انتخابات 4 سبتمبر بالمغرب: المتغيرات الثلاثة الأساسية

انتخابات 4 سبتمبر بالمغرب: المتغيرات الثلاثة الأساسية

2015106112421559621_8ملخص:
وقفت السلطة في الانتخابات الأخيرة خلافًا للتقاليد السياسية التاريخية على مسافة “محسوبة” تجاه مجريات العملية الانتخابية، وأبدت مؤشرات الحياد والحرص على إنجاح هذه العملية في جوانب كثيرة منها، لكن مع ضبط لمخرجات انتخابية مهمة مثل الانتخابات الجهوية التي فاز بها كثير ممن لم يتمكنوا من الفوز في مستويات انتخابية أدنى منها.

وأظهرت الأرقام النهائية للانتخابات المحلية والجهوية وجود نوعين من الفوز: الأول: من حيث عدد المقاعد في الانتخابات المحلية وعدد الجهات التي عادت فيها المرتبة الأولى لحزب الأصالة والمعاصرة، والفوز الثاني من حيث الدلالة السياسية والاجتماعية الذي عاد لحزب العدالة والتنمية، بسبب حيازته الكبيرة للتصويت في المدن ودعم تواجده كذلك في المناطق القروية، بالإضافة إلى حصوله على أكبر نسبة تصويت عامة.

وبالنظر إلى محصلة أول انتخابات محلية وجهوية بعد دستور عام 2011 فهنالك نجاح تمثَّل في مسافة الحياد بغضِّ النظر عن حجم هذه المسافة تجاه هذا الطرف أو ذاك. لكن هنالك فشل في توفير منظومة قانونية وسياسية لضبط عملية إدارة التحالفات ونتائجها، ومحاصرة استخدام الأموال المؤثِّرة في هذه العملية.

قدَّمت الانتخابات التي جرت يوم 4 سبتمبر/أيلول وما تبعها من انتخابات تفصيلية ضمن هذه العملية، إجابات عديدة عن تقدم مسار الإصلاح السياسي الذي انطلق عام 2011 ومعه الدستور الجديد الذي تم الاتفاق عليه. وذلك من خلال ثلاثة تحولات أساسية أفرزتها هذه الانتخابات؛ فقد أتاحت مبدئيًّا قياس الحجم والمسافة التي وقفتها السلطة تجاه هذا المسار، وهي مسافة “محسوبة” تقع ضمن إطار سياسي مضبوط لا يسمح بنتائج طبيعية وفق منطق حسابي انتخابي واضح. وأظهرت ثانيًا خارطة الثقل السياسي في الجسم الحزبي تمهيدًا لتنامي دور المدن على حساب القرى مستقبلًا، وهو ما عكسه فوز سياسي لحزب العدالة والتنمية في المدن، وبيَّنت ثالثًا عن الإشكالات السياسية والتنظيمية في إدارة التحالفات السياسية، التي تؤشِّر على تعقيدات قادمة في بناء التحالف الحكومي عقب انتخابات البرلمان عام 2016.

وقفت السلطة في الانتخابات الأخيرة خلافًا للتقاليد السياسية التاريخية على مسافة “محسوبة” تجاه مجريات العملية الانتخابية، وأبدت مؤشرات الحياد والحرص على إنجاح هذه العملية في جوانب كثيرة منها، لكن مع ضبط لمخرجات انتخابية مهمة مثل الانتخابات الجهوية التي فاز بها كثير ممن لم يتمكنوا من الفوز في مستويات انتخابية أدنى منها.

هذه المسافة نفسها والحسابات التي بُنيت على أساسها قد أدَّت من ناحية أخرى إلى وجود مساحة حدثت فيها تحولات مهمة، وأظهرت استمرار وجود فاعلين داخل بنية السلطة لا يزالون محتفظين برؤية تقليدية لضبط إيقاع المشهد السياسي المغربي ربما بدافع التخوف من نتائج الإسلاميين. وضمن المسافة التي أوجدتها السلطة تجاه مجريات الانتخابات الأخيرة وجد الفاعلون السياسيون أنفسهم إزاء إدارة مشهد تراجعت فيه حدود تدخل السلطة المباشر ونتائجه اللاحقة، وأفرز وضعًا مضطربًا في إدارة التحالف والاصطفاف داخل مكونات الأغلبية والمعارضة معًا. ولذلك جاءت نتائج التحالفات بخارطة لم تكن أطراف رئيسية سواء في الأغلبية أو المعارضة تتوقعها.

