بينما يتواصل العد التنازلي في بغداد مع وعد الولايات المتحدة الأمريكية، سحب قواتها القتالية من العراق بحلول نهاية العام الحالي، يتساءل الكثير عمّن سيملأ الفراغ الذي تركته واشنطن، أو بمقدوره ذلك، لاسيما بعد مؤتمر بغداد الذي حضره الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ما يطرح تساؤل أكثر واقعية عما اذا كانت فرنسا التي طرحت نفسها لهذا الدور ستكون قادرة على تحقيق ذلك أم لا.
موقع “ميدل ايست آي” البريطاني، سلط الضوء على هذه المعطيات في تقرير له ترجمته وكالة شفق نيوز، إذ نقل عن مسؤولين عراقيين وأمريكيين قولهم إن “الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يريد أن يقدم فرنسا على انها داعم وحليف استراتيجي لحكومة بغداد، وأن القمة الاقليمية (مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة) التي عقدت في العاصمة العراقية، كانت مكانا مثاليا للبدء”.
توغل جديد
وقدم الموقع البريطاني، توصيفا لحال فرنسا، بالإشارة إلى علاقاتها الجيدة مع العراق، وإلى أنها كانت من اوائل الدول التي اعترفت بالنظام السياسي الجديد، رغم أنها رفضت المشاركة في التحالف العسكري الدولي بقيادة الولايات المتحدة للاطاحة بصدام حسين عام 2003، كما انها تحتل المرتبة الثانية بعد واشنطن في عدد الجنود المنتشرين في العراق، كجزء من التحالف الدولي ضد داعش، فضلا عن أنها عضو رئيسي في حلف الناتو.
وذكر الموقع في تقريره، أن “الانسحاب الأمريكي هو بالنسبة لفرنسا، فرصة للتوغل في العراق وخلق منصة انطلاق لتوسيع نفوذها في انحاء الشرق الأوسط، وتأمين توازن للنفوذ الإيراني، والتنافس مع تركيا، الحليفة في الناتو والتي غالبا ما تختلف معها”.
ونقل كذلك، عن مسؤولين عراقيين قولهم إن “الفرنسيين يعتقدون ان العراق بعدما مرت عليه عقود من الحرب والضعف والاضطرابات، فانه مستعد لاستقبالهم وتأمين قاعدة لهم لبناء جسور سياسية واقتصادية مع دول المنطقة”.
مؤتمر بغداد
وبحسب مسؤول عراقي فإن “مؤتمر بغداد للشراكة والتعاون” الذي عقد الأسبوع الماضي، شهد خطوة اطلاق هذه الخطة، فهو كان “البوابة الرسمية” التي دخلت فرنسا من خلالها إلى العراق لتقدم نفسها على انها شريك للحكومة العراقية في اهتماماتها وعلى انها راعية لمصالح العراق الاقليمية والدولية”.
وكان ماكرون قد أكد خلال مؤتمر صحفي أن “فرنسا ستحتفظ بوجودها في العراق لمحاربة الارهاب، مهما كانت الخيارات التي يتخذها الامريكيون”، وفقاً لـ”ميدل إيست آي”.
التراجع الأمريكي
ونقل الموقع عن مدير برامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في معهد الولايات المتحدة للسلام ايلي أبو عون، قوله “من الواضح أن فرنسا ترى فرصة في التراجع الامريكي، لكسب نفوذ سياسي واقتصادي في العراق، بعد فشلها في لبنان”، في إشارة الى محاولة فرنسا فرض تسوية سياسية واقتصادية في لبنان بعد تفجير المرفأ في بيروت العام 2020.
وأوضح أبو عون، أن “العراق قريب من تركيا وتبحث فرنسا عن اوراق للضغط على تركيا وتعزيز موقعها في صراعها المستمر في شرق البحر المتوسط وشمال أفريقيا، فرنسا لديها أجندة وتتابع ما تريده”.
