يُعيد التاريخ نفسه، لكن بمهزلة هذه المرة. كانت شكوى رئيس وزراء العراق عبدالمحسن السعدون (انتحر 1929) من الإنجليز، وهذه المرة تأتي شكوى رئيس الوزراء حيدر العبادي من الساسة العراقيين، ممن يدعي أنه كان معارضاً ومجاهداً من أجل «وطن حر وشعب سعيد». صحيح أن هذا الشعار رفعه الحزب الشيوعي العراقي، وما زال يوشح صحيفته «اتحاد الشعب»، لكن الأحزاب كافة رفعته ضمناً، فالكل كانوا يتحدثون عن حرية الوطن من الاستكبار، حسب المنطق الديني السياسي، ومن الفاشية حسب منطق الآخرين. والكل كانوا يتحدثون عن سعادة الشعب، ومَن ينكر أنه لم يتبن هذا الشعار، في المعارضة والدعاية الانتخابية، بمضمونه لا لفظه، فصحفه ستكذبه.
كانت كلمة السعدون التي انتحر إثرها شائعةً: «العراقيون يريدون والإنجليز يرفضون»، وحصل أن أجريتُ مقابلةً مع القاضي والمحقق عبود الشَّالجي (ت 1996)، وكان كاتب ضبط تلك الجلسة في البرلمان، سألته هل سمعتها، قال: «نعم ونصها: الشعب يريد الاستقلال والإنجليز لايريدون» (مجلة النور، العدد 50 لسنة 1995)، والمعنى واحد بين الشائع وما قيل. فالسعدون الذي أُتهم بالعمالة للإنجليز كان لا يجد إمكانية إعلان الاستقلال، وقالها بصوت عالٍ: «نحتاج إلى قوة وسلاح ونحن لا نتمكن من توفير ذلك حالياً»، فغضب عليه دعاة الاستقلال والإنجليز معاً، فما كان يتحمل التهم فانتحر.
نعم، في البرلمان الحالي لم يعترض أحد، وحضرت الأغلبية المطلقة ووافقت على ما تقدم به العبادي، من إصلاحات إذا طُبقت صادقةً ستهز مضاجع حيتان الفساد في الدولة العراقية: إلغاء مناصب نيابات رئاسة الجمهورية والوزراء، حسم ازدواجية الجنسية لدى المسؤولين، إلغاء العمل بالوكالات في الوزرات، استقلال مؤسسات الدولة: النزاهة والبنك والقضاء، والأهم فتح ملفات الفساد الكبرى، بداية من صفقة الأسلحة الروسية، وتسليم الموصل، وأجهزة كشف المتفجرات، وبغداد عاصمة الثقافة، والنجف عاصمة الثقافة الإسلامية، إلى عقارات المنطقة الخضراء، والجادرية، والكاظمية وجامعة البكر وغيرها كثير.
كانت موافقة البرلمان بالإجماع تقيةً مما يحدث في الشارع، لأن الكتل السياسية كافة أصبحت أمام الناس وجهاً لوجه، وليس بينها إلا القليل الذي قلبه ولسانه مع التظاهرات، فأي اعتراض على الإصلاحات سيجعل بوابة البرلمان هدفاً للغاضبين على الاستهتار بالثروات والأرواح والوطن كاملاً. ربَّما سيكون إلغاء مناصب النيابات أسهل على أصحابها مِن فتح ملفات الفساد، وهنا إذا ما اعترضت المحكمة العليا كعادتها برئاسة القاضي مدحت المحمود ستكون هي الهدف أيضاً، وقد نشر المتظاهرون دعوةً إلى جمعة تظاهرات سميت «جمعة القضاء»، فإذا فسد القضاء انتهى الأمرُ.
ليس مِن السهل أن يستسلم الفاسدون بلا جرأة وحسم وقوة، يستطيع رئيس الوزراء تحقيق ذلك اعتماداً على قوة الناس وتأييد المرجعية الدِّينية، مع علمنا أن أصواتاً علت لإحباط التظاهرات، بأنها جاءت تأييداً للإصلاحات أو أنها جاءت بتوجيه من المرجعية. فهذا غير صحيح بل الإصلاحات فرضتها التظاهرات، والمرجعية أيدتها ولم تصنعها، فالأخيرة لعشر سنوات تتحدث ولم يسمعها أحد، نقول هذا كي لا يُقلل مِن مسؤولية الناس ويقظتهم.
كانت تظاهرات واعية أسقطت كل حسابات الطائفيين، ومحاولاتهم لاستغلال الطائفية من أجل تثبيت المحاصصة. لم يبق أمام العبادي إلا المضي بحزم، خارج دوائر حزبه «الدَّعوة»، لأن قادةً وأعضاءً فيه متورطون بالفساد، وباغتنام المناصب خارج الكفاءة والخبرة، وبتأسيس جماعات مسلحة خارج القانون. إنها فرصة أمامه لتشكيل فريقه خارج المحاصصة. لا نريد له مصير عبدالمحسن السعدون، عندما يضيق به الحال ويُحاصر قد يلجأ للانتحار، لكن عليه أن يكون واضحاً وضوحه، فإذا كان تنفيذ المطالب بحاجة إلى سلاح وقوة، تلك التي رغب السعدون بتوفرها، فهي مبذولة للعبادي في حناجر الناس وأيديهم. فلا يخشى الفاسدين.
من المضحك المبكي أن جميع الكتل أعلنت تأييدها للمتظاهرين، ولا نغفل عامل التقية من غضبهم، لكن من الذي فسد بالمال العام، وأدى بالعراق إلى هذه النتيجة؟ هنا أتذكر ما قرأته عند ابن واضح اليعقوبي (ت292هـ)، وهو يروي فاجعة كربلاء (61هـ). يقول: إن علي بن الحسين المعروف بالسجاد (ت94هـ)، الذي سلم مِن القتل، نظر متعجباً في طرقات الكوفة للباكين عليهم، وقد خرجت نساء الكوفة يصرخن ويبكين، فقال: هؤلاء يبكين علينا فمَن قتلنا؟» (تاريخ اليعقوبي).
أقول إذا كانت الكتل السياسية والشخصيات كافة قد تضامنت مع طلبات المتظاهرين في محاكمة الفاسدين، فمَن فسد وتسبب بهدم العراق؟ ولهم الحق بالقول: «كلهم يؤيدوننا فمَن سرقنا»! قد يطول الحسم ولسان حال العبادي يقول: «العراقيون يريدون والسَّاسة يرفضون»!
رشيد الخيّون
جريدة الاتحاد