دلالات التصويت

أظهرت الأرقام النهائية للانتخابات المحلية والجهوية وجود نوعين من الفوز: الأول: من حيث عدد المقاعد في الانتخابات المحلية وعدد الجهات التي عادت فيها المرتبة الأولى لحزب الأصالة والمعاصرة، والفوز الثاني: من حيث الدلالة السياسية والاجتماعية الذي عاد لحزب العدالة والتنمية، بسبب حيازته الكبيرة للتصويت في المدن ودعم تواجده كذلك في المناطق القروية، بالإضافة إلى حصوله على أكبر نسبة تصويت عامة. واستقطب فوز العدالة والتنمية بالمدن الجزء الأبرز من النقاش داخل المشهد السياسي المغربي بسبب دلالاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

يتضمن التصويت في المدن غالبًا بُعدًا ورسالة سياسية على خلاف التصويت في القرى، وتعتبر الدلالة السياسية الأهم لخارطة توزيع الأصوات هي الميول الانتخابية التي أظهرتها الطبقة الوسطى والغنية التي صوَّتت على العدالة والتنمية في المدن. وإذا كان هذا التصويت لا يكتسي طابعًا ثقافيًّا؛ حيث إن هذه الطبقات لم تصوِّت بالضرورة على النموذج الثقافي والفكري لحزب العدالة والتنمية، فإنه ينبغي الأخذ بعين الاعتبار كذلك أنه تصويت لطبقات مثقفة أو تعتبر الأكثر تثقيفًا وتسييسًا بالمغرب، ولا يخلو من كونه تصويتًا على طريقة حزب العدالة والتنمية ونموذجه التدبيري وإدارته للتنمية والمدن. وفي السياق الأعمِّ يصبح ضروريًّا الإشارة إلى أن النماذج التنموية والتدبيرية هي ذاتها لا تخلو من الأبعاد الثقافية؛ حيث يصبح ظهور المنحى الثقافي في إجراءات وتدابير تسيير الشأن العام مسألة وقت فقط. أمَّا من الناحية الوظيفية فإن هذه المهمة تعتبر موكولة إلى هيئة دعوية هي حركة* التوحيد والإصلاح* التي تشتغل على القضايا ذات البعد الثقافي والهوياتي، وهو معطى لا تمتلكه باقي الأحزاب السياسية الأخرى، وهو ما يغني حزب العدالة والتنمية عن خلط الأيديولوجيا بتدبير الشأن العام.

يعرف حزب العدالة والتنمية تركيبة الطبقات التي صوَّتت لصالحه من الطبقة الغنية والمتوسطة والفقيرة؛ ولذلك فإن ردَّه سيتركز في المجال الاقتصادي بسبب وجود شعور عام مشترك لدى هذه الطبقات بأهمية التوازنات الاقتصادية للدولة، وهي الزاوية التي شكَّلت نقطة ارتكاز أساسية في خطاب العدالة والتنمية السياسي، وفي برنامجه الحكومي للسنوات الماضية.

لدى الطبقة الغنية والمتوسطة خياراتها الثقافية والفكرية الخاصة بها، والتي لا تستطيع السلطة ولا حزب مثل العدالة والتنمية التأثير فيها ولم تتمكن كذلك أحزاب اليسار في الماضي من التأثير فيها. وهو نموذج اجتماعي يمزج بين الحس الديني والانفتاح في آن واحد.

أظهر فوز حزب الأصالة والمعاصرة في المناطق القروية هشاشته في مناطق الكثافة السكانية والثقل السياسي والاقتصادي، وتعثُّر الخطاب السياسي والثقافي لهذا الحزب ونموذجه التدبيري في استمالة الناخبين في المدن الكبيرة والمتوسطة وفي عدد من المدن الصغيرة. ويفتح هذا المعطى الباب لإعادة تقييم مدى صلابة الرهان عليه سواء لإحداث التوازن أو فرملة حزب العدالة والتنمية من ناحية، أو مدى قدرته على الاستمرار في تشكيل حاضنة لجمع شمل قوى المعارضة التي اصطفت معه في الفترة الماضية، وتوظيف عدد من مكوناتها في مواجهة العدالة والتنمية من ناحية أخرى.

