الدولة باعتبارها محركا للاقتصاد والابتكارات

الدولة باعتبارها محركا للاقتصاد والابتكارات

أعاد إعلان البنتاغون عن تطوير تطبيق يستخدم الذكاء الاصطناعي للكشف المبكر عن الأخطار ويمنح المسؤولين القدرة على التنبؤ بالأحداث القادمة، الحديث عن الدور الذي تلعبه الدولة في تطوير التكنولوجيا، وأثار الجدل حول دور القطاع الخاص الذي يصفه البعض بالقطاع الطفيلي، ينمو على حساب الوكالات الحكومية.

عند الحديث عن الابتكارات التكنولوجية غالبا ما يتم التركيز على أسماء شركات عملاقة مثل أبل ومايكروسوفت وإنتل.. وعلى منطقة سليكون فالي في ولاية كاليفورنيا الأميركية بوصفها حاضنة التكنولوجيا الرقمية الذكية.

ولكن إلى أي مدى هذا التصور صحيح؟ وهل حقا أن الإنسانية مدينة لأصحاب المال والأعمال بقائمة طويلة من الابتكارات التي غدت جزءا من حياتنا اليومية؟

أيقونات تكنولوجية
غالبا ما سيتم التحدث عن أسماء مثل ستيف جوبز وبيل غيتس وإيلون ماسك ومارك زوكربيرغ وجيف بيزوس بوصفهم أيقونات العصر الحديث، بينما يتم تجاهل أصحاب الفضل الحقيقيين.

الحاضنة الحقيقية للتكنولوجيا الرقمية والذكية ليست منطقة وادي السليكون بل وكالات حكومية وعلى رأسها تقف وزارة الدفاع الأميركية.

لن نحتاج للذهاب بعيدا للتأكد من أهمية الدور الذي تلعبه الدولة، يكفي أن نلقي الضوء على خبر تناقلته المواقع الإعلامية مؤخرا على عزم البنتاغون استخدام الذكاء الاصطناعي للتنبؤ بالمستقبل وتوقع أي هجوم خاطف والتحضير لعمليات دفاعية أو حتى الغوص في مناقشات دبلوماسية بدلا من الدخول في صراع إذ لم يكشف أي تهديد.

ماذا لو كان لديك مستشار يستطيع تقديم الإجابة عن كل سؤال يوجه له، كل ما يحتاجه هو جزء من الثانية دون الرجوع إلى أي مصادر للمعلومات، وماذا لو كان هذا الشخص قادرا على تحليل المعلومات والربط في ما بينها والخروج باستنتاجات صحيحة في كل مرة يطلب منه فيها فعل ذلك؟

مع الأسف، مثل هذا الشخص لا وجود له، لذلك تلجأ الحكومات إلى فرق بحث ودراسات تستعين بخبراتها في اتخاذ القرارات الأمنية والاقتصادية والسياسية والصحية.

وغالبا ما تفقد هذه التحليلات قيمتها الموضوعية بسبب الميول والقناعات الشخصية الذاتية.

لهذه الأسباب يراهن البنتاغون على الذكاء الاصطناعي للقيام بتلك المهمة من خلال تجميع عدد هائل من المعلومات الصغيرة والتفاصيل الدقيقة، ليس فقط للكشف المبكر عن الأخطار قبل أيام من حدوثها، بل ليمنح المسؤولين القدرة على التنبؤ بالأحداث القادمة.

وهذا ما أكده الجنرال غلين دي فانهيرك رئيس قيادة الدفاع الجوي لأميركا الشمالية، كاشفا عن جهود تبذلها الحكومة الأميركية التي أكملت الاختبار الثالث في سلسلة تجمع بين أجهزة الاستشعار المدنية والعسكرية ضمن برامج تجمع بين الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية. وقد شاركت في التدريبات على هذا البرنامج المسمى (Gide) اختصارا لـ”تجارب هيمنة المعلومات العالمية” إحدى عشر قيادة عسكرية داخل الجيش الأميركي.

ويعتمد هذا النظام على التعلم الآلي لمعالجة البيانات التي يتم جمعها بواسطة أجهزة الاستشعار، وهذا ليس بالأمر الجديد في هذه التكنولوجيا.

ويؤكد الجنرال غلين أن الذكاء الاصطناعي مفيد جدا لتوقع أي هجوم خاطف والتحضير لعملية دفاعية من دون إضاعة الوقت، أو حتى للغوص في مناقشات دبلوماسية بدلا من الدخول في صراع إذ لم يكشف أي تهديد.