مؤتمر بغداد مشروع فرنسي
وبحسب مسؤولين عراقيين، فإن مؤتمر بغداد كان في الأصل مشروعا فرنسياً، استند إلى فكرة تبناها رئيس الوزراء العراقي السابق عادل عبد المهدي وطُرحت للمناقشة من قبل الرئيس العراقي برهم صالح خلال زيارة إلى فرنسا في شباط 2019.
ونقل الموقع عن مسؤول عراقي مطلع على المشروع، قوله إن “عبد المهدي برغم زيارته إلى فرنسا بعد ثلاثة أشهر لبلورة الفكرة، إلا أنه تخلى عنها فيما بعد وتحرك نحو الصين، خوفا من اتهامه بالوقوع في أحضان فرنسا، لانه يحمل الجنسية الفرنسية، ولأنه غير مقبول إقليمياً”.
وذكر مسؤول عراقي آخر للموقع البريطاني، أن “الفكرة الأصلية كانت ايجاد حليف استراتيجي بديل للعراق ليحل مكان الولايات المتحدة بعد انسحابها”.
وبعدما لفت الموقع، إلى أن العديد من القوى السياسية، بما في ذلك بعض القوى المدعومة من إيران، تشعر بالقلق من فكرة الانسحاب الأمريكي الكامل من العراق، نقل عن المسؤول العراقي قوله إن “القادة العراقيين كانوا، ومازالوا، يبحثون عن قوة يمكنها توفير توازن موضوعي ضد النفوذ الإيراني في العراق والمنطقة”.
وبين المسؤول، وفقا للموقع، أن “ما من أحد يريد أن يسقط بالكامل في المستنقع الإيراني، الايرانيون انفسهم لا يرغبون في ان يكونوا مسؤولين عن كل ما يحدث في العراق، ويبحثون عن شركاء في الغنائم والخسائر”.
وتابع الموقع أن “الفرنسيين تلقفوا فكرة عبد المهدي وطوروها، ثم طرحوها كمبادرة بعنوان (دعم سيادة العراق) التي أعلنها ماكرون خلال زيارته السابقة للعراق في أيلول 2020، كما انه كان من المفترض ان يعقد هذا المؤتمر في باريس، حيث اراد الفرنسيون ان يكونوا منظمي اللقاء، لكن بعد توسيع المؤتمر ليشمل عددا من الاطراف المتنافسة إقليميا، تم نقله الى بغداد وأعيد صياغته كحدث يركز على الاستقرار في الشرق الأوسط”.
كما نقل الموقع، عن أحد أعضاء فريق رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي قوله “برغم أن فرنسا ليس لها علاقة عمليا بالمؤتمر في شكله النهائي، ومشاركتها ليس لها ما يبررها، إلا أن العراقيين لم يتمكنوا من استبعادها لأن الفكرة الاصلية كانت لديهم”، مضيفاً أن “ما أراده العراق هو العودة الى لعب دور الوسيط، وأراد الفرنسيون أن يكون هذا المؤتمر بمثابة تذكرة عودتهم الى المنطقة من خلال العراق”.
وأشار المصدر الى أن فرنسا قُدمت على أنها “رئيسة مشاركة” للمؤتمر، إلا ان الحقيقة هي أن “العراقيين هم الذين نظموا كل شيء، وتجمع كل هؤلاء (الدول المشاركة) كان ثمار جهود الكاظمي وعلاقاته”.
اقتتال داخلي
وحول احتمال ظهور سيناريو متكرر في العراق على غرار ما جرى في أفغانستان، أفاد موقع “ميدل ايست آي” في تقريره، بأن “السيناريو الأسوا بالنسبة لغالبية القوى السياسية غير المرتبطة بإيران هو ما يسمونه الفوضى المتعددة، التي قد تقود الى اندلاع اقتتال بين الشيعة أنفسهم، وفي صفوف الكورد، وأن مثل هذه الصراعات ستؤدي في نهاية الامر الى تقسيم سياسات البلاد وفق خطوط طائفية وعرقية”.
