بات شبح أفغانستان يخيم جديا على دول الساحل الأفريقي التي تواجه العديد من الجماعات الجهادية التي ألهمت انتصارات حركة طالبان قادتها وهو ما يصعّد من المخاوف لاسيما أن فرنسا تسير على خطى الولايات المتحدة في الانسحاب من المنطقة والمراهنة على جيوش منهكة وحكومات ليست لها شرعية شعبية.
انعكست التطورات المتسارعة في أفغانستان بعد سقوط كابول في أيدي مقاتلي حركة طالبان على الترجيحات المتعلقة بمستقبل الحركات المسلحة التابعة لتنظيمي القاعدة وداعش في دول الساحل الأفريقي في ظل التشابه اللافت بين الحالتين في العديد من المجالات.
أزال سقوط كابول ما تبقى من بريق مشروع مكافحة الإرهاب الذي كانت تقوده فرنسا منذ عام 2013 بالتعاون مع دول الساحل الأفريقي بشراكة دولية محدودة، خاصة أن باريس بدأت بالطريقة نفسها تحاكي نظيرتها الأميركية بعد إعلانها عن خطط انسحاب تشي باستشعارها أن المعركة في منطقة الساحل باتت خاسرة بكل المقاييس.
لم تحدد فرنسا إطارًا زمنيًا لإتمام عملية الانسحاب كما فعلت الولايات المتحدة في أفغانستان، لكن ما أعلنه الرئيس إيمانويل ماكرون في أغسطس الجاري خلال قمة افتراضية جمعته بزعماء مجموعة دول الساحل بشأن إغلاق القواعد الفرنسية في شمال مالي في النصف الثاني من العام الجاري وتقليص عدد القوات إلى النصف في إطار إعادة صياغة الوجود العسكري الفرنسي في القارة ينبئ بمقدار الإحباط الذي تستشعره باريس ويشير إلى أن رحيل فرنسا عن المنطقة مجرد مسألة وقت.
على خطى واشنطن
ينطوي ما تقوم به القوات الفرنسية، حيث تغادر مناطق تيساليت وكيدال وتمبكتو وتنتقل إلى مسافة أبعد باتجاه الجنوب على طريق غاو وميناكا قرب المثلث الحدودي بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو، على خطة مدروسة ومتدرجة لإجلاء كل الجنود في المنطقة وعددهم خمسة آلاف ومئة جندي خلال عام أو اثنين على الأكثر، لأن فرنسا تدرك أن طرحها المتعلق بالمشاركة في ائتلاف دولي يدعم القوات المحلية كبديل عن استراتيجية تدخلها السابقة لن يجد الاستجابة المرجوّة من العديد من الدول الغربية.
ووفق الخطط الأميركية الحالية المتعلقة بسحب القوات وعدم التورط في حروب بعيدة ومكلفة لن تقوم واشنطن بسحب قواتها من أفغانستان لترسلها إلى أفريقيا، ولا تجد الدول الأوروبية من واقع حال القوات الفرنسية على الأرض وما تعانيه من مشكلات في حسم الصراع لصالحها ما يحفّزها على ضخ المزيد من قواتها لمساعدة فرنسا التي وجدت نفسها عالقة في صراع ممتد كلفها خسائر بشرية في صفوف قواتها، فضلًا عن خسائرها المادية.
باتت فرنسا الآن تسير على طريق الولايات المتحدة التي تطوي حربًا استمرت لعقدين في أفغانستان وأنفقت الكثير عليها وخسرت عددا كبيرا من جنودها في معارك ضد جماعات سريعة الحركة ومتمرسة على القتال والتنقل وسط تضاريس وعرة.
توفر حسابات المصلحة الذاتية والضغوط التي تُمارَس على الرئيس الفرنسي الدافع الذي يهوّن في نظره من الانتقادات الموجهة للرئيس الأميركي جو بايدن نتيجة خطة الانسحاب الفاشلة التي طبقها في أفغانستان والتي أدت إلى زحف طالبان السريع على كابول وهروب الرئيس الأفغاني وانهيار الجيش وقوات الشرطة، فغالبية الرأي العام الفرنسي تؤيد الانسحاب من مالي ومنطقة الساحل بصفة عامة.
تحتشد أمام الرئيس الفرنسي جملة من العوامل المحبطة والضاغطة تجعله يفكر في تأمين خطة للخروج، بصرف النظر عن المقاربات المتعلقة بالطبيعة العالمية للتهديد الإرهابي في منطقة الساحل والصورة السلبية التي انطبعت في الأذهان تحت عنوان الهزيمة الأميركية المخزية في الساحة الأفغانية.
رغم العديد من الاختلافات الجوهرية بين الأوضاع في أفغانستان ونظيرتها في الساحل الأفريقي إلا أن المشتركات تسمح بعقد المقارنات والتنبؤ بمآلات مشابهة، ففرنسا صارت على قناعة بضرورة رمي الكرة في ملعب الشركاء المحليين حيث ترتكز خطة العمل الفرنسية الجديدة على الدفع بالجيوش المحلية لتصبح في طليعة الجهد الأمني والعسكري.
اختبار الجيوش المحلية
ومن المؤكد أن أيّ خطوة من قبل فرنسا لتخفيض قواتها تمهيدًا للانسحاب الكامل من شأنه أن يخلق في الساحل الأفريقي واقعًا مماثلًا بالحالة الأفغانية قبيل زحف طالبان على كابول وسيطرتها على البلاد، حيث سيجعل دولًا مثل النيجر ومالي وبوركينا فاسو في مواجهة مباشرة مع تنظيمات مدربة ومجهزة بعتاد وأسلحة متطورة، وهو خطر غير متمركز في مناطق محدودة بل ينتشر بشكل أكبر في كامل المساحة التي اتسع بها نطاق معركة فرنسا ضد الإرهاب عبر أراض شاسعة في جنوب الصحراء.