ويتوقع أن تدخل هذه المنصة حيز الخدمة الفعلية في ربيع عام 2022 بعد حصولها على التصريح العسكري.

إذا تذكرنا أن أهم الابتكارات التي نستخدمها اليوم في حياتنا العملية والخاصة بدأت في مختبرات تشرف عليها وتمولها وكالات حكومية، ندرك أهمية مثل هذا التطوير الذي لن يقتصر استخدامه خلف أبواب البنتاغون المغلقة، بل سيكون موجودا لتقطف ثماره شركات القطاع الخاص، في قطاعات حيوية أخرى بدءا بالصحة وانتهاء بالقضاء.

وهذا يعيدنا إلى دور الدولة التي تقف خلف معظم الاختراعات التكنولوجية الجديدة، فلولا الدولة لما كان هناك إنترنت، ولا “ويب”، ولا GPS وشاشات اللمس، ولا SIRI وغيرها من التقنيات.

دعونا نبدأ بأيقونة الهواتف المحمولة، آيفون، الجميع يعرف أن الشخص الذي يقف حول هذا الابتكار هو ستيف جوبز، وفريقه في شركة أبل. ولكن، إلى أي مدى يعتبر هذا حقيقة؟

عرض التكنولوجيات المستخدمة في هذا الابتكار، وتحديد الجهة التي تقف خلفها سيسهل المهمة.

نبدأ بالجيل الأول لأجهزة آيبود، التي استخدمت فيها ذاكرة الوصول العشوائي، التي طورتها وكالة المشاريع البحثية الدفاعية الأميركية المتقدمة. وبطاريات الليثيوم طورتها وزارة الطاقة الأميركية. تقنية ضغط الإشارة، وهي نتيجة مباشرة لأبحاث قام بها الجيش الأميركي. شاشات الكريستال السائل شارك في تطويرها كل من المعهد الوطني للصحة ومؤسسة العلوم الوطنية الأميركية إضافة إلى وزارة الدفاع الأميركية. القرص الصلب الصغير تقف خلفه وزارة الطاقة ووكالة المشاريع البحثية الدفاعية المتقدمة التي يعود إليها الفضل أيضا بتطوير المعالج. ومن خارج الولايات المتحدة ساهمت المنظمة الأوروبية للبحوث النووية في تطوير عجلة التحكم.

الأوروبيون ساهموا أيضا في لغة HTML وHTTP التي طورتها المنظمة السابقة نفسها، لتبدأ النقلة من الآيبود إلى الآيفون، والتي تطلبت هي الأخرى اعتماد مجموعة من التقنيات الجديدة، ومنها: شاشة متعددة اللمس، يعود الفضل في تطويرها إلى وزارة الطاقة ووكالة الاستخبارات ووزارة الدفاع، الثلاثة في الولايات المتحدة. سيري، طورتها وكالة المشاريع الدفاعية المتقدمة. وتقنية الخلوي ويعود الفضل في تطويرها للجيش الأميركي.

وما كان لهاتف آيفون الذكي أن يحتل مكانه في جيوبنا لولا الإنترنت. وما ينطبق على آيفون ينطبق أيضا على جميع الأجهزة الذكية.

الحاضنة الحقيقية للتكنولوجيا الرقمية والذكية ليست منطقة وادي السليكون بل الدولة وعلى رأسها وزارة الدفاع الأميركية

في عام 1989 قدّم مهندس الكمبيوتر البريطاني تيم برنرز لي، الذي كان يعمل في المنظمة الأوروبية للبحوث النووية، اقتراحا لتطوير نظام معلومات موزع للمختبر، وبعد سنة ظهر أول موقع إلكتروني في التاريخ، اقتصر يومها على الموجودين داخل المنظمة، ليظهر على شبكة الإنترنت في عام 1991. فقد أنشأ تيم برنرز لي مع زملائه في المنظمة بروتوكول HTTP، ما أعطى منصات الكمبيوتر المتنوعة القدرة على الوصول إلى مواقع الإنترنت. وHTML وهي لغة عالمية لتصميم مستندات الويب، وعناوين URL.

وفي الثلاثين من أبريل من عام 1993 أعلنت منظمة CERN أن شبكة الويب العالمية ملك للجميع، ناشرة الشيفرة الأصلية للمشروع. وعليه بات البرنامج مجانيا ومتاحا للجميع.