على مستوى القراءة الخارجية، فإن نتائج الانتخابات المغربية تعني الكثير بالنسبة لقوى دولية، وتنطوي نتائجها على دلالات مهمة، أهمها: المدى الذي توجد عليه العلاقة بين إسلاميي العدالة والتنمية وقوى خارجية لها علاقات تأثير وتأثر بالمغرب مثل الولايات المتحدة الأميركية التي اعتبرت الانتخابات مندرجة ضمن مسار سياسي سليم، ثم الموقف الفرنسي الذي كان أكثر ديناميكية، وظهرت تفاصيله خلال الزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند للمغرب في شهر سبتمبر/أيلول، والتقى فيها رئيس الحكومة عبد الإله بن كيران الذي يعرف الرئيس هولاند أن حزبه سيدير المدن التي توجد بها مصالح اقتصادية فرنسية عديدة.

تعامل الموقف الفرنسي في اتجاهه العام منذ عام 2011 الذي شهد تحولات بالمغرب مع صعود الإسلاميين، على أساس أن المجتمعات العربية لها توجهات نحو اختيار الإسلاميين في الانتخابات، لكن في الحالة المغربية اعتبرتهم فرنسا “إسلاميي الملك”، وأن الحالة المغربية انتقال سياسي مؤطَّر ومنضبط من حيث الإيقاع”(1). وكان حينها رئيس الدبلوماسية الفرنسية عام 2011 آلان جوبي قد صرَّح بأن إسلاميي العدالة والتنمية لديهم مواقف حداثية ومعصرنة؛ وهو ما دفع مجلة (le point) الفرنسية إلى أن تصف تلك التجربة عام 2011 بعنوان كبير “إسلاميُّو الملك”(2). ومنذ ذلك الحين وضعت فرنسا إطارًا عامًّا للتعامل مع حزب العدالة والتنمية لا يزال مستمرًّا. ويبدو أن إدارة حزب العدالة والتنمية للمدن سوف تمثِّل في نفس الوقت مساحة لإدارة العلاقة مع فرنسا الشريك الاقتصادي والسياسي التاريخي للمغرب.

لعبة التحالفات في غياب الإطار القانوني والسياسي الضابط

أظهر المسار الذي مضى فيه بناء التحالفات بعد الانتخابات استمرار وجود إشكالية حقيقية بالنسبة لتنزيل المضامين المتقدمة سياسيًّا لدستور عام 2011 الذي منح -كإطار عام- أحقية تشكيل الحكومة للحزب الفائز الأول. لكنَّه من حيث التفاصيل الأدنى، كما ظهر في انتخابات الجهات، لا تزال المنظومة القانونية والسياسية غير قادرة على توفير آلية للربط بين تمثيل الناخبين وأحجام القوى السياسية في المجالس المنتخبة. وهذا ما سبَّب ظهور تحالفات غريبة جعلت خاسرين انتخابيًّا ممثِّلين لفئات عريضة من الناخبين؛ حيث يسمح الفراغ التشريعي والسياسي في هذا الباب بإعادة خلط ترتيب القوى السياسية وتموقع الأحزاب، وإعادة توجيه محصلة التصويت المباشر بشكل مختلف ويؤثِّر سلبًا في زاوية مصداقية العملية السياسية.

تحولت آلية التحالفات بوضعها الحالي إلى أهم مخرج لتفادي نتائج الخسارة المباشرة في الانتخابات، ووفرت هذه الآلية مساحة كبيرة للابتزاز وعقد الصفقات السياسية، والتحكم في التصويت العام المباشر. وخلقت عملية إدارة التحالفات تعقيدات لكل الأحزاب السياسية، ومثلما أظهرت تناقضات في صفوف الأغلبية الحكومية، فإنها فجَّرت تناقضات تماسك المعارضة التي أعلن أحد أقطابها حزب الاستقلال عن تغيير وجهته نحو مساندة نقدية للحكومة، وذلك بعد الفشل في تحصيل نتائج انتخابية كان يفترض حسب تقديره الحصول عليها.