وذكر الموقع أيضاً أن “النظام السياسي في العراق لم يحصل على شرعيته من خلال الانتخابات، وانه يستمد الشرعية التي يمنحها المجتمع الدولي له”، مضيفاً أن “تهديد شرعية النظام بايصال الولايات المتحدة والمجتمع الدولي الى استنتاج مفاده أن العراق اصبح بمثابة قضية خاسرة وانه لا فائدة من الاستمرار في دعمه، سيعني انهيار هذا النظام وتحول العراق إلى دولة طوائف”، وفقاً لمصدر في فريق الكاظمي.
وتابع المصدر تحذيراته قائلاً إن “العراق معرض لفوضى سياسية وشعبية واسعة النطاق، في ظل الانسحاب الامريكي الكامل وخسارة إيران سيطرتها على وكلائها في العراق”.
وأوضح أن “هذه الفوضى تعني اندلاع صراع دموي بين المجموعات الطائفية والسياسية، وان تقسيم العراق قد يكون النتيجة الحتمية من هذا المستوى من الصراع”.
لكن الموقع اشار في تقريره إلى أن “غالبية السياسيين والمسؤولين العراقيين ليسوا قريبين من هذا التشاؤم”، موضحا أن مثل هذا السيناريو الفوضوي غير مرجح لأن “معظم القوى السياسية العراقية كانت على علم بالتحديات القادمة التي سياتي بها الانسحاب الامريكي وتعمل على إيجاد مصادر بديلة للقوة لتحقيق التوازن”.
عباءة إيران
وأفاد التقرير أيضاً، بأن “من بين أبرز هذه القوى تيار مقتدى الصدر، وتيار الحكمة بقيادة عمار الحكيم، وتحالف النصر بزعامة رئيس الوزراء الاسبق حيدر العبادي، بالإضافة الى عدد من القوات المقربة من المرجع الديني في النجف علي السيستاني، إلى جانب الكاظمي والرئيس برهم صالح”.
ونقل الموقع عن أحد قادة الحكمة قوله إن “هذه القوى تمثل نواة تحالف سياسي كبير قد يتشكل بعد الانتخابات البرلمانية في تشرين الاول المقبل، لتشكيل الكتلة الاكبر وتسمية رئيس الوزراء المقبل”.
وتابع القيادي في تيار الحكمة قوله إن “هذه القوى ستقود العراق نحو تعزيز سيادته والخروج تدريجيا من تحت عباءة إيران، مع محاولة ايجاد بديل للولايات المتحدة لخلق التوازن المنشود في العراق والمنطقة”، مشيراً إلى أن “فرنسا تعتبر بمثابة لاعب دولي مقبول إقليمياً، وهي القوة الثانية في الاتحاد الأوروبي ولا ترفضها إيران، وهذا أمر مهم للغاية”.
وقال مسؤولون وسياسيون انه برغم السيطرة القوية لطهران وواشنطن على العراق منذ العام 2003، الا انهما باتا لا يتمتعان بشعبية وتأثير سياسي مثلما كانا من قبل، وفقا لـ”ميدل إيست آي”.
وتابع التقرير، نقلا عن مسؤولين عراقيين وأمريكيين قولهم إن “في ظل ما يبدو انسحابا امريكيا من المنطقة، فإن السياسيين والمسؤولين العراقيين يسعون إلى إقامة حالة توازن في بلدهم معتقدين انه يمكن تحقيقها من خلال تحويل العراق الى “نقطة التقاء” للاعبين الإقليميين”.
وأوضح مسؤولون أميركيون وعراقيون، للموقع البريطاني، أن ذلك يمكن ان “يعزز قوة ونفوذ” عدد من القوى الإقليمية والدولية من خلال انشاء مصالح مشتركة فيما يكون العراق في الوسط”.