باختصار، أهم بروتوكولات الإنترنت والويب هي من إنتاج وكالات حكومية. أما ما نعرفه اليوم من نظام الملاحة العالمي GPS فقد بدأ كبرنامج للجيش الأميركي بين عامي 1959 و1968، عندما ساعدت “داربا” في إنشاء أول نظام للملاحة عبر الأقمار الصناعية، ما سمح للسفن والغواصات بتحديد مواقعها، وأسّس لنظام الملاحة الحالي.

مرّة أخرى يتبين أن الدولة هي التي تقف خلف كل هذه الاختراعات العظيمة.

أضف إلى تلك الابتكارات كاميرا رقمية لتحصل على هاتف ذكي، وهذا ما قامت بعمله أبل.

من اخترع “آيفون”؟ هذا السؤال الذي طرحته الاقتصادية ماريانا مازوكاتو في كتابها “الدولة الريادية: فضح أساطير القطاع الخاص مقابل القطاع العام” المنشور عام 2013، ليس سؤالا بريئا.

تتحدث ماريانا عن دور الدولة باعتبارها محركا للاقتصاد والابتكارات، ولا يقتصر دورها على مجرد التدخل عند الأزمات. لتذكر أن أبرز الابتكارات قامت باختراعها وتطويرها جهات حكومية، تتغذى عليها اليوم الآلاف من الشركات الخاصة. وهي بذلك تدحض كل القصص التي تمنح الفضل في التطور التكنولوجي الذي وصلنا إليه إلى القطاع الخاص وليس الدولة.

في كتابها، تفرد مازوكاتو فصلا خاصا بشركة أبل، التي يصورها الإعلام بأنها أيقونة الرأسمالية. وتقول إن “كل التكنولوجيا التي تجعل هواتف آيفون ذكية وليست غبية تدين بتمويلها للبحوث الأساسية والتطبيقية التي موّلتها الدولة”.

رغم ذلك تقول مازوكاتو هذا بالطبع لا يعني أن ستيف جوبز وفريقه لم يكن دورهم حاسما لنجاح أبل، ولكن تجاهل الدور الذي يلعبه القطاع العام من تلك القصة سيمنع “تفاحات” مستقبلية من أن تولد.

القصة مع أبل لا تنتهي هنا، كما تقول مازوكاتو، بل إن للدولة دورا مباشرا في دعمها، حيث يقدم “برنامج بحوث الابتكار في الأعمال التجارية الصغيرة في الولايات المتحدة تمويلا شديد المخاطر للشركات في مراحل مبكرة جدا؛ هذا البرنامج قام بتمويل شركتي كومباك وإنتل عندما كانتا شركتين مبتدئتين. وبالمثل، قدم برنامج الاستثمار في الشركات الصغيرة، وهو برنامج تابع لوكالة حكومية هي إدارة الأعمال الصغيرة في الولايات المتحدة، قروضا ومنحا حاسمة للشركات في مراحلها المبكرة، بما في ذلك شركة أبل عام 1978”.

ما أرادت الكاتبة أن تصل إليه أن شركة أبل أبعد ما تكون عن منتج مصنوع فقط من قوى السوق. فقد “كان نجاحها يعتمد اعتمادا كبيرا على التمويل العام، الذي تلقّته في وقت مبكر، والتكنولوجيات المموّلة من الدولة التي تقف وراء جميع منتجاتها”.

وعليه، تعيد الكاتبة إيضاح حقيقة شوّهتها بروباغندا أصحاب المال والأعمال “في البلدان التي تدين بنموّها إلى مجال الابتكار، وفي مناطق داخل تلك البلدان، مثل وادي السيلكون لم تلعب الدولة تاريخيا دور المسؤول والمنظم لعملية خلق الثروات فحسب، بل كانت جهة فاعلة ورئيسة في ذلك، وغالبا ما كانت أكثر جرأة وعلى استعداد لاتخاذ مخاطر لم تكن الشركات لتأخذها. وقد كان هذا صحيحا، ليس فقط في المناطق الضيقة التي يدعوها الاقتصاديون ‘السلع العامة’ (مثل تمويل البحوث الأساسية)، ولكن عبر سلسلة الابتكار بأكملها، من البحوث الأساسية إلى البحوث التطبيقية، والتسويق التجاري، والتمويل المبكر للشركات نفسها. وقد أثبتت هذه الاستثمارات أنها تحويلية، إذ خلقت أسواقا وقطاعات جديدة تماما، بما في ذلك الإنترنت والتكنولوجيا النانوية والتكنولوجيا الحيوية والطاقة النظيفة”.

العرب