ولَّدت الطريقة التي نُسجت بها التحالفات نقاشًا حول فكرة بديلة أخرى للتخلص من آثارها، وظهرت في النقاش الاجتماعي والسياسي على مستوى وسائل التواصل الاجتماعي، وتتمثل في أهمية* الاكتساح الانتخابي* والبحث عن الفوز العريض الذي يريح من عناء البحث عن الشركاء السياسيين. وعلى قدر ما تبدو فكرة الاكتساح مخرجًا لمعالجة تعقيدات التحالف، إلا أنها على المدى البعيد تشكِّل خطرًا على فكرة أهم وهي التوافق والشراكة في بناء الدولة.

خيارات سياسية بالأفق

يبدو حزب الاستقلال بعد انجلاء غبار المعركة الانتخابية التي “أسقط فيها كثيرًا من الريش”، كما يظهر من موقفه الأخير بسلوك المعارضة النقدية، أنه يسعى إلى أن يكون ورقة ترجيحية مهمة في تشكيل الحكومة القادمة بعد انتخابات عام 2016. ويرجح أن تكون السنة المتبقية من عمر الحكومة الأكثر هدوءًا سياسيًّا مقارنة بالسنوات الماضية من ناحية فاعلية معارضة حزب الاستقلال.

ترك حزب الاستقلال الحكومة وراهن على البحث عن صفقة سياسية رفقة حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بعيدًا عمَّا تفرضه موازين القوى لضمان الظفر بتسيير الشأن العام، منذ خروجه من الحكومة في نسختها الأولى. ولم تكتمل هذه الصفقة السياسية خاصة بعد اتضاح نتائج الانتخابات وخروج وزارة الداخلية في مواجهة أمين عام حزب الاستقلال، حميد شباط، واتهامه بابتزاز الدولة للحصول على رئاسة إحدى الجهات؛ حيث إن السلطة أو جزءًا منها قد يرغب في دعم خيار تغيير وجهة وخطاب حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي في المرحلة القادمة، بعد اتضاح ضعف وعدم مردودية الخطاب السياسي للمعارضة في السنوات الأخيرة والآثار العكسية التي أحدثها. وهذا الشعور بتغير الأحوال هو الذي يدفع أمين عام حزب الاستقلال إلى القيام بردود أفعال قوية وتسخير عدد من القيادات للرد على رسائل وزارة الداخلية. ولأن الخيارات قد ضاقت أمام أمين الاستقلال بحثًا عن إنقاذ مستقبله السياسي ورمزية حاول صنعها في السنوات الماضية، وعدم وفاء زملاء المعارضة بوعودهم؛ فقد لجأ إلى آلية ما وصفه وزير الداخلية بالابتزاز. ولأن الدولة تفضِّل مفهوم “الدور والوظيفة” وترفض “الابتزاز” فإن الدفع باتجاه دعم التغيير داخل حزب الاستقلال سيكون مرجَّحًا.

أظهر الموقف الأخير لشباط باقتراح المساندة النقدية للحكومة والتحول المفاجئ مدى سيطرة منطق ردِّ الفعل في سلوك قيادة الحزب وحالة الاضطراب الناتجة عن عدم جني ثمار التحالفات القديمة داخل المعارضة، لكنه في نفس الوقت يسعى لتقديم شكل جديد وبديل متاح للتحالف مع العدالة والتنمية في حال حدوث أي تغيير في صفوف الأغلبية، خروجًا من وضعية “ضحية التحالف مع حزب الأصالة والمعاصرة”. وفي الوقت ذاته، فإن تصريحات وزير الداخلية الأخيرة تجاه شباط لا شك تحفِّز عملية الفرز داخل الحزب تمهيدًا لتغييرات ممكنة.

بين الأصالة والمعاصرة والعدالة والتنمية: ما هو الممكن؟

مثّل حصار حزب العدالة والتنمية فكرة أساسية وراء تأسيس حزب الأصالة والمعاصرة، ومن المفارقات التي نتجت عن الانتخابات الأخيرة تحول عكسي نتج عنه محاصرة حزب العدالة والتنمية لحزب الأصالة والمعاصرة في المدن. وإذا سلَّمنا بفرضية رهان السلطة أو الدولة العميقة على حزب الأصالة والمعاصرة فإن ذلك يكتنفه الكثير من الصعوبات؛ فقد خرج الحزب خاسرًا من معركة المدن؛ حيث إدارة القرارات السياسية والاقتصادية، رغم عودته في رئاسة عدد من الجهات. وستزداد التحديات بالنسبة إليه مستقبلًا من حيث مدى قدرته كذلك على الاستمرار في كسب ودِّ أحزاب المعارضة التي خرجت خاسرة جرَّاء التحالف معه مثل حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي.