لاعب أساسي
ونقل الموقع أيضاً، عن السفير الأمريكي السابق في بغداد، دوغلاس سيليمان قوله إن “العراق يسعى الى تصوير نفسه كلاعب رئيسي في المنطقة، وقد سعت العديد من الحكومات العراقية الى القيام بهذا الدور في السابق، وبذل الكاظمي جهودا كبيرة من اجل ان يلعب العراق دورا اقليميا ايجابيا”، مضيفاً أن “استقرار العراق يمكن أن يكون أساس استقرار المنطقة وازدهارها”.
وتابع سيليمان “هذا الدور مهم جدا للعراق من الناحية الجيوسياسية”، مبيناً أن “الفكرة تتمثل في أن يكون العراق منطقة للتوافق واستقرار لدول المنطقة بدلا من ان يكون منطقة نزاع كما حصل في السنوات الماضية، وان “اهم ما تحقق في هذه القمة هو اللقاءات الثنائية الصغيرة التي جرت على هامش مؤتمر بغداد، وهد المؤتمر الارضية والاجواء المناسبة لبدء حوارات بين الاطراف المتصارعة، وهذا هو المهم”.
الدور الأمريكي
وختم التقرير بالاشارة إلى أن “انسحاب واشنطن من العراق لن يشبه انسحابها من افغانستان”، مذكرا بان واشنطن ستظل تقدم دعما استخباراتيا وجويا للعراق”.
ونقل الموقع عن مسؤولين امريكيين وعراقيين قولهم إن “الاهم من ذلك، ان الاتفاقية الموقعة بين حكومة الكاظمي وادارة بايدن تسمح للقوات الامريكية بتنفيذ عمليات عسكرية داخل العراق اذا طلبت الحكومة العراقية ذلك”.
وقال مسؤول امريكي مطلع على تفاصيل الاتفاقية، لـ”ميدل إيست آي”، إن “جميع العمليات العسكرية التي تشارك فيها القوات الامريكية ستتوقف مع نهاية العام 2021 ، لكن اذا احتاجت الحكومة العراقية الى مساعدة مثل الطيران او المخابرات فسيتم توفيرها من خارج العراق”.
وأضاف أن “تحليل البيانات الاستخباراتية والطائرات المقاتلة والطائرات المسيرة لا تحتاج الى ان تكون على الارض، ولهذا وافقنا على اقتراح الكاظمي بسحب القوات المقاتلة المتبقية في العراق، على الرغم من ان اعدادهم لا تتجاوز العشرات”.
الدور الفرنسي
أما بالنسبة لفرنسا، فانه من المرجح ألا يكون المستقبل في العراق زاهيا مثلما تريد ان تصدق، وقال السياسيون والمسؤولون للموقع البريطاني إن “باريس لا تمتلك المقومات الصحيحة للنجاح على المدى القصير”.
وعاد أحد أعضاء فريق الكاظمي ليؤكد للموقع البريطاني، أن “الفرنسيين لن ينجحوا في ملء الفراغ الذي قد تتركه الولايات المتحدة في العراق”، مضيفا “إنهم يسعون فقط من اجل تحويل المساحة المتاحة لهم، إلى موطئ قدم للتوسع في الشرق الأوسط”.
ومن وجهة نظر الفرنسيين، فإن المنطقة حاليا ناضجة وجاهزة لاستقبالهم لأن العراقيين مرهقون وبلدهم في حالة خراب وسوريا في حالة خراب واليمن شبه خراب وهو ما يعني أن هناك حوالي 250 مليون شخص يحتاجون إلى الاعمار سياسياً ومالياً”.
وختم المصدر بالقول إن “الكاظمي سمح لفرنسا بالمشاركة في مؤتمر بغداد من باب الاحترام لدور فرنسا في تنظيمه في المقام الأول، لكن المؤتمر كان أساساً يتعلق بتعيين الكاظمي، لا ماكرون، كوسيط إقليمي وفوزه بولاية ثانية في السلطة، ليعود الموقع البريطاني إلى التساؤل “إلى أي درجة سينجح أي منهما ؟ هو ما ستجيب عليه الأيام القادمة.”
شفق نيوز