تظهر على الساحة الدولية من حين لآخر العديد من التكتُّلات الدولية، والتي تكون إقليمية أو ذات طابع دولي، وتحاول الدول من خلال هذه التكتُّلات تعظيم مكاسبها الاقتصادية والسياسية أيضاً.
ويأتي تكتُّل دول “بريكس” Brics باعتباره أحد تلك التكتُّلات، وذلك في ظل موقف القوى التقليدية الكبرى – مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي – التي تحاول عرقلة أي محاولات لتقاسم النفوذ الدولي، بما في ذلك التمثيل في المؤسسات الدولية مثل الصندوق الدولي والبنك الدولي، حيث يتعارض ذلك مع استراتيجيتها ومصالحها في العالم. لذا، جاء سعي مجموعة “بريكس”، والتي تضم كل من: البرازيل والهند والصين وروسيا وجنوب أفريقيا، إلى ضرورة إحداث تغيير في هيكلية النظام الاقتصادي العالمي وبنيته التحتية، ومحاولة خلق واقع جديد في النظام الدولي، على أن يستتبعه تغيير في موازين القوى الدولية.
وفي هذا الإطار، يأتي الكتاب المُعنون: “بريكس والتعايش.. رؤية بديلة للنظام العالمي”، وشارك في تحريره كل من “Cedric de coning” المستشار في عمليات حفظ السلام، و”Thomas Mandrup” الأستاذ المساعد في كلية الدفاع الملكية الدنماركية، و”Liselotte odgaard”، وهي أستاذ مساعد في كلية الدفاع الملكية الدنماركية. وشارك في كتابة فصوله عدد من المتخصصين والباحثين والأكاديميين المرموقين. وقد الكتاب في عام 2015 عن مؤسسة “Routledge”، وذلك ضمن سلسلة معنية بالمؤسسات ذات الطابع العالمي.
يتناول هذا الكتاب الأُطر التاريخية المرتبطة بالدول المكونة لتكتُّل “بريكس”، وذلك من خلال استعراض بدايات ظهور التكتُّل، وتطوُّره، والهدف منه، ثم بحث رغبة دول المجموعة في إنشاء نظام عالمي جديد مغاير للنظام الحالي الذي يتسم بالهيمنة الأمريكية، وصولاً إلى تحديد مستقبل تكتُّل “بريكس” في ظل نوايا وأدوات كل دولة من دوله الخمس، ومدى قدرتهم على إحداث توافقات من شأنها أن تدفع المجموعة إلى الأمام.
“بريكس”.. البدايات والأهداف
ظهرت “بريكس” كمجموعة جاذبة للاقتصادات الناشئة، حيث بدأت المفاوضات بأربع دول هي: (البرازيل، وروسيا، والهند، والصين)، وأُطلق عليها حينذاك “بريك” منذ عام 2006. وبدأت الاجتماعات السنوية منذ عام 2008 حتى انضمت جنوب أفريقيا إلى التكتُّل في عام 2011، وتحول من (Bric) إلى (Brics).
ومنذ ذلك التوقيت تحوَّل التكتُّل من فكرة اقتصادية إلى ما هو أكبر من ذلك، حيث بات بمثابة تكتُّل سياسي في مواجهة الهيمنة أحادية الجانب في العالم من قِبل الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين؛ وبالتالي، فإن التكتُّل حاول خلق رؤية جديدة لنظام عالمي جديد، وذلك من خلال الجمع بين دول ذات أهمية استراتيجية في قارات العالم المختلفة، وتتقاسم دول البريكس أيضاً مخزوناً سلبياً إزاء ما يجري على هامش النظام الدولي القائم. لذلك، تأسست المجموعة من أجل تقديم رؤية مشتركة وموقف مُوحد إزاء القضايا الدولية المختلفة.
وفي هذا الإطار، يشير الكاتب “Cedric de coning”- في الفصل الأول من الكتاب- إلى أن تكتُّل “بريكس” يهدف إلى أن يكون تجمُّعاً استراتيجياً يتبنى رؤية بديلة للنظام الدولي، واضعاً مجموعة من المبادئ من أجل خدمة مصالح العالم النامي من خلال إبراز احترام سيادة كل دولة، والمساواة في حق كل دولة في إدارة النظام الدولي.