الوصال السياسي مقطوع بين الحزبين الفائزين سياسيًّا وعدديًّا حتى اللحظة، بل إن قيادة حزب العدالة والتنمية تتجه لاتخاذ إجراءات ضد أعضاء من الحزب صوَّتوا محليًّا لحزب الأصالة والمعاصرة. وهنالك اعتبارات تجعل مهمة التقارب وحتى التحالف مستقبلًا بين الحزبين صعبة جدًّا، لكنها ليست مستحيلة في المنطق السياسي. ومن الناحية التاريخية، فقد كان خطاب حزب العدالة والتنمية ضد “تجمع الثمانية” الذي تشكَّل من عدد من الأحزاب السياسية قبيل انتخابات عام 2011 شرسًا تجاه حزب التجمع الوطني للأحرار ورئيسه صلاح الدين مزوار، لكن ذلك المسار نفسه انتهى بتحالف بين الجانبين في النسخة الحالية للحكومة وأثبت إمكانية استمراره.

وعلى مستوى قواعد حزب العدالة والتنمية فقد جرى نقاش كبير حول تداعيات التحالفات، لكن على مستوى القيادة اختلفت الأمور؛ حيث أمضى قياديُّو الحزب ما وصفه أنصاره بأنه “خيانة سياسية” بهدوء، ولم تكن هنالك ردود أفعال قوية، لأن اتخاذ مواقف سياسية حادَّة حاليًا لاشك سيكون له تداعيات في الانتخابات البرلمانية المقبلة، والتي قد يحتاج فيها الإسلاميون إلى حلفاء الأمس. لكن من ناحية أخرى، يبدو حزب التجمع الوطني للأحرار في موقف سياسي أضعف من حيث قدرته على توظيف معطى التحالفات الذي أتقنه في المرة الأخيرة، في التشكيل الحكومي القادم، إذا قدَّم حزب الاستقلال نفسه بديلًا متاحًا للتقارب مع حزب العدالة والتنمية.

تطرح فكرة تحالف مستقبلي بين حزب العدالة والتنمية وحزب الأصالة والمعاصرة تعقيدات كبيرة ضمن أي سيناريو مفترض للتحالف، فقادة الأصالة والمعاصرة بنوا شرعيتهم على مواجهة الإسلاميين، وهو ما يتطلب القيام بمراجعات ضمن عقيدة الحزبين معًا، بسبب أن المواجهة بينهما تكاد تكون قد تحولت إلى عقيدة سياسية بالنسبة للجانبين، وقد مثَّل هذا الخط وصفة سياسية ناجحة لكسب تأييد شرائح واسعة من الناخبين بالنسبة للعدالة والتنمية. وظهر ذلك في أغلب المحطات الانتخابية التي عرفها المغرب منذ عام 2011 والمساحة الكبيرة التي تمنح لحزب الأصالة والمعاصرة في خطاب العدالة والتنمية السياسي. إلا أنه لا يرجح أن يتوقف استهداف هذا الحزب ورموزه في المدى القريب، لأن هذا الخط لا يزال يوفر مخزونًا هائلًا للعدالة والتنمية من ناحية الأصوات الانتخابية وصياغة اتجاهات التصويت.

تفاعلات انتخابات سبتمبر/أيلول لم تقف عند الأحزاب السياسية؛ فجماعة العدل والإحسان التي لديها موقف تقليدي بالمقاطعة والدعوة لمقاطعة للانتخابات التي تعتبرها مندرجة في سياق غير مقبول سياسيًّا بالنسبة إليها، تتأثر أيضًا بهذا المسار الذي تقاطعه، ولا تستطيع أن تنأى بنفسها عن مجرياته ونتائجه؛ ذلك أن أي إنجاز قد يتحقق ضمن المسار السياسي الإصلاحي في المغرب بشكل عام سيكون على حساب رؤية الجماعة، وينتقص من رصيد مشروعها السياسي القائم على رفض مجمل هذه العملية السياسية، وتفضيلها سيناريو خلط الأوراق تمهيدًا لبدائل أكثر جذرية. ولذلك، صرَّح مبكرًا نائب أمين عام الجماعة، فتح الله أرسلان، وناطقها الرسمي قبل إعلان النتائج بأن “النتيجة واضحة تتمثل في توالي انحسار جاذبية هذا الخيار بالتقلص المستمر في عدد المسجلين في اللوائح الانتخابية، رغم الجهد والمال الكبيرين الذين ترصدهما الدولة لاستمالة الناس”(3)، وأن “الرهان على التغيير بالمشاركة من داخل المؤسسات الفاسدة، مع تقديرنا لأصحابه، ثبت فشله المطلق طوال 60 سنة الماضية، ولم يزد الاستبداد إلا تجذُّرًا والفساد إلا انتشارًا ومشروعية”(4).