ماكرون يواجه جملة من العوامل الضاغطة تجعله يفكر في تأمين خطة للخروج بصرف النظر عن التهديد الإرهابي بالساحل
الانسحاب الفرنسي المتوقع من الساحل الأفريقي قريب من الانسحاب الأميركي من أفغانستان ويحمل اختبارا لقدرة الجيوش المحلية، وحتى تتفادى فرنسا تكبد المزيد من الخسائر في العتاد والرجال تنظر إلى مهمتها باعتبارها قد أُنجزت بنجاح وتقرر الرحيل مُجبِرَة دول المنطقة على تحمل المزيد من المسؤولية في مجابهة الإرهاب، ما يكرّس لمعادلة شبيهة بالمعادلة الأفغانية حيث الاعتماد على جيوش لا تزال ضعيفة ومفككة رغم الإنفاق السخي عليها وجهود التدريب والإعداد التي استمرت لسنوات.
تتشارك الحكومة الأفغانية التي نحّتها طالبان بالقوة عن السلطة مع بعض حكومات دول الساحل الأفريقي في التعويل الكامل على الوجود الأجنبي لضمان بقائها واستمرارها وصمودها في مواجهة الجماعات الإرهابية وحركات التمرد، وهو ما أثناها في الحالتين الأفغانية والأفريقية عن إجراء إصلاحات مؤسسية تجعلها قادرة على كسب الشرعية السياسية والتعاطف الشعبي وعلى فرض الاستقرار والأمن.
خدمت أحداث أفغانستان معنويات الجماعات المسلحة في دول الساحل الأفريقي التي صارت تترقب عن كثب مغادرة القوات الفرنسية لتنفرد بمواجهة جيوش ضعيفة وحكومات تفتقر للشرعية الشعبية، وهو ما يعجّل بمد نفوذها وتطويق الساحل الأفريقي الذي تجتمع فيه أشد التحديات التي تواجه دول العالم.
تعتبر الجماعات المتشددة التابعة للقاعدة أو داعش تقليص عدد القوات الفرنسية الموجودة في دول الساحل الأفريقي انتصارا لها يزيد من وتيرة تنفيذ الهجمات ضد القوات الرسمية بعد أن صارت تمتلك النموذج المستنسخ من الحالة الأفغانية لكيفية كسر إرادة الحكومات المدعومة من الخارج.
أصبحت الجماعات المسلحة الناشطة في دول الساحل الأفريقي مثل تحالف نصرة الإسلام والمسلمين الذي يدعمه فرع تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وولاية داعش غرب أفريقيا وحركة التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا وحركة أنصار الإسلام أكثر جرأة بعد ما لاحظته من تقدم خاطف وسريع لطالبان، ما يعني أنها حصلت على شحنة معنوية هائلة إلى جانب ما تمتلكه من أسلحة متطورة وطائرات مسيرة لتحقيق المزيد من الانتشار على الأرض والتأهب لملء الفراغ بعد الانسحاب الفرنسي ومحاولة احتلال مواقع وتمركزات القوات الحكومية.
تشهد الجماعات الجهادية في دول الساحل الأفريقي ضغوطا قليلة عليها في مجال محاربة الإرهاب، فبعد مقتل الرئيس التشادي إدريس ديبي الذي كانت تشاد تحت قيادته واحدة من أقوى الجهات الأمنية لدول الساحل الخمس وبعد انقلابي مالي فقدت المنطقة جهود القوات الفرنسية التي كانت بوصلة تحدد اتجاه وخطط ملاحقة التشكيلات الإرهابية المسلحة بعد الإعلان عن الانسحاب الفرنسي المتدرج، في الوقت الذي يحظى فيه الجهاديون بنسخة تمكين جاهزة تدفعهم للمزيد من تكريس النفوذ من منطلق التنافس الجهادي مع طالبان أو سيرًا على خطاها وتشبهًا بها.
كانت الجماعات المتطرفة المسلحة في الساحل الأفريقي تصر على ضرورة مغادرة القوات الفرنسية قبل أن تقبل بالتفاوض مع الحكومات المحلية، والآن قد تفكر الحكومة الفرنسية نفسها في إجراء حوار مع بعض تلك الجماعات، حيث تدرك عدم مقدرة القوات المحلية على منع التنظيمات المدججة بأنواع مختلفة من السلاح من شن هجمات ضد القوات الفرنسية بعد تخفيضها وأثناء إجلائها.
تعاني الحكومات المحلية حاليًا من مأزق بالغ التعقيد حيث لا تحظى بقبول شعبي وتسبب فسادها ومظالمها في تغذية الجماعات الموالية للقاعدة وداعش وتقوية شوكتهما، وهي الآن بعد أن سعت للتفاوض مع القاعدة دون داعش ثم مع كليهما بعد الانقلاب العسكري في مالي صارت تحت وطأة نموذج أفغانستان الضاغط الذي يستلهم منه الجهاديون فكرة إسقاط الحكومات المحلية المدعومة من الخارج بالكلية تمهيدًا للانفراد بالسلطة دون تسويات أو شراكة.
فرنسا تدرك أن طرحها المتعلق بالمشاركة في ائتلاف دولي يدعم القوات المحلية كبديل عن استراتيجية تدخلها السابقة لن يجد الاستجابة المرجوّة من العديد من الدول الغربية
العرب