ويحاول التكتل تعزيز الدور الاقتصادي والمالي للدول الأعضاء فيه، وتشجيع مزيد من الرفاهية، وذلك من خلال آليات مثل “بنك بريكس للتنمية”، وتعزيز التجارة البينية بين الدول الأعضاء. كما يبرز الكاتب رغبة دول “بريكس” في توحيد ودعم مواقفهم في المنظمات الدولية القائمة مثل الأمم المتحدة وإزاء القضايا الأمنية، والحديث عن ضرورة دعم حق دول العالم في الاستفادة من البرامج النووية السلمية، ودعم التنمية في بلدان العالم المختلفة.
رؤية بديلة لبنية النظام العالمي
تشير “Adriana erthal abdenur” – الباحثة في مركز “بريكس” للسياسات، في الفصل الثاني من الكتاب، إلى أن السياسة الخارجية البرازيلية قائمة بالأساس على مبادئ متعلقة بالآتي: (احترام السيادة الوطنية وعدم التدخل، وحق تقرير المصير، ودعم التعاون الدولي والتعددية القطبية). وهذه المباديء هي التي يقوم عليها بالأساس تجمُّع “بريكس”، حيث تسعى البرازيل – من خلال “بريكس” – إلى دعم مصالح العالم النامي، وتأييد الحلول السلمية للمنازعات الدولية، وإيجاد نظام عالمي أكثر استقراراً. وفي السياق ذاته، فإن جنوب أفريقيا تحاول الترويح لسياستها الخارجية القائمة على تعزيز الإنسانية، ووضع الإنسان في المقام الأول، وذلك في إطارِ من القانون.
وفي الفصل الثالث أيضاً من الكتاب، يشير كل من “Flemming Splidsboel” – الأستاذ المساعد في جامعة كوبنهاجن، و”Alexander Sergunin” – الأستاذ في جامعة سان بطرسبرج، إلى أن سياسة روسيا الخارجية متوافقة مع أهداف مجموعة “بريكس”، حيث تسعى موسكو إلى تعزيز نظام عالمي جديد يمكن من خلاله للتكتُّل أن يؤدي أدواراً هامة في الأجندة السياسية الدولية وإدارة الملفات الأمنية.
كذلك فإن “بريكس” له أهمية اقتصادية كبيرة في ظل أن القوة الاقتصادية المجتمعة للدول المشكلة للتكتُّل تمثل حوالي 25% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، ونحو 15% من التجارة العالمية.
كما تطرق الكتاب إلى النمو السريع لمجموعة “بريكس”، والذي بلغ 4% كمتوسط في عام 2012، مقابل 0.7% فقط للدول السبعة الكبرى، هذا علاوة على إعلان التكتُّل إنشاء “بنك التنمية الجديد” برأسمال كبير بلغ مائة مليار دولار، تم تخصيصها للاستثمار في مشاريع البنية التحتية بالدول النامية.
وبالتالي، فإن روسيا تحاول من خلال تكتُّل “بريكس” إيجاد مؤسسة قوية تُضاهي المؤسسات الدولية القائمة التي تسيطر عليها الولايات المتحدة.
أما عن موقف الهند والصين، فقد تم تسليط الضوء عليهما في الفصل الرابع من الكتاب، حيث أوضح كل من Surupa Gupta” ” – أستاذ مساعد للعلوم السياسية والشؤون الدولية في جامعة ماري واشنطن بالولايات المتحدة، وShibashis Chatterjee”” – رئيس قسم العلاقات الدولية في جامعة جادفبور الهندية، أن الهند ارتأت في الانضمام إلى تكتُّل “بريكس” محاولة من أجل وجود نظام دولي متعدد الأقطاب، حيث تسعى نيودلهي إلى تعزيز نفوذها في العالم، وبالتحديد في الدول النامية، مع بذل مجهود دولي أكبر إزاء قضايا مثل الحدّ من التسلح والعدوان الدولي، وكذلك دعم سيادة الدول، بالإضافة إلى ضرورة دعم قضايا التنمية الاقتصادية والاجتماعية من أجل تحقيق مستقبل أفضل للهند بشكل خاص، وتطوير نظام عالمي عادل يخلق مستقبل أفضل للعالم أجمع.