في الطرف المقابل للعملية السياسية في المغرب تقف العدل والإحسان التي صدر عنها في الآونة الأخيرة تصريحات تعيد تأكيد تمسكها بشروطها للتفاوض والحوار مع الدولة. ويظهر في ثنايا حديث أمينها العام، محمد العبادي، أن مسألة تكوين حزب سياسي ليست أولوية كبيرة، وأن تشكيل “الحزب السياسي نقطة في بحر الإشكالات الكبرى”(5). ويبدو أن الحديث عن الحوار والشروط يعتبر حديثًا عن “صفقة سياسية” وبحثًا عن وضع سياسي خارج قواعد اللعبة السياسية بوضعها الحالي. وربما تُلقي الجماعة* بالونات اختبار* للسلطة لكنها لم تتلقَّ عليها ردًّا حتى اللحظة من طرف الدولة التي يصعب أن تقبل بتفاهمات خارج القواعد السياسية المتفق عليها بين الملَكية وباقي الفاعلين السياسيين على خلاف رغبة الجماعة.

خاتمة

لا شك أن انتخابات سبتمبر/أيلول الأخيرة مختلفة بشكل كبير عن الانتخابات التقليدية التي عرفها المغرب في السابق، وبالنظر إلى محصلة أول انتخابات محلية وجهوية بعد دستور عام 2011 هنالك نجاح تمثل في مسافة الحياد وإجراءاته تجاه الانتخابات، بغضِّ النظر عن حجم هذه المسافة تجاه هذا الطرف أو ذاك. لكن هنالك فشل في توفير منظومة قانونية وسياسية لضبط عملية إدارة التحالفات ونتائجها، ومحاصرة استخدام الأموال المؤثرة في هذه العملية.
____________________________
كمال القصير – باحث في مركز الجزيرة للدراسات- مسؤول منطقة المغرب العربي.

الإحالات
1-Maroc : les islamistes de Sa Majesté: ARMIN AREFI – 28/11/2011
http://www.lepoint.fr/monde/maroc-les-islamistes-de-sa-majeste-28-11-2011-1401535_24.php
2- المصدر السابق:
http://www.lepoint.fr/monde/maroc-les-islamistes-de-sa-majeste-28-11-2011-1401535_24.php
3 – العدل والإحسان تعلن فشل انتخابات المغرب وانتصار المقاطعة، عربي 21، بتاريخ: 3 سبتمبر/أيلول 2015،
http://arabi21.com/story/856331/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%AF%D9%84-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%AD%D8%B3%D8%A7%D9%86-%D8%AA%D8%B9%D9%84%D9%86-%D9%81%D8%B4%D9%84-%D8%A7%D9%86%D8%AA%D8%AE%D8%A7%D8%A8%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%BA%D8%B1%D8%A8-%D9%88%D8%A7%D9%86%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%82%D8%A7%D8%B7%D8%B9%D8%A9
4- نفس المصدر السابق.
5- العبادي: مستعدون للحوار مع الدولة بشروط والعدل والإحسان لن تتحول إلى نادٍ سياسي، جريدة المساء بتاريخ: 4 أكتوبر/تشرين الأول 2015،
http://www.almassaepress.com/%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%a8%d8%a7%d8%af%d9%8a-%d9%85%d8%b3%d8%aa%d8%b9%d8%af%d9%88%d9%86-%d9%84%d9%84%d8%ad%d9%88%d8%a7%d8%b1-%d9%85%d8%b9-%d8%a7%d9%84%d8%af%d9%88%d9%84%d8%a9-%d8%a8%d8%b4%d8%b1/

كمال القصير

مركز الجزيرة للدراسات