، بالإضافة إلى إنهاء المحاصصة التي زادت من تفاقم الأزمات اللبنانية.

وتقول الباحثة لينا الخطيب، مديرة برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في معهد تشاتام هاوس الملكي البريطاني للشؤون الدولية، إن “الفساد منتشر في الدولة اللبنانية كما هو الحال في ثقافة الإفلات من العقاب”.

وترى الخطيب أن “الأحزاب السياسية تعامل مؤسسات الدولة كمصدر للدخل، حيث الطوائف إما تتواطأ بنشاط في الفساد وإما تغض الطرف عن جرائم خصومها لحماية نظام آخر يعمل لصالحها”.

ويبرز التعطيل الحاصل في التشكيل الحكومي تلك الرؤية. ويسعى السياسيون إلى السيطرة على الوزارات لتوجيه الموارد والتمويل إلى حلفائهم، وكسب تأييدهم في مناطقهم.

وتوضح الخطيب أنه على الرغم من أن النظام السياسي الحالي “معيب بشكل قاتل”، إلا أنه يتمتع بالمرونة نظرا للمأوى الذي يوفره للفساد والحساسيات الطائفية والدينية المرتبطة بتقسيم السلطة.

وتؤكد الباحثة اللبنانية أن “لبنان يمكن أن يتعافى من أزماته المستمرة من خلال الإصلاح لاستبدال النظام السياسي الحالي” القائم على المحاصصة الطائفية.

ويقول الباحث منير ربيع إن الواقع الحالي والمدمر “خلق كيانات صغيرة في ظل كثرة الحديث مؤخرا عن تنامي نزعة الفيدرالية أو التقسيم في لبنان”.

ووفقا لآخر إحصاء أجرته الشركة الدولية للمعلومات عام 2019 فإن عدد سكان لبنان يبلغ 5.5 مليون نسمة، 69.4 في المئة منهم مسلمون (31.6 في المئة شيعة، و31.3 في المئة سنة)، أما المسيحيون فيشكلون 30.6 في المئة من مجمل السكان.

ويرى الباحث في الشركة الدولية للمعلومات محمد شمس الدين أن اللجوء إلى تقسيم البلاد طائفيا أو مناطقيا كان قد طرح في السابق في بدايات الحرب الأهلية بين عامي 1975 و1990.

ويشير شمس الدين إلى أن هذا الطرح يعتمد صيغة نظام فيدرالي للبنان، يقسم من خلالها إلى عدة مقاطعات وفقا لاعتبارات طائفية. ويكون لكل مقاطعة نظامها الخاص في الإدارة، لكن جميعها تبقى تحت علم واحد وعملة واحدة وجيش وطني واحد وسفارات خارجية واحدة.

وفي مايو من العام الماضي نشر الأمين العام للمؤتمر الدائم للفيدرالية في لبنان ألفرد رياشي، خارطة “مقترح تطبيقي لإنشاء الدولة الفيدرالية في لبنان”، تقضي بتقسيم البلاد وفق 6 كنتونات متداخلة جغرافيا 3 منها للمسيحيين و3 أخرى للمسلمين.

ويشرح شمس الدين أنه في ظل تفكك الدولة وانحلالها، يعتبر البعض أن التقسيم أو الفيدرالية يمكن أن يكون الحل الأنسب للبنان، وقد يشكل مخرجا للوضع الراهن، إلا أنه يستبعد حصول ذلك.

وقال إن هذه الصيغة لم ينجح اعتمادها في الحرب الأهلية على الرغم من أن المناطق كانت شبه منفصلة عن بعضها البعض وكانت الأرضية مهيأة حينها لذلك، لكن لم يحصل. وأوضح أن كل الصيغ تبقى مطروحة نظريا في ظل تردي الأوضاع، لكن لا يمكن تطبيقها فعليا على الأرض ولا حتى دستوريا أو قانونيا.

تستند السياسة في لبنان إلى هيكل طائفي لتقاسم السلطة تم إنشاؤه بعد الاستقلال عام 1943، ويضمن الدستور تمثيل جميع الطوائف الدينية في البلاد في الحكومة والجيش والخدمة المدنية. ويجب تقاسم المناصب الحكومية الرئيسية بين رئيس مسيحي ماروني ورئيس وزراء مسلم سني ورئيس مجلس نواب مسلم شيعي.

وتقول الباحثة لينا الخطيب إنه “للوهلة الأولى يمكن النظر إلى ذلك على أنه محاولة لضمان المساواة في السلطة، لكن النظام معيب للغاية”.

وترى أن التأثير الناتج عن هذا النظام “هو تشكيل نظام ضعيف وفاسد قائم على المحسوبية، حيث يقوم الرجال الأقوياء بتوزيع الوظائف الحكومية لتلقي الولاء من الموظفين بدلا من الكفاءة أو المهارة، بالإضافة إلى أن هذا التقسيم يرسخ الانقسامات الحالية، حيث يضع الطائفة ضد الطائفة في منافسة على الإدارات الحكومية المربحة”.

وينعكس هذا الوضع على الأزمة الحالية عبر المناطقية والطائفية التي تعززت على حساب دور الدولة ومؤسساتها. ويقول الأستاذ الجامعي والناشط السياسي علي مراد إن الأحزاب التي تتزعم الطوائف الكبرى لا تستطيع أن تحل مكان الدولة في المناطق، لكنها قد تفرض كانتونات أمنية لا سياسية.

وقال إن “الأحزاب تعتمد سياسة التخويف من الآخر سعيا لاستمرار تأييد المواطنين في المناطق الخاضعة لنفوذها، من خلال تقديم خدمات ومساعدات للمواطنين”.

لكن مراد يشير إلى أن الأحزاب لن تكون قادرة على تأمين كل ما يحتاجه الناس في ظل الانهيار الاقتصادي، “لذلك تحاول فرض نظرية التخويف من الطرف الآخر سواء أكان هذا الطرف حزبا أم طائفة”.

ولفت إلى أن هذه السياسة المتبعة من قبل الأحزاب تؤدي إلى فرض كونتونات أمنية، وهو ما يشبه الأمن الذاتي في المناطق التي تقع تحت نفوذ الأحزاب. ويضيف أن “هناك بعض المؤشرات تؤكد قيام أحزاب رئيسية في البلاد باتباع هذا الأسلوب، سواء من خلال البلديات أو من خلال المجتمعات المحلية الفاعلة على الأرض”.

العرب