وفي الفصل الخامس من الكتاب، يشير كل من “Liselotte odgaard” – أستاذ مساعد في كلية الدفاع الملكية الدنماركية، و”Zha daojiong”- أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي في جامعة بكين، إلى أن الصين تحاول من خلال تكتُّل “بريكس” مواجهة الهيمنة الأمريكية في السياسة الدولية، فضلاً عن عدم استخدام القوة في إدارة أي صراع دولي، بالإضافة إلى التركيز على قضايا الطاقة بشكل كبير.
وبناءً على ما سبق، يتضح أن الدول الخمس في مجموعة “بريكس” تجتمع على ضرورة استخدام التكتُّل كأداة من أجل تغيير النظام الدولي القائم، وتقديم رؤية بديلة لنظام عالمي متعدد الأقطاب يراعي المساواة والتنمية وتعزيز القانون بين الدول المختلفة.
مستقبل تكتُّل “بريكس” في النظام الدولي
يبرز الكتاب أن تكتُّل “بريكس” يحاول لعب أدوار أكثر حيوية على المستوى الدولي، وذلك من خلال إنشاء مؤسسة دولية توازن المؤسسات الاقتصادية الحالية، ومن أجل أن تكون أداة لتحرير العالم من الهيمنة الأمريكية وقيودها، لأن الولايات المتحدة الأمريكية تسيطر على المؤسسات الاقتصادية الدولية الحالية بشكل أساسي، سواء من حيث إداراتها أو سياساتها أو توجيه عملية اتخاذ القرار فيها، بما يعني أن النظام العالمي الحالي يعيش مرحلة تتسم بالفوضى السياسية والاقتصادية، وهو ما تسعى دول “بريكس” إلى إصلاحه.
وفي هذا الإطار؛ يشير الكتاب إلى أن “بريكس” عبارة عن نهج متعدد الأقطاب واستراتيجية للتعايش، متضمنةً أربعة مباديء أساسية، هي:
الاحترام المتبادل لسيادة الدول وأراضيها.
عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى إلا وفق قواعد ومعايير متفق عليها وفي إطار متعدد الأطراف.
تعزيز المساواة القانونية بين كل دول العالم.
تعزيز المنافع المتبادلة بين الدول، ودعم مسارات التنمية الوطنية.
أخيراً، يعتبر معدو الكتاب أن تكتُّل “بريكس” يعتبر من مظاهر التحولات في بنية النظام الدولي من نظام أحادي القطبية إلى نظام متعدد الأقطاب، كما يعد أحد الأدوات التي يمكن من خلالها مواجهة الهيمنة الأمريكية على المؤسسات الدولية الحالية. بيد أن الكتاب يرى أن ثمة اختلافاً بين الدول الخمس المكونة للتكتَّل في تحديد الأولويات فيما يتعلق بالمبادئ الأربعة الرئيسية السابق ذكرها، مؤكداً أنه يتحتم على هذه الدول تقليل فجوة الاختلافات في الرؤى فيما بينها من أجل الوصول إلى اقتراح مشترك بشأن النظام العالمي الجديد، وتحويل تلك المبادئ إلى ممارسات فعلية في السياسة الخارجية لهذه الدول بشكل يعكس موقف موحد لتكتُّل “بريكس”.
إعداد: أحمد عبدالعليم
* عرض مُوجز لكتاب: “بريكس والتعايش.. رؤية بديلة للنظام العالمي”، والصادر عام 2015 عن مؤسسة ” .”Routledge
Cedric de Coning, Thomas Mandrup
المصدر:
Cedric de Coning, Thomas Mandrup and Liselotte Odgaard (eds),The BRICS and coexistence: an alternative vision of world order, (New York: Routledge, 2015) pp 220.
نقلا مركز المستقبل للابحاث والدراسات المتقدمة